الرئيسة \  تقارير  \  المجال العام الرقمي وتمثيل الرأي العام في سوريا

المجال العام الرقمي وتمثيل الرأي العام في سوريا

21.06.2025
إبراهيم الشبلي



المجال العام الرقمي وتمثيل الرأي العام في سوريا
إبراهيم الشبلي
سوريا تي في
الخميس 19/6/2025
أثار التعاطي غير المسبوق مع الصور الملتقطة لبعض المسؤولين مع شخصيات محسوبة على النظام البائد حفيظة شريحة كبيرة من السوريين؛ إذ انقسمت الآراء حولها في "فيس بوك" من الاستهجان والاستنكار إلى القبول على مضض، وأحدثت ردات فعل ظهرت ارتداداتها في المشاركات والتعليقات والردود على المشاركات الواسعة لتلك الصور، الأمر الذي يحثنا على البحث في كيفية تأثير المجال الرقمي في المواقف السياسية للسوريين، ومدى القدرة على حوكمة وسائل التواصل الاجتماعي بما يتلاءم والتحول الجذري الذي تشهده سوريا بعد التحرير.
وقد حظي تقاطع وسائل التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام في المراحل الانتقالية باهتمام كبير من الباحثين، ولا سيما في أعقاب الربيع العربي؛ إذ أدت وسائل الإعلام الرقمية دوراً حاسماً في حشد المظاهرات ونشر السرديات المضادة في السياقات الاستبدادية لنظام الأسد البائد.
وفي موازاة ذلك ينبغي الحذر من الطوباوية التكنولوجية والتركيز على كيفية إعادة حوكمة البنى التحتية الرقمية لأغراض المساءلة والمراقبة بما يضمن تعزيز الخطاب الجامع القائم على الشراكة في المواطنة والحقوق والواجبات؛ لتغدو المواطنة أساساً ننطلق منه لبناء مستقبل مشرق.
تتنوع أساليب القمع الرقمي المتطورة التي استخدمها نظام الأسد، بما في ذلك الجيوش الإلكترونية، وتصفية المحتوى، وحملات التضليل المُنسّقة، وتوظيف الدراما لتأكيد رواية النظام القائمة على المؤامرة الكونية..
ومنذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي إحدى أهم أدوات نظام الأسد في القمع والاستبداد، فقد كان المواطنون لا يجرؤون على التعبير عن آرائهم بشكل صريح؛ إذ إن مصيرهم سيكون غيابات السجون والتعذيب، وربما الإعدام خارج القانون، وبقي الأمر كذلك حتى سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024، فقد دخلت سوريا مرحلةً انتقاليةً تفاءل بها السوريون سوى فلول النظام أو الذين ارتكبوا جرائم حرب بحق الشعب دفاعا عن النظام البائد وسواهم ممن ربطوا مصيرهم بمصيره.
وقد بشّر وصول أحمد الشرع إلى الرئاسة، مطلع عام 2025، بمستقبل مترع بالإصلاح والشفافية والحرية الرقمية، وفي هذا السياق، تزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير، لتصبح المساحة الرئيسة للسوريين للتفاوض على هوياتهم السياسية، أو التعبير عن معارضتهم، أو التفاعل مع أجهزة الدولة الجديدة.
وتتنوع أساليب القمع الرقمي المتطورة التي استخدمها نظام الأسد، بما في ذلك الجيوش الإلكترونية، وتصفية المحتوى، وحملات التضليل المُنسّقة، وتوظيف الدراما لتأكيد رواية النظام القائمة على المؤامرة الكونية، وقد أسهم فنانون ومثقفون وكتاب وشعراء في ترويج أكاذيب النظام والتحريض على قتل المعارضين بتهم متنوعة ليس أقلها العمالة للدول الغربية المحرضة على معارضة النظام، وسوى ذلك من التهم الجاهزة والأفكار النمطية التي اعتاد النظام على اتهام معارضيه بها.
وقد أدرك النظام البائد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية الحراك الثوري، فعمد إلى خنق أي صوت مناوئ عبر الاعتقال والتنكيل، فضلا عن المراقبة الصارمة على المجال الرقمي برمته.
بعد سقوط نظام الأسد، رُفعت القيود المفروضة على الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وعاد ناشطو المعارضة المنفيون إلى الفضاء الرقمي، وأصبحت المنصات ساحاتٍ للنقاش حول العدالة الانتقالية، والإصلاحات الدستورية، والهوية الوطنية، ومن بين أهم القضايا المطروحة في المجتمع الشبكي السوري منذ سقوط النظام:
النقاشات حول الدستور ونظام الحكم وشكل الدولة.
الحملات الشعبية التي تركز على جرائم الحرب والاختفاءات القسرية.
تخليد ذكرى الشهداء والمدن المدمرة عبر الإنترنت.
المطالبة بتطبيق العدالة الانتقالية.
البحث في تاريخ ولاء بعض الشخصيات للنظام البائد.
والأسئلة التي ينبغي إثارتها تتصل بالديناميكيات التي تبنيها وسائل التواصل الاجتماعي السورية ضمن التحولات الاجتماعية والتقنية الأوسع، وكيف تُنتج البنى التحتية الرقمية أشكالاً جديدة من التفاعل الاجتماعي، ولا سيما في مرحلة التحول الديمقراطي التي تشهدها سوريا، وكيف تتنافس الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية على السرديات والشرعية العامة في المجال الإلكتروني؟
وعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت مساحةً لحرية التعبير، فإنها أسهمت أيضاً في تضخيم الخطابات الطائفية، والمظالم الإقليمية، والرؤى المتضاربة حول مستقبل سوريا؛ إذ برزت خطابات إلكترونية سائدة تتمحور حول:
التفاؤل بالإصلاح والدعم لمبادرات السيد الرئيس أحمد الشرع.
المعارضة الراديكالية التي ترى في الحكومة الجديدة امتداداً للسلطوية السابقة.
الناشطون في الشتات والدعوة إلى المساءلة الدولية وحقوق اللاجئين.
ومن أهم آثار وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا ما بعد النظام إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية؛ إذ أصبحت المنصات الرقمية مستودعات للشهادات الشخصية، وأرشيفاً ليوميات الحرب، وسجلا لإحياء ذكرى شهداء الثورة السورية، فضلاً عن توثيق الانتهاكات، ومتابعة أخبار المعتقلين.
وقد حظيت صفحات كثيرة مثل "أصوات المختفين" و"ذاكرة حمص" وصفحة "إدارة الأمن العام" بمتابعة واسعة، ولا سيما إبان معركة التحرير، مما أتاح مساحات مهمة لمعالجة الصدمات، وفرصة لنشر التضامن المجتمعي، وقد أدى تعدّد الذكريات على الإنترنت إلى تعقيد جهود العدالة الانتقالية التي يتطلع إليها السوريون، ولكنها في الوقت نفسه أدت إلى ديمقراطية السرد التاريخي خارج الخطاب الرسمي.
إن التحرير بأقل التكاليف والدماء الذي اتبعه الثوار في معركة ردع العدوان أسهم في إنتاج صورة إيجابية للقيادة السورية الجديدة، التي أسهمت أفعالها في تعزيز خطاب الوحدة الوطنية، وإيلاء التعافي الاقتصادي أهمية كبرى في سبيل النهوض من الدمار الذي خلفته جرائم الأسد وداعموه..
وإلى جانب تشكيل الرأي العام، حفّزت وسائل التواصل الاجتماعي أشكالًا جديدة من التعبئة الرقمية، من ذلك التعبئة الرقمية التي اتبعتها المجموعات التابعة لفلول النظام؛ إذ وجدت في المجال الرقمي العام منبراً لحشد المؤيدين واستقطاب المقاتلين، والتحريض على الحكومة السورية الجديدة، مما أدى إلى نشر الخطاب التحريضي وخطاب الكراهية، وأنتج خطاباً وخطاباً مضاداً، وأسهم ذلك في تعبئة إلكترونية تنطلق من نشر الأخبار الكاذبة ونشر الإشاعات المغرضة، في حين اتبع المناهضون للفلول نهج فضح الأكاذيب والادعاءات غير الحقيقية، مما فتح الباب واسعاً أمام خطابات متعددة تتفاوت في تعاطيها مع الأخبار اليومية، ولا سيما أنها أصبحت مراقَبة من وسائل إعلام غير تقليدية تتبع أدق التفاصيل التي تعمل عليها الحكومة السورية الجديدة، وهو ما أنتج ما يمكن أن نطلق عليه الصحافة المواطنية، التي استأثرت بدور الإعلام التقليدي في ظل غياب الرسمي، الذي سيرى النور عما قريب.
إن التحرير بأقل التكاليف والدماء الذي اتبعه الثوار في معركة ردع العدوان أسهم في إنتاج صورة إيجابية للقيادة السورية الجديدة، التي أسهمت أفعالها في تعزيز خطاب الوحدة الوطنية، وإيلاء التعافي الاقتصادي أهمية كبرى في سبيل النهوض من الدمار الذي خلفته جرائم الأسد وداعميه، وأنتجت كذلك نموذجاً هجيناً يوازن بين الخطاب الإصلاحي وضرورات المرحلة بما تتطلبه من تطبيق حاسم للعدالة الانتقالية، مما مكَّن من بناء شرعية سياسية مرحلية بعد سقوط النظام البائد.
وبينما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل التعبير السياسي بشكل غير مسبوق في سوريا، فإن العديد من التحديات البنيوية أمام الحكومة الجديدة، ولا سيما في ظل الغموض القانوني لممارسة حق التعبير عن الرأي في المجتمع الشبكي السوري، الأمر الذي يستدعي تشريع قوانين تؤطر الدور المُعقّد والمتناقض للعالم الرقمي، وتكفل حق التعبير عن الرأي بما لا يتعارض مع خطاب الوحدة الوطنية، ولا سيما مع توسع المنصات الرقمية المدنية بعد سقوط النظام، وإتاحة أشكال جديدة من الخطاب العام لأول مرة منذ الاستقلال، وهو أمر يفسر التوتر المستمر بين التحول الديمقراطي والاستقرار الأمني الذي تمليه المرحلة الانتقالية، وإن استدامة التعددية الرقمية تنهض على ما يأتي:
الإصلاحات القانونية لحماية الحريات على الإنترنت.
تطوير البنية التحتية لضمان الوصول العادل.
مبادرات محو الأمية الإعلامية لمواجهة المعلومات المضللة.
آليات العدالة الانتقالية لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في العصر الرقمي.
أخيراً، أضحت الحكومة السورية الحالية والحكومات اللاحقة أمام العالم الرقمي برمته؛ إذ إن أدق تفاصيل تحركاتها مرصودة من مئات المنصات والشبكات الرقمية، فضلاً عن سرعة انتشار المقاطع المصورة والأخبار العاجلة والمواقف الدولية المختلفة، مما يجعل الحكومة حذرة إزاء أي قرار تتخذه، أو أي قانون تقره، فقد تراجعت الحكومة سابقاً عن قرارات وإجراءات بعد نشرها في المجال الرقمي العام، الأمر الذي يجعل من وسائل التواصل الاجتماعي أداة من أدوات الرقابة التي يتبادل فيها الشعب الدور مع الحكومة.