الرئيسة \  تقارير  \  العقيدة الأمنية في سوريا الجديدة .. ضرورة وطنية أم ترف مؤجل؟

العقيدة الأمنية في سوريا الجديدة .. ضرورة وطنية أم ترف مؤجل؟

11.06.2025
بكر علوش



العقيدة الأمنية في سوريا الجديدة .. ضرورة وطنية أم ترف مؤجل؟
بكر علوش
سوريا تي في
الثلاثاء 10/6/2025
زيارات عديدة ما زال يقوم بها الرئيس الشرع إلى دول الجوار وأطراف فاعلة في المجتمع الدولي، حيث تتصدر ملفات الأمن والاقتصاد ورفع العقوبات (رُفعت جميعها مؤخراً) والمصالح المشتركة جدول المباحثات. ولا شك أن مثل هذه اللقاءات تُدار في ضوء رؤية أمنية واضحة تتبناها كل دولة، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره السوري، حين قال: "لدينا مصالح أمنية".
هذا التصريح يثير تساؤلا محوريا: ما هي العقيدة الأمنية التي تتحرك سوريا على أساسها اليوم؟ وما هي مرتكزاتها الفكرية والسياسية والجغرافية؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب أولا الوقوف على مفهوم "العقيدة الأمنية" بحد ذاته، باعتبارها الإطار النظري والعملي الذي تنطلق منه الدولة في فهم التهديدات وكيفية التعامل معها، وتوجيه استراتيجياتها الأمنية والعسكرية والدبلوماسية. كما تقتضي استعراض المحددات التي تسهم في صياغة هذه العقيدة؛ من عوامل داخلية مثل الأيديولوجيا والنظام السياسي، إلى أخرى خارجية كالموقع الجيوسياسي والتفاعلات الإقليمية والدولية.
العقيدة الأمنية
تعرف العقيدة الأمنية على أنها "مجموع القواعد والمبادئ والنظم العقائدية المنظمة والمترابطة التي توجه سلوك الدولة الأمني، سواء التعاوني أو الصراعي، وقراراتها على المستوى المحلي والدولي، والتي تحدد نظرة وقراءة قادتها لبيئتهم الأمنية، وكيفيات استخدام القوة القومية بجميع أشكالها (العسكرية، السياسية، الاقتصادية، والثقافية..)، وكيفية توظيف هذه القوة لتحقيق أهداف الاستراتيجية، وأخيرا طبيعة الوسائل والأدوات المستخدمة (عسكرية، اقتصادية، دبلوماسية) لتطبيق مبادئ العقيدة وأهدافها على أرض الواقع"1، انطلاقا من هذا التعريف يتضح لنا مدى أهمية العقيدة الأمنية في تحديد وتوجيه سياسات الدولة والتعامل مع الملفات الأمنية الداخلية والخارجية على حد سواء.
الاستراتيجية الأمنية
تُعد الاستراتيجية الأمنية التطبيق العملي للعقيدة الأمنية، إذ تنطلق من المبادئ والتوجهات العامة التي تحددها العقيدة لتُحوّلها إلى خطة تنفيذية واضحة ومتكاملة.
فهي تُعنى بالإجابة عن سؤال "كيف سنتعامل مع التهديدات؟"، وتحدد الوسائل والآليات المناسبة لذلك. وتشمل هذه الاستراتيجية جوانب متعددة، مثل تخصيص الموارد البشرية والمادية، وتشكيل التحالفات الإقليمية والدولية، وتعزيز القدرات الدفاعية والعسكرية، بالإضافة إلى اختيار الأدوات الأنسب سواء كانت دبلوماسية أم عسكرية لمواجهة التحديات الأمنية المختلفة. وتُظهر الاستراتيجية الأمنية مدى مرونة الدولة وقدرتها على التكيّف مع المتغيرات، ضمن إطار ينسجم مع عقيدتها الأمنية الأساسية.
العقيدة الأمنية السورية في عهد نظام الأسد
العقيدة الأمنية في سوريا قبل انتصار الثورة، لم تُصَغ ضمن إطار مؤسسي واضح، بل تبلورت عبر تفاعلات مع البيئة الداخلية والإقليمية، بما يخدم أولويات النظام في البقاء والسيطرة.
لقد كانت العقيدة الأمنية في عهد نظام الأسد الأب ومن بعده الابن مبنية على أمر واحد، وهو تثبيت أركان الحكم للبقاء في السلطة، وبالتالي سخرت عائلة الأسد جميع موارد الدولة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في هذا الاتجاه، وعلى سبيل المثال، لم يتردد حافظ الأسد بالتخلي عن جزء من الأراضي السورية – الجولان – لصالح الكيان المحتل في مقابل تثبيت سلطته ونفوذه في سوريا، وكذلك بشار الأسد الذي جعل الأراضي السورية مرتعا لكل طامع في سبيل البقاء في السلطة.
من الضروري أن تُبنى العقيدة الأمنية على أسس تمثيلية وشفافة، تعبّر عن إرادة الشعب، لا عن مخاوف السلطة، فخصوم النظام ليسوا بالضرورة خصوما للدولة.
محددات العقيدة الأمنية السورية
لفهم ملامح العقيدة الأمنية السورية الجديدة، لا بد من التوقف عند أبرز المحددات التي تسهم في تشكيلها وتوجيهها. فالعقيدة الأمنية السورية، تأتي نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل داخلية كتركيبة النظام السياسي والبنية الاجتماعية، وأخرى خارجية كطبيعة البيئة الإقليمية والصراعات المحيطة. وهذه المحددات تلعب دورا محوريا في رسم السياسات الأمنية وتحديد طبيعة الأجهزة الأمنية ووظائفها.
المحدد الأول: التاريخ
تلعب الروابط التاريخية للدولة دورا محوريا في بلورة عقيدتها الأمنية وصياغة استراتيجياتها. ففي الحالة السورية، تُعد العلاقة التاريخية مع روسيا مثالا واضحا على ذلك.
خلال سنوات الثورة، دعمت روسيا نظام الأسد باعتباره الممثل الرسمي للدولة السورية. وبعد سقوط النظام، ورغم تراجع النفوذ الروسي بطبيعة الحال، فإن البعد التاريخي للعلاقات بين البلدين أسهم في فتح قنوات تواصل مبكر بين موسكو والإدارة السورية الجديدة، الأمر الذي ساعد في تجنّب تصعيد محتمل، واشتعال مواجهة بين روسيا وسوريا الجديدة.
المحدد الثاني: الجغرافيا
يسهم الموقع الجغرافي بشكل أساسي في تشكيل العقيدة الأمنية من خلال زاويتين: الأولى ترتبط بالخصائص الطبيعية مثل المناخ وتوزيع الموارد، والتي تحدد مصادر التهديد والاحتياجات الأمنية؛ والثانية تتعلق بالبعد الجيوبوليتكي، كموقع الدولة ومدى قربها من الممرات الدولية، أو وقوعها في قلب مناطق النزاع، مما يفرض حساسية في التعامل الأمني. كذلك، تؤثر طبيعة الدول المجاورة – سواء من حيث الاستقرار أو الطموحات الإقليمية – في درجة الحذر أو الطمأنينة التي تنعكس على السياسات الأمنية.
ويتجلى تأثير العامل الجغرافي بوضوح في العقيدة الأمنية السورية، في ظل موقع جغرافي محفوف بالتحديات، فالموقع الجغرافي لسوريا، الواقع عند تقاطع مصالح إقليمية ودولية، وحدودها المشتركة مع قوى متصارعة أو غير مستقرة، يفرض على الدولة تبني عقيدة أمنية تراعي متطلبات الدفاع الإقليمي والتعاون الحدودي. وفي ظل التحول نحو نظام سياسي أكثر انفتاحا، فإن التعامل مع الجغرافيا لم يعد يعني فقط التحصين العسكري، بل أيضًا بناء شراكات أمنية إقليمية، وتعزيز قدرات الاستجابة للتحديات العابرة للحدود، مثل الإرهاب، والتهريب.
المحدد الثالث: الأيديولوجيا
لا يمكن فصل العقيدة الأمنية عن الإطار الفكري والأيديولوجي الذي تتبناه الدولة، إذ تنعكس القيم والمبادئ التي تقوم عليها على نظرتها إلى التهديدات وطريقة تعاملها معها. فالعقيدة الأمنية، في جوهرها، هي انعكاس للتوجهات الأيديولوجية التي تتبناها الدولة، وفي الحالة السورية، تشير خطابات الإدارة الجديدة إلى أنه سيعاد تشكيل العقيدة الأمنية وفقا لأيديولوجيا وطنية جامعة، تقوم على مفاهيم السيادة، والمواطنة، والعدالة، بعد عقود من هيمنة أيديولوجيا أمنية اختزلت الدولة في النظام.
المحدد الرابع: النظام السياسي
يُعد العامل السياسي من أبرز المحددات التي تؤثر في صياغة العقيدة الأمنية، إذ تؤثر طبيعة النظام السياسي والعلاقة بين مؤسساته على كيفية اتخاذ القرارات الأمنية. ففي النظم الديمقراطية، تشارك مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في صياغة السياسات الأمنية، في حين تحتكر الأنظمة السلطوية عملية الصياغة هذه، وفي الحالة السورية بعد انهيار منظومة الاستبداد، من الضروري أن تُبنى العقيدة الأمنية على أسس تمثيلية وشفافة، تعبّر عن إرادة الشعب، لا عن مخاوف السلطة، فخصوم النظام ليسوا بالضرورة خصوما للدولة.
إن العقيدة الأمنية ليست ترفا فكريا أو مجرد تصور أمني ضيق، بل هي نتاج تفاعل معقد بين التاريخ، والجغرافيا، والأيديولوجيا، وانعكاس لتركيبة الدولة، وهويتها السياسية، ومحيطها الإقليمي.
نحو عقيدة أمنية جديدة
إن غياب عقيدة أمنية واضحة ومشتركة في سوريا الجديدة قد يحمل تبعات خطيرة تمس الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
وأولى هذه التبعات تتمثل في تضارب الرؤى داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية، حيث إن الكيانات العسكرية التي تشكّلت خلال سنوات الصراع، وعلى رأسها الفصائل المدمجة في الجيش العربي السوري، لم تنشأ على قاعدة موحدة من المبادئ والأفكار، أو التهديدات المشتركة.
ونتيجة لذلك، يبرز غياب التوافق حول أولويات الأمن الوطني، مما يؤدي إلى ازدواجية في التقدير الأمني، وربما إلى حلول متضاربة في التعامل مع التحديات. وتنعكس هذه الفوضى في صعوبة توجيه وتوحيد الجهود الأمنية بما يخدم المصالح العليا للدولة السورية. فغياب مرجعية عقائدية أمنية يجعل من الصعب رسم سياسات موحدة.
من جهة أخرى، فإن هذا الفراغ في الرؤية الأمنية يفتح الباب أمام التدخلات الإقليمية والدولية، حيث تسعى بعض القوى الخارجية إلى ملء هذا الفراغ من خلال التأثير على أولويات الأمن السوري، بما يتماشى مع مصالحها الجيوسياسية، وليس بالضرورة مع ما يخدم مصالح الشعب السوري، ولا تتوقف التداعيات عند المستوى المؤسساتي والسياسي فحسب، بل تمتد إلى العلاقة بين المجتمع والأجهزة الأمنية. فكلما تأخر إنتاج العقيدة الأمنية الوطنية، زادت الهوة بين المواطن ومؤسسات الأمن، وانعدمت الثقة، ما يخلق بيئة خصبة لعدم الاستقرار، ورفض الانخراط المجتمعي في دعم جهود الدولة، كما أن هذا الوضع يضعف قدرة الدولة على تطوير استراتيجيات وقائية واستباقية لمواجهة التحديات المستقبلية، سواء أكانت تهديدات أمنية داخلية كالإرهاب والجريمة المنظمة، أو خارجية كحروب النفوذ الإقليمي، أو التهديدات العابرة للحدود.
توصيات
في ضوء ما سبق، تبدو الحاجة ملحّة لأن تبادر الحكومة السورية الجديدة إلى إطلاق عملية تشاورية شاملة، تُشرك فيها خبراء في الشأن الأمني، إلى جانب بعض الفعاليات الوطنية، وممثلين عن المجتمع المدني، من أجل بلورة عقيدة أمنية وطنية تُعبّر عن التحديات الفعلية التي تواجه الدولة السورية، وتراعي خصوصياتها الجيوسياسية والمجتمعية. هذه العملية يجب أن تفضي إلى صياغة وثيقة مرجعية رسمية تُنشر على الرأي العام، لتكون بمنزلة الإطار الناظم لعمل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتؤسس لعلاقة شفافة بين أجهزة الأمن والمجتمع، تقوم على أساس حماية حقوق الطرفين على حد سواء.
ولضمان عدم تكرار ممارسات الماضي، يجب أن تخضع الأجهزة الأمنية لرقابة مدنية فعالة، وتعمل تحت سلطة مؤسسات الدولة، ما يعزز الشرعية ويمنع تغول السلطة الأمنية. ومن الضروري في هذا السياق تطوير معايير مهنية واضحة في التعيينات داخل القطاع الأمني، بعيدًا عن منطق التوازنات الفصائلية، الذي وإن كان مبررا في مراحل معينة لضمان الاستقرار، إلا أنه قد يعيق بناء مؤسسة أمنية موحدة ذات طابع وطني جامع.
خاتمة
إن العقيدة الأمنية ليست ترفا فكريا أو مجرد تصور أمني ضيق، بل هي نتاج تفاعل معقد بين التاريخ، والجغرافيا، والأيديولوجيا، وانعكاس لتركيبة الدولة، وهويتها السياسية، ومحيطها الإقليمي. فكل عامل من هذه العوامل يسهم بدرجة ما في توجيه العقيدة الأمنية وصناعة القرار الأمني. وفي السياق السوري، إن الحديث عن العقيدة الأمنية يكتسب بعدا خاصا في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، فقد كانت العقيدة الأمنية السابقة تقوم على منطق "أمن النظام"، لا "أمن الدولة والمجتمع"، إذ اختزل النظام السوري العقيدة الأمنية في أدوات قمعية هدفها حماية السلطة، ما جعل الأجهزة الأمنية تعمل خارج أي إطار وطني جامع، وأدى إلى شرخ عميق بين مؤسسات الدولة والمجتمع السوري.
واليوم، ومع التحول السياسي الحاصل، وانفتاح الأفق أمام بناء دولة سورية جديدة، تغدو إعادة تشكيل العقيدة الأمنية أولوية وطنية لا غنى عنها.
فهذه العقيدة يجب أن تُبنى وفق رؤية شاملة تأخذ في الاعتبار مصالح السوريين جميعا، وتفصل بين الدولة والسلطة، وتعتمد على التوازن بين متطلبات الأمن وضرورات الحرية والعدالة. كما يجب أن نستفيد من التجربة المريرة لنتجنب إنتاج عقلية أمنية إقصائية أو مركزية مفرطة، إن تأسيس عقيدة أمنية جديدة في سوريا يتطلب إصلاحا جذريا في البنية المؤسساتية، وتوجها واضحا نحو بناء دولة قانون، تكون فيها الأجهزة الأمنية خاضعة للمساءلة والرقابة، وتعمل لخدمة الناس لا ممارسة العنف عليهم، هكذا يمكن لسوريا أن تطوي صفحة الماضي الأسود، وتفتح صفحة مشرقة لمستقبل أكثر أمنا وعدلا واستقرارا.