المخاض السوري... تغيّر جيوسياسي عاصف
07.08.2025
علي العبدالله
المخاض السوري... تغيّر جيوسياسي عاصف
علي العبدالله
العربي الجديد
الاربعاء 6/8/2025
قاد فشل الحملة العسكرية التي جرّدتها وزارتا الداخلية والدفاع السوريتان على محافظة السويداء إلى تغيّر في توازن القوى الداخلي في غير صالح السلطة السورية الجديدة، أضعفها وحدّ من قدرتها على مواجهة ملفّات داخلية عالقة، وتحدّياتٍ إقليمية ضاغطة، وأدخل المجتمع السوري في حالة إرباكٍ وقلقٍ شديدَين. لم يكن رضوخ السلطة السورية الجديدة للضغوط الصهيونية، وسحب قواتها من محافظة السويداء بذريعة تجنّب حربٍ مفتوحة مع قوات الكيان، والتزامها بإخلاء محافظات الجنوب من قوات عسكرية تحميها وتحفظ الأمن والاستقرار فيها، تنفيذاً لقرار حكومة الكيان الصهيوني إبقاء مساحاتٍ واسعة من الأرض السورية منزوعة السلاح... لم يكن ذلك حدثاً عابراً، بل حدثاً بالغ الخطورة في ضوء ما انطوى عليه من تسليم بدور للكيان الصهيوني في الشؤون الداخلية السورية، غدا به جزءاً من المعادلة الداخلية. ومع رفض الكيان الصهيوني نشر دفاعات جوية ورادارات في الأرض السورية كلّها، تعوق حرّية عمل طائراته في الأجواء السورية، ستبقى البلاد عرضة للانتهاك الدائم.
أطلقت هذه الهزيمة العسكرية هزّاتٍ ارتدادية من الوزن الثقيل، بدءاً من قبول السلطة السورية الجديدة منح محافظة السويداء حكماً ذاتياً ضمنياً عبر التسليم للمحافظة بإدارة شؤونها الأمنية، وقوات محلّية تحفظ الأمن، وموظّفون من أبناء المحافظة يديرون مؤسّساتها المدنية، في حين تقدّم السلطة الرواتب والموارد المالية والتقنية والمحروقات لقطاعات الصحّة والتعليم والكهرباء والماء، وفق ما تسرّب من مفاوضات وزير خارجية السلطة أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية في الكيان الصهيوني رون ديرمر (في باريس)، سابقة ستمنح الإدارة الذاتية شمالي وشرقي سورية، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ذريعة للتمسّك بمطالبهما في الإبقاء على هياكل الإدارة الذاتية القائمة، وعلى قوات "قسد" في وضعها الحالي. وهذا ما حصل، إذ تواترتْ تصريحات مسؤولين في الإدارة الذاتية (إلهام أحمد وفوزة يوسف وسيهانوك ديبو) وقادة في "قسد" (الجنرال مظلوم عبدي وفرهاد شامي)، تؤكّد تمسّكهم بمكاسبهم السابقة، ورفضهم تسليم السلاح والاندماج في جيش وزارة دفاع السلطة أفراداً، وربطهم تحقيق ذلك بإقامة نظام سياسي لامركزي، وضمان حقوق كرد سورية دستورياً.
تململ السوريون السُّنّة بشكل خاص بعد أن تبيّن لهم أن السلطة لا ترى منهم إلا الموالين لها
قد تكون الاشتباكات أخيراً بين "قسد" والجيش في منطقتَي منبج ودير حافر، التابعتَين لمحافظة حلب، ومشاركة المسيّرات التركية فيها، محاولة لتذكير "قسد" بأن الخيار العسكري ما زال قائماً، ويمكن اللجوء إليه ما لم تنفِّذ اتفاق 10 مارس. لم يقف الأمر عند تمسّك الإدارة الذاتية و"قسد" بمكاسبهما، بل حصل فتق جديد في الاجتماع السوري تجسّد بمطالبة المجلس التركماني السوري بضمان التمثيل العادل للتركمان في المؤسّسات الرسمية المدنية والعسكرية، وضمن آليات الحكم في سورية، وضرورة ضمان الحماية الدستورية للهُويَّة التركمانية في الدستور السوري الجديد، وإكسابها وضعاً رسمياً. هذا بالإضافة إلى رفض المجلس الإسلامي العلوي نتائج تحقيق اللجنة الوطنية للتحقيق وتقصّي الحقائق في أحداث الساحل، حول المجازر التي ارتُكبت بحقّ العلويين في شهر مارس/ آذار الماضي، ومطالبتهم بتحقيق وحماية دوليَّين.
الهزّة الارتدادية الثانية ما أصاب شيوخ العشائر العربية من إحباط، ليس لمنعها من إكمال "فزعتها" بالانتقام لبدو محافظة السويداء من الموحّدين الدروز، الذين اعتدوا عليهم ونكّلوا بهم فقط، بل ولاتهامهم من وزير خارجية السلطة، أسعد الشيباني، بالتسبب بحرب أهلية (كان الرئيس أحمد الشرع قد أشاد في خطابه الثاني بعد المواجهات الدامية في محافظة السويداء بالعشائر وفزعتها، ودورها في فكّ الحصار عن بدو السويداء)، وما سيترتب عن ذلك من تقويض لمكانتهم وأدوارهم المستقبلية. أمّا الهزّة الارتدادية الثالثة فتمثّلت في طلب السلطة السورية الجديدة دعماً عسكرياً من تركيا لتعزيز قدراتها الدفاعية، بعد أن كانت قد تمنّعت عن توقيع اتفاق دفاعي معها، وهذا سيعزّز الدور التركي في سورية، ويمنح النظام التركي فرصة أكبر للتدخّل في شؤونها الداخلية. استاء النظام التركي من نتائج لقاء باريس بين الشيباني وديرمر حول الوضع في محافظة السويداء، لأنها ستشجّع "قسد" على المطالبة بالمثل، فضغط على السلطة السورية كي لا تجري لقاء في باريس مع الجنرال مظلوم عبدي. فأُلغي اللقاء، هذا بالإضافة لما سيترتّب على طلب دعم عسكري تركي من تبعات خطيرة على أمن واستقرار البلاد، على خلفية تحوّلها ساحة مواجهة تركية صهيونية في ضوء رفض الكيان الصهيوني أي دور عسكري تركي في سورية، إذ سبق ودمّر مطار التياس العسكري (تي 4) في محافظة حمص، وأخرجه من الخدمة ردّاً على تحرّك تركي لتحويله قاعدة عسكرية تركية، ونشر دفاعاتٍ جوية فيه، لأنه يرى في النفوذ العسكري التركي في سورية خطراً على أمنه القومي.
وقد دفع إدراك أنقرة صعوبة المهمة (وخطورتها) إلى العمل على إشراك روسيا في الملفّ، وإقناعها بلعب دور في تسهيل عملية الانتقال السياسي في سورية، ونصحت السلطة الجديدة بالانفتاح على روسيا، وإيجاد قواسم مشتركة معها لتحقيق أكثر من هدف: إبعاد الروس عن "قسد" وعن فلول النظام البائد، والاستفادة من إمكانياتها العسكرية في مجالات التسليح والتدريب، وللحدّ من ضغوط الغرب على السلطة بإرسال رسائل للغرب بأن لدى السلطة أبواباً أخرى غيره تُطرق لتأمين التحالفات والدعم العسكري والسياسي. وهذا ما حصل في زيارة وزيرَي الخارجية والدفاع ورئيس استخبارات السلطة لموسكو، ونقل العلاقة من علاقة خامدة إلى نشطة.
ثمّة عوامل دفعت السلطة السورية الجديدة لتجريد حملتها على محافظة السويداء، أولها شعورها بالنشوة نتيجة الاحتضان العربي والإقليمي والدولي لها، وغض الطرف عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، خاصّة تصريحات المبعوث الأميركي إلى سورية، توماس برّاك، التي انطوت على تأييد صريح لإقامة نظام مركزي في سورية، وضغطه على قيادة "قسد" للانخراط في مفاوضات الاندماج مع السلطة في دمشق، وإعلانه الصريح أن ما تدين به الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية لا يشمل دعم تكوين حكومة مستقلّة ضمن الحكومة، ما تدين به هو الحرص على أن يكون هناك منطق لاحتوائهم في حكومة سورية واحدة، وتشديده على أن دمشق أخذت موقفاً لا يسمح بالفيدرالية، ولا بوجود قوات تابعة لمكوّنات درزية أو علوية أو كردية، وهكذا سيكون هناك كيان واحد، وتأكيده موقف واشنطن الرافض تطبيق نموذج فيدرالي في سورية، وأن البلاد يجب أن تظلّ بجيش واحد وحكومة واحدة، قائلاً: "ستكون هناك سورية واحدة"، مستبعداً إمكانية وجود مناطق "حكم ذاتي" انفصالية، ومشدّداً على أن الولايات المتحدة لا تملي شروطها، ولكنّها لن تدعم "نتيجة انفصالية". ثانيها سوء تقدير السلطة موقف الكيان الصهيوني من حملتها، إذ اعتبرت اللقاءات المتواترة بينهما، وتوجّهاتها الإيجابية نحو التفاهم والاتفاق ستجعله يتقبّل سيطرتها على القوى الرافضة توجّهات السلطة في المحافظة.
الخيار في سورية إمّا الجلوس إلى طاولة تفاوض جدّية، أو الذهاب إلى حالة من العنف الأعمى
أما ثالث العوامل، فالمراهنة على وجود تيّارات بين الموحّدين الدروز تؤيّد اندماج المحافظة في الدولة بشروط السلطة، سيكونون عوناً لها وعنصر ضغط على القوى الرافضة توجّهاتها. رابع العوامل إيمانها بقدرتها على حسم الموقف والسيطرة على المحافظة بسرعة، والتخلّص من القوى الرافضة فيها، ما سيقوّي موقفها في المفاوضات مع "قسد" التي ستعتبر هزيمة القوى الرافضة من الموحّدين الدروز رسالة تحذير (وتهديد) لها، فحواها أن الرفض سيواجَه بالقوة الكاسحة. كانت قيادة "قسد" قد راهنت على نجاح التمرّد الحاصل في محافظة السويداء على خلفية تطابق الأهداف بين الطرفَين، وقدّمت للمجلس العسكري فيها (الذي يحظى بدعم الشيخ حكمت الهجري) خبرات عسكرية وأسلحة، وفق قول القيادي في قوات شيوخ الكرامة قتيبة شهاب الدين.
عقّدت الهزيمة العسكرية، وما ترتب عليها من انعكاسات سياسية وميدانية، فرص تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية، بما في ذلك تحقيق عدالة انتقالية، وانتخابات حرّة ونزيهة لأعضاء مجلس شعب، ودستور جديد، وزاد الطين بِلّة ميل الكونغرس الأميركي نحو الإبقاء على قانون قيصر، مع تمديد فترة الإعفاء إلى سنتين، وبقاء معظم العقود الاستثمارية من دون تنفيذ فعلي، وعجز السلطة عن تنفيذ وعودها بصرف زيادة الرواتب، وانتشار الفقر وتراجع قدرة المواطنين الشرائية، بسبب تدني الرواتب، وتراجع قيمة الدولار بالنسبة إلى متلقّي الإعانات من ذويهم في الخارج، بسبب اللعب بالسوق، عبر تجفيف السيولة من الأسواق، في ترتيب بين السلطة والتّجار، وبدأ تململ مواطني المدن من الطبقة الوسطى من بعض القرارات الفجّة التي أخذتها بعض الوزارات، مثل وزارة العدل بإلغاء أحكام قضائية مبرمة، وتوجّه وزارة الإسكان إلى فسخ عقود إيجارات قديمة، وتجاوزات حواجز الأمن العام ودورياته وتنمّرها على المواطنين وإهانتهم، تململ خصوصاً من السُّنّة، الذين لا ترى السلطة السورية الجديدة في سورية سواهم، بعد أن تبيّن لهم أن السلطة لا ترى من السُّنّة إلا الموالين لها.
لقد دخل الوضع في سورية منعطفاً حادّاً، فبات أمام خيارَين لا ثالث لهما، إمّا الجلوس إلى طاولة تفاوض جدّية، والاتفاق على ترتيبات سياسية وأمنية منصفة، أو الذهاب إلى حالة من العنف الأعمى يقود إلى الانهيار والدمار.