المجتمع المدني والانتقال إلى سوريا التعددية
29.05.2025
سمير الزبن
المجتمع المدني والانتقال إلى سوريا التعددية
سمير الزبن
العربي الجديد
الاربعاء 28/5/2025
سقط النظام السوري وترك وراءه بلداً مدمراً، فالنظام لم يدمر البلد ويرتكب جرائم الحرب في حق شعبه فحسب، بل حطم الجغرافية السكانية للبلد بالتجريف السكاني أيضاً. لم تكن هناك دولة في سوريا في زمن النظام البائد، بل عصابة مجرمة ممسكة بأدوات القتل، وبأجهزة المخابرات الممسكة بدورها بمفاصل البلد، ولا يعني لها المواطن السوري شيئاً، فكانت المذابح الجماعية، وتدمير أي مظاهر للحياة في المناطق التي اعتبرتها العصابة الحاكمة معادية لها، وسيلتها لبقائها في السلطة، ولأن البلد كله عدو من وجهة نظر الطاغية، فلم تنجُ منطقة، أو عائلة في سوريا من الجرائم التي ارتكبها النظام بحق المواطنين.
هرب الطاغية وانهارت الدولة الورق التي حكمها، وترك وراءه تركة هائلة من المشاكل التي تنتظر السوريين وسلطتهم الجديدة. إن واحدة من أخطر الجرائم التي ارتكبها النظام بحق البلد، ومنذ استلام البعث للسلطة، هو تفكيك نواة الهوية الوطنية السورية، التي بدأ رجالات الاستقلال ببنائها بعد رحيل الفرنسيين، لذلك، فإن واحدة من أهم القضايا التي على السوريين إعادة تأسيسها هي الهوية الوطنية السورية، على أساس جامع بعد التفتيت الطائفي والجهوي والاجتماعي، الذي عمل النظام على تكريسه على مدار تاريخه، والمذابح الطائفية، التي جرت في الساحل في مارس/آذار المنصرم، والصدامات الطائفية مع الطائفة الدرزية، تجعل من إعادة تأسيس الوطنية السورية من جديد، مسألة ملحة، والأساس لحل الكثير من القضايا المرتبطة بها.
تحتاج سوريا إلى حوار وطني حقيقي وعميق ومستمر، من أجل تأسيس وطنية سورية جديدة، وليس إلى مؤتمر للحوار مبستر وتبريري، كالمؤتمر السريع الذي عقدته السلطة الجديدة في دمشق، فالحوار الوطني، ليس انتقاء مجموعة متحاورين من بطانة السلطة الجديدة ومقربيها، وعقد جلسة لساعات، والخروج ببيان بائس. الحوار الوطني في البلدان التي عانت صراعات دموية لفترات طويلة، لا بد له من أن يكون حوارا دائما بين الجميع، وعلى كل القضايا الوطنية الأساسية، وليس المطلوب منه بيانات تبريرية لسلطة استئثارية، بل بناء هوية وطنية جديدة، وهذه لا تُبنى في يوم وليلة وفي جلسة حوار يتيمة، بل هي عملية مستمرة بين كل المكونات السياسية والاجتماعية في البلد. واليوم، الحوار الوطني، أكثر ما يحتاجه البلد، من أجل التأسيس للنظام السياسي الجديد، والاتفاق على القواعد التكوينية له، ليتم تكريسها بدستور دائم للبلاد، يؤسس لعلاقات صحية بين مجموع السوريين، ويحفظ الحقوق والحريات الأساسية. ولا أعتقد أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات الجديدة، صالحة لمعالجة مشاكل سوريا، ولا يتم حل المشكلات الداخلية، بإنجازات خارجية، بإرضاء الخارج والقبض بيد من حديد على الداخل، وانتهاك حريات وحقوق المواطنين. ما زالت سوريا بحاجة إلى حوار وطني، حاجتها إلى المواد الغذائية الضرورية. المسألتان ليستا على تناقض، وعلى الرغم من الإجراءات الاستئثارية التي اتخذتها المجموعة الحاكمة، فما زالت الفرصة سانحة لتغيير المسار، فمساحة الحريات التي وفرها سقوط النظام البائد، تمنح الفرصة لمساهمة قوى سياسية وهيئات مجتمع مدني، في إجراء حوار وطني بين الجميع، حتى من دون موافقة أو اشتراك المجموعة الحاكمة.
لا توجد سلطة سياسية في العالم قادرة على حل كل المشاكل التي يعاني منها هذا البلد أو ذاك، وهذا في الحالة الطبيعية، فكيف حال بلد خرج من دمار ثلاثة عشر عاماً بالحديد والنار
لأن المشاكل التي تواجه السوريين هائلة، حتى بعد رفع العقوبات الأمريكية، على السوريين قوى سياسية ومدنية كبيرة وصغيرة وأفراد، الخروج من عقلية المعارضة، التعامل مع المشاكل والقضايا السورية، على قاعدة أن الجميع أصحاب الثورة والبلد، والجميع انتصر، لا أن ينتظروا السلطة الجديدة أن تحل مشاكلهم، فلن يحل أحد مشاكلهم لا السلطة ولا غيرها، عليهم أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم. لا توجد سلطة سياسية في العالم قادرة على حل كل المشاكل التي يعاني منها هذا البلد أو ذاك، وهذا في الحالة الطبيعية، فكيف حال بلد خرج من دمار ثلاثة عشر عاماً بالحديد والنار، تضاف إلى أربعة عقود وعائلة مجرمة تدمر وتنهب في البلد! سوريا اليوم تحتاج إلى مجتمعها المدني ومؤسساته، التي منعت من العمل في سوريا خلال النصف قرن المنصرم. هذه المؤسسات التي تملك القدرة على العمل بين تجمعات السوريين في كل مكان في البلد، وهي القادرة على تحديد أكثر الاحتياجات والمشاكل إلحاحاً لهذه المناطق، وقادرة على المساهمة في حلها لحد كبير في حال استطاعت أن تبني شبكاتها مع الداخل والخارج، وبناء هذه المؤسسات والشبكات على أسس الديمقراطية والشفافية، التي تشكل واحدة من أهم مرتكزات الهوية الوطنية الجديدة. ما يُنتظر من مؤسسات المجتمع المدني لا يقل أهمية عما ينتظر المؤسسات السياسية السيادية الأساسية، وإذا كان من الصحيح أن هذا العمل لا يظهر في وسائل الإعلام، وقد تكون هذه ميزة، لأنه ليس عملاً استعراضياً، إنما هو حفر في الصخر مع الكم الهائل من المشكلات الكثيرة والمعقدة، التي تعاني منها سوريا، وهي أدوات فعل مجتمعي ضرورية لإمساك المجتمع السوري مصيره بيده، وموازنة السلطات السياسية، وحماية الحريات في المجتمع، من خلال عمل هذه المؤسسات التي لها دور أساسي ليس في حل المشكلات المحلية فحسب، بل وفي إنتاج وطنية سورية جديدة تشاركية، وبالتالي، تقع على عاتق هذه المؤسسات مهمات جليلة في الكشف عن حقيقة الجرائم التي ارتكبها النظام من المعتقلات والمقابر الجماعية والإخفاء القسري، وصولاً إلى حفظ هذه الذاكرة للجميع حتى لا تعود سوريا مرة أخرى إلى نظام طاغية آخر.
كما يقع على عاتق هذه المؤسسات العمل على قضايا “العدالة الانتقالية” التي لا تكفي المؤسسة الحكومية لوحدها للتعامل معها، والتي لا يبدو أنها تتعامل معها بالجدية المطلوبة. ولا شك في أن مؤسسات مدنية تقوم على شعارات “كي لا ننسى” أو “إنصاف الضحايا” وغيرها من التسميات التي يمكن أن تحافظ على هذا الإرث، ووضعه في مكانه البارز حتى يبقى يُذكّر السوريين بما عانوه، وعدم ترك ذلك للنسيان. لهذه المؤسسات الدور الكبير في المصالحة المجتمعية، بين أطياف المجتمع السوري، بوصف الجميع مواطنين لهم القيّمة والمكانة ذاتها، وليس المصالحة بين طوائف لها خصائصها ومصالحها الطائفية، إنما مواطنون في وطن للجميع. إنها ليست دعوة لاستبدال العمل السياسي بالعمل المدني، فعلى الجميع الانخراط في العمل السياسي لتأسيس سوريا الجديدة، وهذا التأسيس لا يستقيم، من دون مؤسسات مجتمع مدني قوية، فهي الأكثر قرباً من الناس وقضاياهم ومشاكلهم، وبذلك يشكل التأسيس الصحيح لمؤسسات المجتمع المدني وتشبيكه الصحيح، البنية التحتية للنظام السياسي الجديد، وهي تستطيع أن تخوض الصراع من أجل مسار تعددي ديمقراطي مطلوب لسوريا الجديدة ومستقبلها.