الرئيسة \  تقارير  \  الكيانية السورية بين الواقع والأمر الواقع

الكيانية السورية بين الواقع والأمر الواقع

09.08.2025
نزار السهلي



الكيانية السورية بين الواقع والأمر الواقع
نزار السهلي
سوريا تي في
الخميس 7/8/2025
من المفروض أن تكون السلطات السورية عاكفة، هذه الأيام، على تدارس أوضاع المناطق في الجنوب والشمال والساحل، لما شهدته هذه المناطق من أحداث بعد سقوط نظام الأسد، وأصبحت تمثل استحقاقًا أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا أمام القيادة السورية والمجتمع السوري، وتمهّد بشكل عام لرسم ملامح سوريا الجديدة، والتي أُريد لها في العقود الماضية من حكم آل الأسد أن يبقى ملمحها غائرًا في ندوب التشويه والتزوير، ويُراد لها في حقبة الخلاص منه أن تغرق في وحل التفتت والتمزيق.
من خلال المراجعة النقدية لمسيرة السلطة الجديدة طيلة الشهور الماضية، وتسجيل ما لها وما عليها، يمكن التمهيد لصياغة استراتيجية جديدة، مطلوبة لتحديد مسار نضال السوريين في المرحلة القادمة، على ضوء انكشاف كثير من التحديات التي تواجهها السلطة والإخفاقات التي أصابتها.
"الانهماك اللغوي" لإيجاد لغة مشتركة في خطاب السلطة الجديدة، لن يكون بديلًا عن المعاناة السياسية والميدانية، وعلى المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.
وتكتسب هذه المراجعة أهمية بالغة الخطورة، وكان من المفترض حدوثها منذ عدة إخفاقات واجهتها حكومة الرئيس أحمد الشرع، في أعقاب أحداث الساحل السوري في آذار الماضي، وفي محافظة السويداء قبل أسابيع، والمستمرة مع أحداث متفرقة ومتواصلة على الصعيدين الأمني والاجتماعي.
المراجعة النقدية وتدارس واقع الحال حدثا، كما في لجان التحقيق بالأحداث، وفي فرضية وأمنية السلطة أن ذلك كافٍ لتبديد كل المحاذير التي يخشاها المتربصون بأدائها، خصوصًا أن هناك قوى داخلية ودولية وإقليمية – كما هو معروف – وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي، لها مصلحة مباشرة في أن يكون الإخفاق كبيرًا والمنزلق خطيرًا لسوريا ما بعد الأسد، وعلى أعتاب مرحلة سياسية وميدانية حاسمة قد تترك آثارًا مصيرية على مستقبل صراع السوريين، وهم يتطلعون إلى بناء بلد عنوانه القديم والجديد: المواطنة والعدالة والحرية، والتعددية السياسية.
فلم تستطع السلطة وأجهزتها المختلفة، رغم عشرات المطبات والإخفاقات، ورغم الانتكاسات والمذابح وهول الكارثة والحطام المحيط بالسوريين، أن تقدم خطابًا وسلوكًا يدلّ على هذه العناوين.
ولو أن إنجاز هذه المهمة، في هذه المرحلة بالذات، يبدو غاية في الصعوبة، إلا أنه يستحق بذل كل الجهود تحت الأمر الواقع الذي يستبعد كل أمانيهم وطموحاتهم.
"الانهماك اللغوي" لإيجاد لغة مشتركة في خطاب السلطة الجديدة، لن يكون بديلًا عن المعاناة السياسية والميدانية، وعلى المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.
والمجتمع الدولي المعني "نظريًا" بدعم معافاة السوريين، وبما يُطلق عليه من عملية سياسية واقتصادية تساهم في انتشال المجتمع والدولة من حفر الماضي، أكد في مواقع الألم العميق والجراح المثخنة في الجسد السوري، التزامه القوي بدعم السلطة الجديدة، والتأكيد في ديباجة الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية.
ورغم التباين المخادع للبعض في الحل المطلوب، فإنها تصب جميعها في التعامل مع الأمر الواقع الجديد.
وعلى الرغم من وجود أطراف دولية وإقليمية تساهم، وبشتى الوسائل، في فرض الضغوط على السلطة الجديدة، باستخدام ندوب النظام السابق، وثغرات السلطة الحالية، لإقناعها باستحالة الحلول الداخلية السياسية والأمنية، على اعتبار أن هذه المعادلة أصبحت في يد قوى خارجية تتحكم بمصير ومستقبل السوريين، وعلى الرغم من أن هذه الأطراف لم تُسقط سابقًا احتمال أن تكون العملية السياسية ممكنة في سوريا دون الأسد، نظرًا لضخامة الوحشية التي تركها وصعوبة تجاوزها.
في المجتمع الدولي اليوم، قناعة شبه جماعية بأن دعم السوريين لتجاوز المرحلة الانتقالية ضرورة للجميع.
وقدمت بعض منظماته الحقوقية والإنسانية والسياسية تصوراتها للحل المطلوب على قاعدة تحقيق العدالة الانتقالية للجميع، بالإضافة إلى أهمية تعزيز العمل السياسي والحريات والمحاسبة والشفافية في نطاق القانون.
قد كانت تضحيات السوريين، الواقع المحفّز والكاشف لمرارة عميقة، فهل تكتسب السلطة السورية جرأة المراجعة لمسيرتها للخروج من تحت الأمر الواقع؟
وهي تصورات من المفترض أن تدركها السلطات السورية قبل غيرها، ويدركها الشعب السوري.
غير أن هذه القناعة شبه الإجماعية، لا تشمل طرفًا أساسيًا من طرفي هذا الصراع: تل أبيب، التي تحاول فرض حضور فاعل على الأرض بتوسيع احتلالها لمناطق في الجنوب السوري، واستغلال حدث السويداء بتنفيذ العدوان المباشر على السيادة السورية، مع تماهي أطراف داخلية مع خطاب الاحتلال، بذريعة "حقها" في طلب حمايته، على ما تعتقد أنه يهدد وجودها.
لذلك، لم يكن شيئًا غير متوقع ما تعرضت له السلطات السورية، والشعب السوري طيلة الشهور الماضية من ضغوط.
وبهدف زيادة كمية الوضوح، تأتي عمليات قواتها الأمنية، إن كان في الساحل أو الجنوب السوري، لتكشف أي واقع يرزح تحته نسيج المجتمع السوري وهويته، بالإضافة إلى السيادة التي تتعرض للعدوان الإسرائيلي.
لذلك، لن تنجو السلطة من ضربات قادمة وضغوط أكبر، تدفعها لتكون قادرة على الالتزام بما يُطرح عليها من تصورات أفرزها واقع الخلاص من نظام الأسد، وواقع تحديات مواجهة العدوان الإسرائيلي والتدخل المباشر في ملف الجنوب، ووضعها تحت أمر واقع، لا يمكن النجاة منه، إلا بالتحرر من أجندات المصالح الضيقة، والالتفاف مجددًا إلى مكنونات قوة السوريين: بالمواطنة، والديمقراطية، والتعددية السياسية، وبالدستور.
مكنونات بمقدورها أن تربك الأمر الواقع وتبدّله، مع ظروف موضوعية تحيط بهم.
فقد كانت تضحيات السوريين، الواقع المحفّز والكاشف لمرارة عميقة، فهل تكتسب السلطة السورية جرأة المراجعة لمسيرتها للخروج من تحت الأمر الواقع؟
لأن واقع الحال ممتلئ بكل أسباب الأسى والألم.. والأمل أيضًا.
لأن الكيانية السورية كانت تحت أمر واقعٍ سحقها لعقود، وهي اليوم تحت واقع يتطلب إنقاذها لا سحقها مجددًا.
وتلك مسؤولية لا تستطيع السلطة، فقط بخطاب منقذ لها أو معتذر منها، أن تشكّل عامل طمأنينة، ولا القوى المتفلتة بخطاب أقلوي وطائفي تضمن وجودها بعيدًا عن حق كل السوريين بالمواطنة المنشودة، التي بُذلت تضحيات كبرى لأجلها.