الرئيسة \  تقارير  \  العلاقات السورية الأميركية.. مد وجزر على مدى عقود

العلاقات السورية الأميركية.. مد وجزر على مدى عقود

17.09.2025
الجزيرة.نت



العلاقات السورية الأميركية.. مد وجزر على مدى عقود
الجزيرة نت
الثلاثاء 16/9/2025
شكلت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وسوريا واحدا من أكثر الملفات السياسية تعقيدا في الشرق الأوسط، فقد مرت بتقلبات حادة على مدى عقود، واتسمت بتحولات سياسية وصراعات إقليمية ودولية.
تأرجحت علاقات البلدين بين التعاون والتوتر، متأثرة بتحولات كبرى كانت المنطقة مسرحا لها، بدءا بالحرب الباردة، مرورا بالحروب العربية الإسرائيلية ونشأة حركات القومية العربية، وصولا إلى الثورة السورية وما صاحبها من تغيرات جوهرية لامست الوضع السياسي والأمني محليا وإقليميا.
مرت العلاقات الأميركية السورية بمحطات تاريخية، تميزت بالتعاون تارة وبالصراع أخرى، إذ دعمت الولايات المتحدة السوريين قبيل الاستقلال، وتعاونت مع الدولة الوليدة في الفترة التي تلت استقلالها من الاحتلال الفرنسي والبريطاني، وقد شهدت فترات أخرى تعارضا وصراعات أدت إلى فرض عقوبات اقتصادية أثرت بشكل واضح على البلاد وعطلت عجلة اقتصادها سنوات.
بداية العلاقات قبيل الاستقلال
تعود جذور العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة إلى ما قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة، حين أقامت أميركا تمثيلا دبلوماسيا في مدينة دمشق إبان فترة الدولة العثمانية.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وانسحاب العثمانيين من بلاد الشام، برز الدور الأميركي في مرحلة إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.
في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1918، أعلن الملك فيصل الأول استقلال سوريا، رغم اعتراض القوتين الاستعماريتين الرئيسيتين آنذاك فرنسا وبريطانيا.
وسعى العرب إلى الاستفادة من دعم الرئيس الأميركي حينئذ وودرو ويلسون، مستندين إلى مبادئه المعلنة حول حق الشعوب في تقرير مصيرها وتكريس النماذج الديمقراطية، فبعث إليه الملك فيصل رسالة مباشرة، تلقى على إثرها ردا شخصيا أعرب فيه الرئيس الأميركي عن اهتمامه بالقضية العربية.
لكن تطورات الأوضاع الدولية، وتدهور صحة ويلسون ووفاته لاحقا، حالت دون تحقيق الدعم الأميركي الكامل لاستقلال سوريا، التي خضعت في النهاية للانتداب الفرنسي بموجب ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي الحرب العالمية الثانية، انحاز العديد من القادة السوريين، ومنهم الرئيس شكري القوتلي، إلى جانب دول الحلفاء، إذ أعلنت سوريا ولبنان عام 1945 الحرب على دول المحور، مما أتاح لهما حضور مؤتمر سان فرانسيسكو والمشاركة في تأسيس منظمة الأمم المتحدة.
دعمت الولايات المتحدة في تلك المرحلة مطالب السوريين بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي والبريطاني، ووقف الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان بوضوح ضد المساعي الفرنسية لاستمرار الانتداب على سوريا، مما أسهم في استقلالها الكامل عام 1946، والمضي قدما في بناء علاقاتها الدولية، بعدما أقامت علاقات دبلوماسية رسمية مع الولايات المتحدة قبل ذلك عبر تعيين أول مفوض سوري في العاصمة واشنطن في 30 يناير/كانون الثاني 1945.
التوترات والانقلابات في ظل الحرب الباردة
بعد نيل سوريا استقلالها، اتخذ الرئيس شكري القوتلي مواقف حاسمة تجاه قضايا محورية في المنطقة، إذ رفض "اتفاقية التابلاين"، التي كانت تسمح بمرور النفط السعودي عبر الأراضي السورية إلى البحر المتوسط لصالح شركة أرامكو، كما رفض تقسيم فلسطين وقرار الهدنة الذي أصدرته الأمم المتحدة بين الدول العربية وإسرائيل.
وكانت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترومان، تعتبر سوريا نقطة رئيسية في إستراتيجيتها الإقليمية، إذ اعتبرتها "قلب الشرق الأوسط" لما تتمتع به من أهمية جيوسياسية، لكن هذه المرحلة شهدت تصاعدا في التوتر بين البلدين، خصوصا مع تصاعد الحرب الباردة التي امتدت إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث تصارع النفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وكانت سوريا مسرحا لهذا الصراع.
في عام 1949 دعمت واشنطن عبر وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) انقلابا عسكريا قاده حسني الزعيم، وأطاح بالرئيس المنتخب شكري القوتلي، ونصبته رئيسا لسوريا.
استجاب الزعيم لمطالب الولايات المتحدة، إذ وقع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، وألغى الحياة البرلمانية الديمقراطية، ووافق على شروط شركة أرامكو، كما قبل بتلقي المساعدات الأميركية التي كان القوتلي قد رفضها، وسعى إلى إبرام اتفاقيات مع واشنطن، وأبدى استعدادا لقبول السلام مع إسرائيل وتوطين اللاجئين الفلسطينيين داخل سوريا، إضافة إلى التفاوض على اتفاقية دفاع مشترك مع تركيا.
لم يستمر حكم الزعيم طويلا، إذ أطاح به زميله سامي الحناوي في 14 أغسطس/آب 1949، واتخذ بدوره مواقف اعتبرتها الولايات المتحدة معادية لها، مما عجل بالإطاحة به، إذ عملت على دعم انقلاب أديب الشيشكلي في 19 ديسمبر/كانون الأول 1949.
تصاعدت حدة التوتر عندما كلف الرئيس هاشم الأتاسي السياسي معروف الدواليبي بتشكيل حكومة جديدة في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، في خطوة لم يستسغها الأميركيون، إذ كانوا يعتبرون الدواليبي أحد أبرز القادة العرب المناهضين للولايات المتحدة، فاعترضوا على تعيينه عبر قائد الجيش آنذاك الشيشكلي.
عندما اكتشف الأميركيون أن ضغطهم لم يؤت أكله، سارعوا إلى دعم انقلاب الشيشكلي مجددا في 31 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، غير أنه وعلى عكس المرة الأولى سرعان ما اتخذ موقفا مستقلا عن الغرب، مطالبا بتعاون عادل ومتوازن مع الولايات المتحدة، ورافضا مشروع الدفاع الشرق أوسطي، وهو مشروع حاولت عبره الولايات المتحدة فرض نفوذها على المنطقة إبان الحرب الباردة.
بعد انتخاب شكري القوتلي مجددا في 1955، اتجه إلى التقارب مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر، حليف الاتحاد السوفياتي، مما أدى إلى تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة، التي حاولت مجددا الإطاحة بالقوتلي عام 1957، لكن محاولتها باءت بالفشل، مما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
في يناير/كانون الثاني 1957، أعلن الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور مشروعا عسكريا لمواجهة التوسع السوفياتي في المنطقة، مؤكدا أن الولايات المتحدة يجب أن تتدخل بذريعة ضمان استقلال الدول النامية ووقف المد الشيوعي، وجاءت إستراتيجية واشنطن حيال سوريا في تلك المرحلة بهدف احتواء النفوذ السوفياتي عبر دعم حلفاء إقليميين، خصوصا مصر، التي تلقت بدورها مساعدات أميركية.
الوحدة السورية المصرية وأثرها على العلاقات مع أميركا
بعد قيام الوحدة السورية المصرية في فبراير/شباط 1958، قدمت الولايات المتحدة مساعدات إلى سوريا بلغت 20 مليون دولار، إضافة إلى 20 مليون دولار أخرى على شكل مساعدات عسكرية، غير أن الولايات المتحدة شاركت لاحقا في دعم انقلاب الانفصال بالاعتماد على ضباط من حزب البعث كانوا على علاقة بها.
وعقب سقوط الوحدة، ساد نظام معاد للسياسة الأميركية، مما دفع الولايات المتحدة وإسرائيل للعمل على إسقاطه، كما ظهر في عصيان جاسم علوان في حلب عام 1962، كما لعب عدم رضا واشنطن عن حكم ناظم القدسي دورا في تمهيد الطريق لانقلاب حزب البعث في 8 مارس/آذار 1963.
بعد انقلاب حزب البعث، أبرمت سوريا اتفاقيتان مع الشركات الأميركية النفطية، كما اعتبر السفير الأميركي في بيروت آنذاك أرمان ماير أن حكومتي سوريا والعراق بقيادة حزب البعث تستحقان الدعم الأميركي "لمواجهتهما الشجاعة للشيوعية".
تصاعد التوترات بعد حرب 1967 وفرض العقوبات
بعد حرب 1967 شهدت العلاقات الأميركية السورية فتورا ملحوظا، وزادت حدة التوتر وتطورت إلى ما يشبه القطيعة مع انقلاب حافظ الأسد عام 1970، رغم زيارة مفاجئة للرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى دمشق في 15 يونيو/حزيران 1974، في محاولة لإحياء العلاقات بعد قطيعة دامت حوالي 7 سنوات.
تفاقم التوتر بعد إدراج الولايات المتحدة سوريا في "قائمة الدول الراعية للإرهاب" عام 1979، بسبب دعم دمشق لفصائل المقاومة الفلسطينية التي كانت تصنفها واشنطن "إرهابية"، مما أدى إلى فرض أولى العقوبات الاقتصادية والعسكرية على سوريا، شملت حظر بيع الأسلحة والتقنيات المتقدمة، وقيودا مالية وتجارية، وحظرا على المساعدات الأميركية.
تعاون هش في عهد كلينتون
ورغم مشاركة القوات السورية في التحالف الدولي أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991، لم ترفع الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية عن دمشق.
بعدها شهدت العلاقات في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون أثناء الفترة الممتدة بين 1993 و2001 تطورا طفيفا تمثل في تعاون هش، عندما حاول كلينتون دفع عملية السلام بين العرب وإسرائيل عبر اتفاق أوسلو، ونجح في إشراك سوريا ولبنان والأردن في المفاوضات، لكنه فشل في التوصل إلى اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل.
تصعيد العقوبات في عهد بوش
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 شهدت السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط تغيرا جوهريا، ورغم انخراط نظام بشار الأسد في التعاون الاستخباراتي مع الولايات المتحدة في فترة رئاسة جورج بوش الابن، فإن العلاقة بين البلدين عرفت في الوقت ذاته مواجهة حادة.
فقد وصف الرئيس الأميركي سوريا بأنها جزء من "محور الشر" المعادي للولايات المتحدة، وعمل على عزلها وممارسة ضغوط مستمرة من أجل تغيير مواقف النظام.
بلغت العلاقات أدنى مستوياتها قبل الغزو الأميركي للعراق في مارس/آذار 2003، إذ عارض النظام السوري الغزو واتهمته واشنطن بفتح حدوده أمام مقاتلين أجانب للقتال ضد قوات التحالف، مما دفع الكونغرس الأميركي إلى إقرار قانون "محاسبة سوريا" عام 2003.
وفرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية على سوريا شملت قيودا مالية وبنكية، قبل أن يصدر بوش الابن في مايو/أيار 2004 الأمر التنفيذي رقم 13338، معلنا حالة الطوارئ الوطنية وبدء برنامج عقوبات شامل على سوريا.
ازدادت حدة التوتر بعد اتهام النظام السوري آنذاك بالضلوع في اغتيال زعيم حزب تيار المستقبل اللبناني رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، ودعمه لحزب الله في حرب يوليو/تموز 2006.
مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009، حاول الانفتاح على سوريا رغم إدراكه عمق التدهور في العلاقات والمخاطر الكبيرة الناجمة عن اتهامات إدارة بوش لنظام بشار الأسد برعاية الإرهاب والتدخل في العراق.
الثورة وعقوبات قيصر وقوانين الكبتاغون
شكل اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس/آذار 2011 نقطة تحول حاسمة في تاريخ سوريا والعلاقات الدولية معها.
وأدى القمع الذي مارسه نظام الأسد ضد المتظاهرين السلميين إلى استنفار الولايات المتحدة وأوروبا، ودفعهما إلى فرض عقوبات واسعة وخانقة على سوريا، شملت حظر التعامل مع البنك المركزي السوري، وفرض قيود صارمة على صادرات النفط والمنتجات السورية.
علاوة على ذلك، أصدرت الإدارة الأميركية سلسلة من الأوامر التنفيذية التي استهدفت نظام الأسد بشكل مباشر. وفي عام 2020، أقر الكونغرس الأميركي "قانون قيصر"، الذي شكل إطارا لفرض عقوبات على كل من يتعامل مع النظام اقتصاديا أو عسكريا، إضافة إلى الشركات السورية والدولية التي تدعم الحرب أو تشارك في إعادة إعمار البلاد، مع استهداف موسع لدولتي روسيا وإيران الداعمتين للنظام.
وفي نهاية عام 2022، وقع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن قانون "الكبتاغون 1، الذي فرض عقوبات على كيانات وأفراد مرتبطين بنظام الأسد بسبب تورطهم في تجارة المخدرات، تلاه في 24 أبريل/نيسان 2024 توقيعه على قانون "الكبتاغون 2، الذي وسع نطاق العقوبات نفسها في محاولة للحد من التمويل غير المشروع للنظام السوري عبر هذه التجارة.
ما بعد سقوط نظام بشار الأسد
شهدت العلاقات الأميركية السورية تطورات لافتة بعد سقوط نظام الأسد، إذ وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 30 يونيو/حزيران 2025 أمرا تنفيذيا ينهي البرنامج الأميركي للعقوبات على سوريا، في خطوة فاجأت الكثيرين، حتى من دائرته المقربة.
وجاء هذا القرار عقب لقاء في مايو/أيار من العام نفسه، جمعه بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع على هامش منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في الرياض، تعهد فيه ترامب برفع العقوبات مساهمة منه في دعم جهود إعادة الإعمار في سوريا و"منح الشعب السوري فرصة جديدة" بعد انهيار نظام الأسد.
ويقضي الأمر التنفيذي برفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، بما في ذلك فك القيود على التعامل مع البنك المركزي السوري، وإعادة سوريا إلى النظام المالي الدولي.
وأبقى ترامب العقوبات سارية على الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وأفراد نظامه، والكيانات المرتبطة بالأسلحة الكيميائية وتلك المتهمة بالإرهاب والمخدرات، وكذلك المليشيات المرتبطة بإيران، كما ظل "قانون قيصر" ساريا، مع إشارة الإدارة الأميركية إلى عزمها البدء في مراجعة بعض جوانبه.
وتمثل هذه الخطوة تحولا جذريا في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وقد فتحت الباب أمام استثمارات إقليمية ودولية في عملية إعادة الإعمار، خاصة من تركيا والدول الخليجية.