الرئيسة \  تقارير  \  المجتمع المدني السوري وحقيقة الدور

المجتمع المدني السوري وحقيقة الدور

28.09.2025
مالك الحافظ



المجتمع المدني السوري وحقيقة الدور
مالك الحافظ
سوريا تي في
السبت 27/9/2025
هل يملك المجتمع المدني السوري اليوم القدرة على أن يكون قوة مستقلة تعبّر عن الناس، وهل تمكنت منظماته، بعد سنوات من التجربة، من إدراك جوهر عملها وملامسة الاحتياجات العميقة للسوريين؟
منذ أن بدأ الحديث عن المجتمع المدني في السياق السوري، ظل المعنى ملتبساً، البعض اختزله في منظمات غير حكومية تموَّل من الخارج، وآخرون رأوه بديلاً عن الدولة، في حين حُمّل أحياناً أكثر مما يحتمل، لكن جوهره بسيط يتمثل في أن يكون الفضاء الذي ينظم فيه الناس أنفسهم، ويمارسون عبره التضامن والدفاع عن مصالحهم، ويقيمون توازناً ضرورياً مع السلطة والسوق.
الحرية شرط وجود للمجتمع المدني، فهو لا يكون مدنياً إلا إذا تحرر من الوصاية، سواء كانت سياسية أو حزبية أو حتى بيروقراطية.
الحرية الحقيقية تعني أن يصوغ المجتمع المدني أولوياته بنفسه، وأن ينطلق من حاجات الناس لا من إملاءات فوقية، هذه الحرية تُختبر في لحظات المواجهة؛ عندما يضغط طرف ما لفرض أجندته، أو عندما يُراد للمنظمات أن تتحول إلى أدوات تبرير أو ديكور.
هذا المفهوم حين يُسقط على الحالة السورية يكشف حجم الفراغ الذي خلّفه غياب فضاء عام مستقل لعقود، إذ حُصر النقاش العام في قنوات السلطة أو في دوائر مغلقة..
المجتمع المدني ليس وكالة لتنفيذ المشاريع، إنما هو عقل المجتمع حين ينظم نفسه خارج السلطة، وصوته حين يطالب بالحقوق، وذاكرته حين يسعى لحماية قيمه المشتركة، كل انحراف عن هذا الجوهر يحوّل العمل المدني إلى نشاط إداري بلا مضمون، والمطلوب أن يكون المجتمع المدني السوري قوة اجتماعية حيّة، قادرة على إنتاج الفعل الجماعي.
يقدّم يورغن هابرماس في نظريته عن المجال العام تصوراً للمجتمع المدني باعتباره الفضاء الوسيط بين الدولة والمجتمع، حيث يمكن للأفراد أن يعبروا عن مصالحهم بحرية، وينتجوا رأياً عاماً ضاغطاً يوازن سلطة الدولة.
هذا المفهوم حين يُسقط على الحالة السورية يكشف حجم الفراغ الذي خلّفه غياب فضاء عام مستقل لعقود، إذ حُصر النقاش العام في قنوات السلطة أو في دوائر مغلقة، التحدي اليوم هو استعادة هذا المجال عبر بناء مؤسسات مدنية حرة، تمتلك استقلالية القرار، ولا تخضع لا لوصاية سلطوية ولا لقيود التمويل المشروط.
المجال العام في سوريا، إن وُجد، سيكون الركيزة الأساسية لإعادة بناء الثقة بين الناس وتأسيس حياة سياسية أكثر شفافية وتوازناً.
السوريون اليوم يحتاجون قبل أي شيء إلى استعادة الثقة فيما بينهم، إلى حماية الفئات الأضعف، إلى دعم النساء والأطفال، إلى مساحات حوار تعيد صياغة المشتركات، وإلى مبادرات تردم الهوة بين الجماعات المختلفة.
المنظمات التي لا تلتقط هذه الاحتياجات وتبني عملها عليها، تفقد شرعيتها مهما حسُنت نياتها، الشرعية تُكتسب من من شعور الناس أن هذه المؤسسات تعبّر عنهم بصدق.
المرأة السورية، ليست "فئة" ضمن فئات المجتمع المدني، بل هي أحد أعمدته، حضورها في القيادة وصياغة السياسات هو ضرورة وجودية، فلا يمكن بناء مجتمع مدني متوازن بينما تُقصى المرأة عن موقع القرار.
لا يمكن تجاهل التمويل الخارجي، لكنّه لا يجوز أن يتحول إلى جوهر المجتمع المدني، التمويل وسيلة مساعدة، بينما القوة الحقيقية تُبنى من الداخل؛ من شبكات التضامن، من مساهمات الأعضاء، من مبادرات اقتصادية صغيرة تحافظ على الاستمرارية.
حين يمتلك المجتمع المدني قاعدة اجتماعية مستقلة، يمكنه التفاوض مع المانحين بندّية، ويحوّل التمويل إلى دعم لأجندته هو وليس إلى قيد يحدد مساره.
في أدبيات التنمية الدولية، انتقد توماس كارذيرز، الميل إلى اختزال المجتمع المدني في صورة ضيقة هي "المنظمات غير الحكومية" الممولة من الخارج، رأى أن المجتمع المدني أوسع بكثير، حيث يشمل النقابات، الجمعيات المهنية، المبادرات المحلية، وحتى الحركات الثقافية.
المجتمع المدني السوري لم يعد بإمكانه أن يكتفي بدور المؤسسة الخدماتية أو الواجهة الرمزية التي تملأ الفراغات هنا وهناك، فاللحظة الراهنة تفرض عليه أن يكون قوة حيّة تتحرك في قلب المجتمع، قوة تبني جسور الثقة المفقودة بين الناس..
ما يحذّر منه كارذيرز ينطبق بدقة على سوريا، حيث برز خطر حصر الفاعلية المدنية في مؤسسات بيروقراطية تعمل وفق شروط التمويل، بينما ظلّت أشكال التنظيم الأهلي الأخرى مهمّشة أو غير معترف بها، تجاوز هذا التبسيط ضرورة حتى لا يتحول المجتمع المدني السوري إلى مجرد نسخة إدارية من "القطاع الثالث"، بل إلى فضاء حيّ يعكس تنوع المجتمع وطاقاته الفعلية.
المجتمع المدني السوري لم يعد بإمكانه أن يكتفي بدور المؤسسة الخدماتية أو الواجهة الرمزية التي تملأ الفراغات هنا وهناك، فاللحظة الراهنة تفرض عليه أن يكون قوة حيّة تتحرك في قلب المجتمع، قوة تبني جسور الثقة المفقودة بين الناس بعد سنوات الانقسام، وتفتح المجال أمام الفئات الأضعف كي لا تبقى أسيرة التهميش والإقصاء.
عليه أيضاً أن يمنح النساء والشباب موقعهم الطبيعي في القيادة وصياغة القرار، كفاعلين أساسيين في رسم المستقبل، وفوق ذلك كله، فإن مسؤوليته الأعمق تكمن في أن يكون عين المجتمع الساهرة على السلطات الجديدة، يمارس المساءلة والضغط ويجعل العدالة هدفاً لا يمكن الالتفاف عليه. بهذا فقط، يمكن للمجتمع المدني أن يكون ركيزة تأسيسية في إعادة بناء المجال العام السوري، قوة مستقلة وضرورية.