الرئيسة \
تقارير \ العلاقات الأميركية – السورية عبر التاريخ: مد وجزر وتشابك مصالح
العلاقات الأميركية – السورية عبر التاريخ: مد وجزر وتشابك مصالح
27.09.2025
طارق علي
العلاقات الأميركية – السورية عبر التاريخ: مد وجزر وتشابك مصالح
طارق علي
الاندبندنت عربية
الخميس 25/9/2025
منذ وصول حافظ الأسد إلى حكم سوريا بصورة مباشرة في عام 1971 دخلت العلاقات السورية - الأميركية مرحلة من التشابك والتعقيد وثنائية المعايير، وغالباً ما كان يطفو على السطح عداء علني بصيغة مقننة حذرة في السنوات الأولى ممزوجة ببراغماتية سياسية تسعى إلى تحقيق أهداف ومصالح جيوسياسية في شرق المتوسط.
تحدث الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بدورتها الثمانين عن الواقع السوري الداخلي والعلاقات الخارجية والاستثمارات على طريق إعادة الإعمار، وتطرق للاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على أراضي سوريا، مؤكداً التزام بلاده باتفاق فض الاشتباك عام 1974.
وقال الشرع إن "الحكاية السورية حكاية تهيج فيها المشاعر ويختلط فيها الألم بالأمل، هي حكاية صراع بين الخير والشر وبين الحق الضعيف الذي ليس له مناصر إلا الله والباطل القوي الذي يملك كل أدوات القتل والتدمير".
وبذلك يكون الرئيس السوري الأول الذي يلقي كلمة في أميركا عموماً وأمام هذا المحفل خصوصاً منذ نحو 60 عاماً، بعد أن ألقى آخر كلمة للرئاسة السورية هناك في عام 1967 الرئيس السوري آنذاك نور الدين الأتاسي، وهو الرئيس الائتلافي، الذي جاء به تيار صلاح جديد وحافظ الأسد واللجنة العسكرية البعثية عقب انقلابهم الدموي على الرئيس الذي سبقه أمين الحافظ، في ما عرف حينها بحركة فبراير (شباط) 1966.
الأتاسي نفسه لم يستمر بحكم سوريا طويلاً، فما إن استتبت الأمور للأسد حتى أعاد الكرة وأطاح بمن بقي من رفاق دربه ومشروعه السياسي، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية الأتاسي والجنرال صلاح جديد، مدير مكتب شؤون الضباط والأمين القطري لحزب البعث، مودعاً إياهما سجن المزة العسكري في ما عرف بالحركة التصحيحية في الـ16 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، ليأتي بعدها الأسد بشخص من دون خلفية عسكرية أو سياسية يدعى أحمد حسن الخطيب، مولياً إياه مهمة الرئاسة لمدة ثلاثة أشهر، قبل أن يجري استفتاء لا منافسين فيه ويفوز به الأسد بنسبة تخطت 99 في المئة عام 1971.
الرئيس الذي لم يزر أميركا
يوم رحل حافظ الأسد في يونيو (حزيران) عام 2000 وصف بأنه الرئيس الذي رحل بعد 30 سنة في الحكم ولم تطأ قدماه أرض أميركا، التي وصل منها إلى دمشق كبار المسؤولين لحل القضايا الإشكالية العالقة بالمنطقة، لاسيما في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها، وعلى نهج حافظ سار ابنه بشار ولم تطأ قدماه أرض أميركا، فتجاوزت فترة حكمهما خمسة عقود من رفض زيارة أميركا استمرت بسبب ارتباطات عسكرية وفكرية بالمعسكر الشرقي.
الأسد الأب صاحب ثورة مارس (آذار) الانقلابية (1963) والحركة التصحيحية (1970) كان يحاول على الدوام استلهام مثله السياسي في حياته المبكرة فلاديمير لينين في ثورته البلشفية (1917) على أمل أن يقطف منها ثمار الماركسية بفجاجتها الديكتاتورية، وقد يكون نجح أحياناً، وكذا حاول أن يكون للعرب خليفة لعبدالناصر ومثالاً مناظراً لـ"ارنستو تشي غيفارا" و"فيديل كاسترو" و"هوغو شافيز"، لكنه فشل أيضاً، وأسباب الفشل هنا كثيرة، وحتى حين حاول أن يستلهم عقداً اجتماعياً محمولاً من أفكار جاك جان روسو والنابليونية الثورية، فبدل تحطيم أسوار الباستيل شرع ببناء أسوار سجن صيدنايا.
ولأجل كل ذلك كان يسعى إلى أن يموت ويقال إن قدماه لم تطأ أرض أميركا، بينما كان من قصره على سفح جبل قاسيون يدير خيوط اللعبة في المنطقة، بحسب اعتقاده، بخلاف ولده بشار الذي لم يكن من الأساس معداً ليكون رئيساً لولا وفاة أخيه الأكبر باسل في حادثة سيارة مفاجئة على طريق مطار دمشق الدولي عام 1994.
الخطاب الأخير
وفي تسجيل نادر لظهور آخر رئيس سوري في الأمم المتحدة، اطلع عليه موقع "اندبندنت عربية"، وكان ذلك في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) 1967، قال الأتاسي في كلمته المقتضبة: "هناك غزو إسرائيلي استعماري لأجزاء جديدة من وطننا العربي، ولإدانة هذا العدوان، وإزالة آثاره كاملة من دون قيد أو شرط، إننا هنا لنعبر عن ثقتنا بالضمير العالمي، الذي يتمثل اليوم في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، كل الشعوب العربية والمحبة للسلام تتطلع إلى هذا الاجتماع"، واتهم الأتاسي دولاً مثل الولايات المتحدة بالحؤول دون قيام مجلس الأمن بمسؤولياته في إدانة إسرائيل، إلى آخر ما جاء في كلمته التي وصفها سياسيون وسفراء بأنها كتبت بـ"الحبر البعثي" ذاته الذي سيطر على البلاد لعقود من دون تغيير في الخطاب وشكله ونوعه.
العلاقة مع السوفيات
في عام 1964 تقلد ليونيد بريجنيف زعامة الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي، وبقي في المنصب حتى عام 1984، وكان حليفاً وشريكاً موثوقاً لحافظ الأسد في مرحلة كانت تمر فيها سوريا بأسوأ ظروفها الميدانية والسياسية والعسكرية والصراع مع "الإخوان المسلمين"، وظل الأسد متمسكاً بهذا التحالف القوي الذي كان يؤمن له حاجاته الدولية والعسكرية والمالية أحياناً في نزعة واضحة نحو المعسكر الشرقي. كان يمكن الاستدلال على قوة العلاقة بين الطرفين من كمية الزيارات المتبادلة، فضلاً عن دعم بريجنيف لـ"قوى التحرر الوطني" في المنطقة، وضمناً سوريا التي دعمها اقتصادياً وطور بناها التحتية بصورة أو بأخرى، وصولاً إلى المبادرة لتسوية النزاع العربي - الإسرائيلي، وفق دعم حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره.
استمرت هذه الصورة من التعاون الوثيق حتى وصل ميخائيل غورباتشوف إلى الحكم في الاتحاد السوفياتي، وهي الفترة التي شهدت انهياره لعوامل عدة، منها مشاريع الإصلاح الداخلية والخارجية التي أدت إلى خفض مستوى التعاون لأدنى الحدود مع سوريا برئاسة حافظ الأسد ضمن ما عرف بسياسة "الغلاسنوست (الانفتاح) والبريسترويكا (إعادة الهيكلة)". وأدت هاتان السياستان إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي إلحاق ضرر جسيم بمشروع سوريا الاستراتيجي شرقاً.
مرحلة التعقيد
منذ وصول حافظ الأسد إلى حكم سوريا بصورة مباشرة في عام 1971 دخلت العلاقات السورية - الأميركية مرحلة من التشابك والتعقيد وثنائية المعايير، غالباً ما كان يطفو على السطح عداء علني بصيغة مقننة حذرة في السنوات الأولى ممزوجة ببراغماتية سياسية تسعى إلى تحقيق أهداف ومصالح جيوسياسية في شرق المتوسط. وكثيراً ما اصطدمت مصالح البلدين في ملفات حساسة كثيرة على رأسها قضايا صراع الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، والصراع العربي - الإسرائيلي، والحرب الأهلية اللبنانية، والثورة الإيرانية، وحربا الخليج الأولى والثانية، وملف الإخوان المسلمين، وأحداث 11 سبتمبر 2001، والوجود السوري في لبنان، وغزو العراق، والثورة السورية 2011.
على رغم كل التشابك في مرحلة وصول الأسد الأب إلى الحكم، لكن المفاجأة حصلت في عام 1974 بزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون وزوجته بات ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى دمشق بعد قطيعة دامت منذ حرب 1967. كان الهدف من تلك الزيارة محاولة إعادة إحياء العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، وكادت الأمور لتسير على ما يرام لولا أن عادت الولايات المتحدة لتفرض عقوبات عام 1979 على سوريا بوصفها دولة داعمة للإرهاب، مما أفضى إلى منع بيع الأسلحة والمعدات التقنية المتقدمة لنظام دمشق مع قيود مالية وتجارية.
بعد ذلك وقفت سوريا مع إيران في حربها ضد العراق بخلاف رغبة الأميركيين في الثمانينيات، لكنها حاولت إصلاح موقفها بالوقوف مع الكويت ضد الغزو العراقي في التسعينيات بناء على رغبة أميركية، لكن ذلك لم يغير شيئاً حقيقة في الموقف الغربي على رغم مشاركة سوريا براً في التحالف الدولي منذ عام 1991 في مواجهة صدام حسين.
ظلت الأمور كذلك حتى عام 1993 مع وصول بيل كلينتون إلى رئاسة أميركا التي بقي فيها حتى عام 2001 وحاول خلالها دفع عجلة السلام مع الإسرائيليين، ونجح حيناً فيما فشل أحياناً أخرى بسبب تعنت حافظ الأسد على ما تذكره وثائق ترتبط بتلك المرحلة.
وبعد تفجيرات برجي التجارة العالميين بنيويورك في عام 2001، تغيرت السياسة الأميركية تماماً في الشرق الأوسط، وعلى رغم محاولة بشار الأسد التواصل استخبارياً مع أميركا، لكن ذلك لم يشفع له على رغم دور أميركا في توريثه الحكم إثر اجتماعه المطول والمغلق مع وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت عقب وفاة والده مباشرة في عام 2000.
في مرحلة تداعيات التفجيرات العالمية وخلال الولاية الأولى للرئيس جورج دبليو بوش، الذي اعتبر بشار الأسد ركيزة في ما سماه "محور الشر"، وطوال فترة حكمه التي امتدت ثمان سنوات عمل على محاصرة سوريا وعزلها عن محيطها تماماً. وكانت ذروة الصدام عشية غزو العراق في عام 2003، إذ أمن الأسد معبراً آمناً للمتشددين من سوريا إلى العراق. وإثر ذلك تلقت سوريا حزمة عقوبات جديدة، وتلا ذلك عقوبات تتعلق بالوجود السوري في لبنان، ومن ثم اتهام نظام الأسد باغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري في الـ14 من فبراير (شباط) 2005.
مع وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة حاول فتح صفحة جديدة مع دمشق، فأرسل في عام 2010 الدبلوماسي المخضرم روبرت فورد ليكون سفيراً لدى سوريا، لكن سرعان ما اندلعت الثورة السورية في أواسط مارس (آذار) 2011، وأدى التعامل الهمجي من جانب القوات الحكومية مع المتظاهرين السلميين إلى سيل من العقوبات الأميركية والأوروبية والعربية وغيرها. وطاولت تلك العقوبات روسيا وإيران وكل دولة أو كيان أو مؤسسة أو فرد يتعامل مع النظام السوري برئاسة بشار الأسد، واستمرت الحال على ما هو عليه حتى وصلت حصيلة ما تلقته سوريا بأكثر من 2500 عقوبة دولية، إلى أن تمكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من التدخل بثقله ووزنه الدولي والإقليمي لإصلاح ذات البين بين سلطات دمشق والولايات المتحدة بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى الحكم والرئيس أحمد الشرع إلى الحكم في سوريا مطيحاً بنظام الأسد أواخر العام الماضي، بل وعقد لقاء مباشر بينهما في السعودية في مايو (أيار) الماضي.
عصر جديد
وبناء على ذلك اللقاء الذي وصف بالتاريخي في المملكة بين الرئيسين السوري والأميركي وبحضور ولي العهد السعودي، ألقى الشرع كلمة في الأمم المتحدة حول الأوضاع المستجدة في سوريا، إلى جانب فعاليات أخرى، ويأتي ذلك في ظل تعيين ترمب لسفيره الموثوق والمقرب منه لدى تركيا كمبعوث خاص إلى سوريا، وفي الوقت ذاته كشف المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية مايكل ميتشل عن رغبة واشنطن في "بدء عصر جديد" في العلاقة مع سوريا، وخصوصاً بعد اللقاء الذي جمع الشرع بالمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك، في دمشق أخيراً.
وقال ميتشل في تصريحات صحافية إن "الحدث كان تاريخياً بالفعل، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا ينفذ تعهدات الرئيس الأميركي بوتيرة لافتة جداً، وهذه إشارة واضحة من البيت الأبيض إلى أن الإدارة تريد أن تبدأ عصراً جديداً في العلاقات مع سوريا بناء على الشراكة والتعاون الثنائي". وأضاف أن الرئيس ترمب "أدرك بأن سوريا كانت تعاني عقوبات اقتصادية لا فائدة منها بعد سقوط بشار الأسد، والشعب السوري كان يفتقر إلى الاستثمارات الضرورية بسبب هذه العقوبات"، مبيناً أن "هذا العصر الجديد سيفتح باب الاستثمارات ويحسن الأمور الاقتصادية، وهذا بدوره سيفيد شعب سوريا والمنطقة ككل".
من جانبه قال المبعوث الخاص الأميركي توماس باراك إن سياسة الولايات المتحدة الحالية تجاه سوريا "لن تشبه السياسات خلال الأعوام الـ100 الماضية، لأن تلك السياسات لم تنجح"، مؤكداً أن بلاده تتجه نحو سياسات مختلفة عما كان متبعاً في العقود الماضية.