فن انقلاب بوتين الزائف على نفسه
13.07.2023
ريبيكا كوفلر
فن انقلاب بوتين الزائف على نفسه
ريبيكا كوفلر
الشرق الاوسط
الأربعاء 12/7/2023
في الوقت الذي كان أعضاء حلف الناتو يستعدون للتجمع في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، الاثنين، لمناقشة مصير أوكرانيا، في خضم الحرب الدامية التي تجاوزت قريباً الـ500 يوم، وردت أنباء صادمة.
لقد التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة “فاغنر”، الذي قاد في وقت قريب ما سُمي “انقلاباً” ضد المؤسسة العسكرية الروسية. عقد الاجتماع في 29 يونيو (حزيران)، أي بعد خمسة أيام فقط من التمرد المزعوم الذي لم يدم طويلاً. الصدمة الأكبر أن أحداً في وسائل الإعلام الغربية لم يسأل نفسه سؤالاً واضحاً: لماذا يقدم رجل روسيا القوي، الذي يطارد الخونة في شتى أنحاء العالم، على الجلوس ثلاث ساعات مع شخص ارتكب تواً جريمة الخيانة ضد روسيا الأم؟
وفي حين أقر معظم المعلقين بأن كثيرا من الأمور بدت غريبة، وافتقرت إلى الاتساق مع بعضها البعض بخصوص “الانقلاب”، فإنهم سارعوا بسعادة لترديد الرواية التي تقول إن التمرد في حد ذاته كان أمراً جيداً، لأنه ألحق الوهن بنظام بوتين. بيد أن “الخبراء” بذلك تجاهلوا الأدلة التي تشير إلى أن الانقلاب كان زائفاً.
بدأ يفغيني بريغوجين، أحد أكثر حلفاء بوتين الموثوق بهم وقائد مجموعة “فاغنر” الشهيرة، التي سميت على اسم ملحنه المفضل، ريتشارد فاغنر، “مسيرة إقرار العدالة” في وقت متأخر من ليلة الجمعة من أوكرانيا باتجاه روسيا. وبعدما لم يقابلوا أدنى مقاومة، وصل “الموسيقيون”، مثلما يطلق مرتزقة “فاغنر” على أنفسهم، مدينة روستوف - أون - دون الروسية، في ساعة مبكرة من صباح السبت؛ حيث احتلوا المقر الرئيسي للمنطقة العسكرية الجنوبية، وهو مركز قيادة وتحكم رئيسي على صلة بالحرب في أوكرانيا. وبحلول مساء السبت، وصلت قوات “فاغنر” إلى مسافة كيلومترات قليلة من بوابات موسكو، دون وقوع إصابات.
بعد ذلك، بدل بريغوجين رأيه على ما يبدو، وخرج ليعلن أن هدفه كان فقط “الاحتجاج”، وليس “إسقاط الحكومة”، وأمر مقاتليه بالتنحي لتجنب “إراقة الدماء بين الإخوة”. ومن المفترض أن رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، تحدث إلى بريغوجين وأقنعه “بالعودة من عند الحافة”، وعرض عليه ملاذا في بلاده. في المقابل، أسقط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، الذي يعد خليفة الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي)، الدعوى الجنائية ضد بريغوجين تقريباً بالسرعة نفسها التي أقامها بها. وأعلن بوتين أن قوات “فاغنر” - التي من المفترض أنها تورطت تواً في الخيانة - بمقدورها “العودة للوطن” و”توقيع عقود مع وزارة الدفاع”، أو “التوجه إلى بيلاروسيا”، ووجه الشكر إلى أولئك الذين اعترفوا بوقوعهم في “خطأ مأساوي”.
في ثلاثاء ذلك الأسبوع، رحب لوكاشينكو ببريغوجين و”موسيقييه” الذين لا يعرفون الرحمة في بيلاروسيا، ووضعهم في قاعدة عسكرية مهجورة: “هناك سياج، كل شيء متاح، أقيموا خيامكم”.
الأربعاء، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن بريغوجين سعى لخطف كبار القادة العسكريين الروس، على رأسهم وزير الدفاع شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، نقلاً عن مسؤولين أميركيين بصفتهم مصادر.
وفي اليوم نفسه، أعلن الرئيس بايدن أن بوتين ضعيف “تماماً” بعد الانقلاب، مؤكداً أنه “من الواضح أنه يخسر الحرب في العراق”.
ولكن بعد ذلك قال لوكاشينكو، الذي من المفترض أنه تفاوض على نهاية الانقلاب، للصحافيين البيلاروسيين والدوليين خلال مؤتمر صحافي يوم الخميس التالي، إن بريغوجين، لم يكن في بيلاروسيا، بعد كل شيء، إذ قال: “لماذا توجهون الأسئلة لي عن مكان مجموعة (فاغنر) العسكرية الخاصة وقائدها اليوم؟ أنتم تعلمون جيداً أنها شركة روسية، ولذا فإنه من الواضح أنه لا ينبغي توجيه هذه الأسئلة إليّ، وبدا أن لوكاشينكو يسخر من الصحافة حينما قال: بالنسبة إلى يفغيني بريغوجين فهو في سانت بطرسبورغ، ولكن أين يوجد هذا الصباح؟ ربما ذهب إلى موسكو، أو ربما إلى مكان آخر، لكنه ليس على أراضي بيلاروسيا”.
وبصفتي ضابط استخبارات سابقاً في وكالة استخبارات الدفاع الأميركية وقد كنت متخصصة في دراسة عقلية بوتين وفن الحكم الروسي، فإنني أقدّر أن الأمر كان خدعة وهو ما يسميه محللو المخابرات “عمليات الراية المزيفة” (أو العَلَم الكاذب).
وهذا بسبب أن لا شيء مما حدث يبدو منطقياً، فكرة غزو جيش روسي والتسابق حتى دخول موسكو ولا يصاب أحد بأذى!! فقد استطاعت “فاغنر” من خلال بضعة آلاف من الرجال فقط، تحقيق ما لم يكن هتلر قادراً على تحقيقه مع ما يقرب من مليون رجل، كما أنه من الواضح أن بوتين قد أوقف تحرك جيشه، ثم بعد ذلك، ورغم اقتراب رجاله من موسكو، يقرر بريغوجين التراجع ويتوجه إلى بيلاروسيا.
كان بريغوجين سيكون غبياً أو شخصاً انتحارياً ليعتقد أنه يمكنه غزو موسكو وخطف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف من خلال 8 آلاف رجل فقط، ولكن على العكس من ذلك، فزعيم “فاغنر” رجل ذكي للغاية، حتى إن أسلوبه شيطاني، فقد تحول من شاب جانح مُدان ثم بائع نقانق إلى الرئيس التنفيذي لشركة إمداد غذائي يبلغ رأس مالها ملايين الدولارات تعمل لخدمة الكرملين، ثم قائد لأقوى مجموعة مرتزقة في العالم.
فمن غير المعقول أن يكون بريغوجين قد اعتقد أنه يمكن مواجهة روسغفارديا، الحرس الوطني الروسي، وهي قوة أمنية محلية قوامها 340 ألف فرد تتبع بوتين بشكل مباشر.
كما أنه كانت هناك لقطات لبريغوجين وهو جالس على مقعد في مدينة روستوف - أون - دون، وهو يمزح بشكل ودي مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف ونائب رئيس المخابرات العسكرية الروسية الجنرال فلاديمير أليكسييف، بشكل يبدو ودياً للغاية بالنسبة لحدوث تمرد حقيقي.
وتبدو فكرة أن بريغوجين لا يزال على قيد الحياة، بعد خيانته المفترضة لروسيا، أمراً لا يمكن تصوره في ظل حكم بوتين، الذي كان قد صرَّح في عام 2019 بأن “الخيانة هي أكبر جريمة على وجه الأرض” والذي يطارد الخونة في أي مكان في العالم، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة.
ولكن لماذا قد يقوم بوتين بمثل هذه الخديعة؟
يستعد رجل روسيا القوي لإعادة انتخابه في 17 مارس (آذار) 2024، مع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق للحرب الروسية الأوكرانية، ولذا فإنه يتعين على بوتين إقناع الروس بضرورة تحمل المزيد من التضحيات، وذلك من أجل الحفاظ على الدعم الشعبي واستخدام قوات كافية لإجبار القادة الأميركيين والأوروبيين على التوقف عن تمويل كييف ودفع زعيمها، فولوديمير زيلينسكي، للتفاوض على تسوية تحتفظ موسكو بموجبها بجزء من الأراضي الأوكرانية.
وقد حقق بوتين ذلك من خلال استخدام اثنين من المخاوف الأساسية للشعب الروسي في خطابه لهم بعد “الانقلاب” مباشرة وهما الغزو من الغرب والفوضى؛ حيث أكد أن الغرب كان وراء تمرد بريغوجين الذي شبهه بثورة 1917.
ويعلم بوتين جيداً أنه إذا كنت تريد تخويف مواطن روسي فعليك بإخباره بأنه سيعاني من رعب وفوضى الثورة البلشفية مرة أخرى؛ حيث أصبحت هذه المزاعم ذريعة للرئيس الروسي لاكتساب مزيد من السلطة.
وأعلن بوتين عن بدء عملية لمكافحة الإرهاب، وهي العملية التي تتطلب تدابير أمنية مشددة، بما في ذلك المراقبة المستمرة لاتصالات المواطنين.
كما تراجع الرئيس الروسي عن القاعدة التي تحظر على أصحاب السوابق الإجرامية الالتحاق بالجيش، الأمر الذي سيمكنه من إجراء تعبئة عسكرية إضافية، وبعدها هتفت وسائل الإعلام الروسية للزعيم الغالي لإنقاذه روسيا الأم وطرده الخونة.
وكما هو متوقع، فإن ما عده الروس قوة، بالنظر إلى تمكن بوتين من سحق تمرد مسلح كبير، فسره الإعلام الغربي وخبراء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه ضعف، وهذا هو ما كان يريده الرئيس الروسي، فالتصور السائد في الغرب بأنه ضعيف وأن جيشه غير كفء يشير إلى أن الغرب لا يحتاج إلى تقديم كثير من المساعدة لأوكرانيا، وهو هدفه الرئيسي، كما أنه يلغي حجة أولئك الموجودين في أوكرانيا الذين يسعون إلى التأكيد على أنه بمجرد انتهاء حرب بوتين هناك، فإنه سيبدأ مسيرة جديدة نحو لاتفيا، وبولندا، وأماكن أخرى.
لقد أدركت المخابرات الروسية بالفعل مدى ضعف الدعم في الولايات المتحدة لعمل حفرة لا نهاية لها من التمويل لأوكرانيا من أموال دافعي الضرائب.
كما يرغب بوتين في تذكير العالم بأنه كلما استمرت الحرب في أوكرانيا، زادت فرصة حدوث عواقب غير متوقعة، مثل هرمجدون النووية، فعندما كانت قوات بريغوجين في طريقها إلى موسكو، كان المعلقون قلقين بشأن الفوضى التي قد تنتج عن ذلك، ومَن الذي يتحكم في الأسلحة النووية الروسية.
ويوم الخميس، ذكرت وسائل الإعلام الغربية، نقلاً عن مدونين عسكريين روس، أن كبار الجنرالات الروس مثل غيراسيموف وسوروفيكين قد فُقدوا بعد تمرد “فاغنر”.
سيرغي سوروفيكين، الملقب بـ”الجنرال هرمجدون” وذلك لأسلوبه الهمجي، هو نائب قائد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، أما غيراسيموف فهو صاحب واحدة من ثلاث حقائب بوتين النووية، ولكن يوم الاثنين الماضي، ظهر غيراسيموف من جديد، الذي يُفترض أنه كان مستهدفاً في تمرد “فاغنر”.
وهناك عقيدة كاملة في العلوم العسكرية الروسية تسمى التحكم الانعكاسي، وهي مُصممة لخداع العدو من خلال تزويده بمعلومات من المحتمل أن يصدقها بسبب تحيزه الموجود مسبقاً، ويبدو أن فريق بايدن موجود هناك بالفعل.
وفي غضون ذلك، استغلت مجموعة فاغنر رحلتها إلى موسكو لتهبط في بيلاروسيا، التي تلقت لتوها هدية أسلحة نووية تكتيكية من بوتين، وهو ما يشير إلى هدف محتمل آخر لعملية العَلَم الكاذب: فتح جبهة ثانية إلى شمال أوكرانيا لتهديد الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأسلحة هرمجدون بشكل مباشر.
ويبدو أن ذلك يجري في الوقت المناسب تماماً في أثناء قمة الناتو في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، بحضور الرئيس بايدن وكبار القادة الغربيين، ولكن هذه المرة، يقوم بوتين بذلك باستخدام القوة القتالية الأكثر فاعلية في روسيا.
* المسؤولة السابقة في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية