الرئيسة \
تقارير \ المرحلة الانتقالية في سورية بين الدبلوماسية وتحصين الجبهة الداخلية
المرحلة الانتقالية في سورية بين الدبلوماسية وتحصين الجبهة الداخلية
23.09.2025
فيصل يوسف
المرحلة الانتقالية في سورية بين الدبلوماسية وتحصين الجبهة الداخلية
فيصل يوسف
العربي الجديد
الاثنين 22/9/2025
شكّل سقوط النظام السابق قبل عشرة أشهر نهايةً لحقبة طويلة من الاستبداد والعزلة الدولية في سورية، وفتح الباب أمام مرحلة انتقالية بالغة التعقيد والحساسية. تحوّلت العاصمة دمشق إلى محطة رئيسية لتوافد الوفود الدولية والإقليمية والعربية، في مؤشّر على رغبة المجتمع الدولي في طي صفحة الماضي وبناء علاقات جديدة مع سورية. لم تكن هذه الزيارات بروتوكولية فحسب، بل أفضت إلى مفاوضاتٍ مكثفةٍ حول ملفات سياسية واقتصادية وأمنية، وتوقيع تفاهمات أولية. كما تصاعدت الدعوات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى بحث مشاريع تدريجية لرفع العقوبات، بينما أعلنت دول خليجية استعدادها للمساهمة مباشرة في إعادة الإعمار وتمويل برامج التعافي المبكّر، بل تكفلت بدفع رواتب عشرات آلاف من موظفي الدولة في خطوة تهدف إلى إنقاذ ما تبقى من مؤسّسات الدولة المنهكة.
لا يكون الوطن جامعاً وقوياً، إلا حين يشعر كل فرد بأنه شريك كامل في وطن يحترمه ويكفل له حقوقه
تحمل هذه التطورات فرصة تاريخية للشعب السوري الذي عانى طويلاً حكم الفرد الواحد ومن القمع الممنهج الذي واجه الثورة الشعبية بكل أدوات البطش، وصولاً إلى العقوبات الدولية التي عزلت البلاد وشلّت حركتها الاقتصادية والسياسية. غير أن المراقب المحايد يلحظ مفارقة فاقعة، فبعد عدة أشهر على تشكيل الحكومة الانتقالية، لم يلمس المواطن تحسّناً ملموساً في حياته اليومية، فأسعار السلع في ارتفاع مستمر، والبنية التحتية ما تزال مدمّرة، والكهرباء شحيحة، والبطالة تتسع ولا تزال دوائر الدولة في حاجة إلى الكثير كي تمارس دورها المأمول. وعلى المستوى الوطني، ما زال وضع المكوّنات القومية والدينية والطوائف معلقاً بين الخوف والتطلعات، بل لم يحرز مسار توحيد الشعب السوري، الذي يفترض أن يكون المدخل الأساسي لحل الأزمات، تقدماً يُذكر. على العكس، تعزّزت محاولات الدفع نحو تقسيم المجتمع سياسياً وطائفياً عبر خطاب "الأكثرية" و"الأقليات" والتحريض وثقافة الكراهية، ما يهدّد النسيج الوطني والسلم الأهلي. وما شهدته السويداء والساحل السوري من أحداث دامية يقدّم مثالاً مقلقاً على خطورة هذا المنحى.
ولا تزال القوات الأجنبية متمركزة على الأراضي السورية، ما يطرح سؤالاً جوهرياً عن مدى تحقق السيادة الفعلية في هذه المرحلة الحرجة. كانت البيانات الصادرة عن مؤتمرات العواصم المؤثرة، من الرياض وعمّان وباريس، مروراً بجامعة الدول العربية، واضحة منذ البداية: فتحسين العلاقات مع دمشق ورفع العقوبات ودعم إعادة الإعمار كلها مشروطة بخطوات إصلاحية جذرية وملموسة. وأعاد بيان مجلس الأمن عقب أحداث السويداء التذكير بمرجعية قرار المجلس 2254 للحل السياسي في البلاد، والذي لا يقتصر على تنظيم انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، بل يشكل إطاراً شاملاً لعملية انتقال سياسي حقيقي، يضمن حقوق جميع السوريين ويؤسّس لدولة مدنية ديمقراطية تعدّدية.
وهنا يتضح التحدي الأكبر أمام الإدارة الانتقالية، فزيارة وزير الخارجية العواصم الإقليمية والدولية، ومشاريع رفع العقوبات، والحدث التاريخي المتمثل في توجّه الرئيس أحمد الشرع إلى نيويورك لإلقاء كلمة سورية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، جميعها محطات مفصلية ذات وزن رمزي وسياسي كبير. لكنها ستظل خطوات شكلية إذا لم تترافق مع إعلان واضح وصريح من دمشق عن مشروع إصلاحي جذري ومتكامل يضع مصلحة السوريين بكل مكوناتهم فوق أي اعتبارات أخرى.
فالوطن لا يكون جامعاً وقوياً، إلا حين يشعر كل فرد بأنه شريك كامل في وطن يحترمه ويكفل له حقوقه. مستقبل سورية مرهون ببناء نظام ديمقراطي لا مركزي، يمكّن جميع أبنائها أفراداً ومكوّناتٍ من ممارسة حقوقهم القومية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية من دون تمييز. والإصلاح المطلوب ليس مجرّد تعديل في بعض القوانين، بل عملية شاملة تعيد إلى الشعب حقه في أن يكون صاحب القرار داخلياً وخارجياً، ومحاسبة مرتكبي الجرائم في الساحل والسويداء ومار إلياس، وتأمين عودة آمنة للمهجّرين إلى ديارهم، بما في ذلك من جرى تهجيرهم من رأس العين (سري كانيه) وعفرين. وهذا يستلزم شجاعة سياسية والاستفادة من مضامين مؤتمرات المعارضة خلال سنوات الثورة، وبشكل خاص بيان مؤتمر الرياض2 الذي أقرّته قوى المعارضة السورية مرجعية للتفاوض مع النظام السابق برعاية دولية، بوصفه خريطة طريق متوازنة تعيد إلى سورية وحدتها ودورها الإقليمي، وتحقق حلم مواطنيها في دولة قائمة على الكرامة والعدالة والدعوة إلى مؤتمر وطني، تنبثق عنه لجان حول معالجة مختلف القضايا العالقة في البلاد.
وعلى الصعيدين، الإقليمي والدولي، سورية الجديدة مُطالَبة بالتعامل بواقعية مع الملفات الشائكة، وفي مقدّمتها قضية الاحتلال الإسرائيلي للجولان. تقتضي الحكمة الفصل بين الملفات وعدم خلط الأوراق، والاحتكام إلى الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة، والاستفادة من تجارب مصر والأردن في إدارة هذا الملف المعقد مع الحفاظ على السيادة الوطنية. يعزّز مثل هذا النهج موقع سورية على الساحة الدولية، ويكسبها احترام الشركاء الإقليميين والدوليين وأشقائها العرب.
كلمة الرئيس الشرع المرتقبة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك ستكون في غاية الأهمية، مناسبة لإعلان الإدارة الانتقالية نياتها وخططها بشكل واضح ومحدّد
لم يعد الجيل السوري الجديد، الذي عايش الاستبداد وأهوال الحرب ومرارة اللجوء وقسوة التهميش، يقبل الشعارات الأيديولوجية القديمة التي كانت السبب في الفساد والسلطة المطلقة. يتوق هذا الجيل إلى وطن يتيح له العيش بكرامة وأمان، وإلى اقتصاد منتعش يوفر فرص عمل، وإلى هوية وطنية جامعة، تحترم التنوع وتضمن المساواة بين جميع المكونات. ومن هنا تبرز أهمية تبنّي نموذج اللامركزية بما يتناسب مع واقع سورية دولة متعدّدة القوميات والأديان والطوائف، وهو صيغة متوازنة تمكّن المناطق من إدارة شؤونها المحلية مع الحفاظ على وحدة الأرض والشعب والهوية الوطنية الجامعة، ومعالجة القضية الكردية باعتبارها قضية وطنية لشعب أصيل يعيش على أرضه منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة.
في هذا السياق، كلمة الرئيس أحمد الشرع المرتقبة التي سيلقيها في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في غاية الأهمية، لأنها ستكون مناسبة كي تعلن الإدارة الانتقالية نياتها وخططها بشكل واضح ومحدّد. لأن العالم سيبحث عن إشارات واضحة، تدل على إدراك دمشق طبيعة اللحظة التاريخية واستعدادها للشروع في انتقال سياسي حقيقي قائم على جوهر قرار مجلس الأمن 2245. عندها فقط يمكن للزيارات الدبلوماسية ومشاريع رفع العقوبات أن تتحول من رمزية سياسية إلى مكاسب ملموسة تنعكس على حياة السوريين، وعندها فقط يمكن الحديث عن عودة سورية إلى محيطها العربي والإقليمي والدولي، وولادة جمهورية جديدة قوية بشعبها، متمسّكة بوحدتها الوطنية، وقادرة على طي صفحة الاستبداد وبناء مستقبل يستحقه السوريون جميعاً.
تحصين الجهد المبذول دبلوماسياً للانتهاء من موروثات النظام البائد وتعزيز دور سورية دولة ذات وزن واحترام، مرهون بمعالجة الأوضاع الداخلية والتفرّغ لمتطلبات الشعب الخدمية والسياسية والاقتصادية.