الرئيسة \  تقارير  \  الطريق المقطوعة بين بيروت ودمشق

الطريق المقطوعة بين بيروت ودمشق

24.08.2025
توفيق شومان



الطريق المقطوعة بين بيروت ودمشق
توفيق شومان
العربي الجديد
السبت 23/8/2025
في علوم التاريخ والاجتماع والسياسة والجغرافيا، يكاد التفريق بين اللبنانيين والسوريين من ثامن المستحيلات، إذا أضيف مستحيلٌ إلى السبعة المعروفة. ومع ذلك، لم تستقم العلاقة بين بلديهما منذ استقلال الدولتين في منتصف الأربعينيات، فمرّة الذريعة خلاف ناشب بين البرجوازيتين الحاكمتين في دمشق وبيروت، وحيناً كان اختلاف الهوى بين ما هو غربي في لبنان وما هو شرقي في سورية سبباً لعدم التقاء الخطّين المتوازيين، وفي أحيانٍ كان الفائض القومي عند السوريين والنقصان العروبي لدى اللبنانيين حائلاً دون أن يعثر الجمعان على كلمة سواء، كما قيل ويقال.
طوال العقود الفائتة، سقطت أنظمة في سورية وجاءت أخرى تلعن ما سبقها، لكن الحال السورية لم تتبدّل حيال لبنان، فالهاجس منه والأمل به بقيا ثابتين لا يعرفان انزياحاً ولا زوالاً، وتلظّى لبنان بنار الحروب والمتغيّرات وتعاقب السلطات والانشطارات، لكن الحذر من سورية ظلّ يخيط على النول نفسه، فكأن سورية تجاه لبنان مثل إسبارطة التي لا تنفكّ تهدّد أثينا، وكأن لبنان بالنسبة لسورية يهوذا الإسخريوطي الذي وشى بالسيد المسيح لقاء ثلاثين قطعة من الفضة.
ثمة قناعة لبنانية، أو ما يعادلها، بأن دمشق تعتبر قضية الموقوفين السوريين تعلو على القضايا الأخرى
مرّة أخرى، حال الحوْل على سورية ودارت أيام الأنظمة، فأفل نجم أحدها في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وسطع نجم آخر، ولم يقل السوريون الجدد بعد كلمتهم حيال لبنان، ما يريدون منه وما لا يريدون، فيما اللبنانيون يسألون عن الآليات التي يمكن أن تجعل طريق الشام بين بيروت ودمشق آمنةً وسالكة، كما كانت في التواريخ القديمة، وليس كما تقطّعت في العقود الحديثة.
في كل حديث عن العلاقات اللبنانية ـ السورية الحالية، يستحضرون في بيروت زيارتين لرئيسي الحكومة نجيب ميقاتي ونواف سلام إلى دمشق في السنة الجارية، 11 يناير/كانون الثاني و14 إبريل/نيسان، وإزاء كل نقاش بشأن نتائج الزيارتين يطل السؤال الشائك: لماذا لا يزور الوزراء السوريون لبنان؟... ليس في النقاشات من إجابة قاطعة على ذاك السؤال، ومع ارتفاع الحديث أخيراً عن احتمال زيارة وفد سوري بيروت، فتشكيلة الوفد، وفق المتداول في الدوائر البيروتية، لا ترقى إلى مستوى وزاري، وهدفها البحث في قضية الموقوفين السوريين في لبنان بدرجة أولى. وبموازة هذه الدرجة، ثمّة مطالبة سورية بإطلاق سراح لبنانيين تعاطفوا مع المعارضة السورية قبل وصولها إلى السلطة، ولو استقرّت هذه المعلومات على اليقين، على الأرجح قد يكون من السهل إغلاق النافذة الضيقة المفتوحة بين دمشق وبيروت من جديد، لاعتباراتٍ محصورة بقراءة المطلب السوري بأنه مفتاح عبور سياسي وأمني إلى الداخل اللبناني.
وما يُحكى في بيروت أن ثمة قناعة لبنانية، أو ما يعادلها، بأن دمشق تعتبر قضية الموقوفين السوريين تعلو على القضايا الأخرى، بل هي المدخل إلى اختبار بواطن بيروت وسرائرها، وإذا لم تقابل السلطات اللبنانية الرغبة السورية بالحُسنى، فدمشق ستعرض عنها وتنحو إلى سبيلها الخاص، غير آبهة بمدّ اليد إلى جارها الشقيق، فيما يرتفع الصوت من بيروت متسائلاً: هل تستوي الجناية مع الجنحة وتعتدل الأحكام بين مرتكب الكبائر وآثم بالصغائر وصولاً إلى قتلة جنود من الجيش اللبناني؟ ... وحين يسأل السائل عن دقّة هذه العقدة المانعة لانفتاح العلاقة بين لبنان وسورية، يأتي الرد على جناح السرعة أن أوان تعبيد الطريق بين الطرفين لم يحن بعد، ففي دمشق ثمّة أسئلة لا تقلّ شأناً عن نظيراتها في بيروت، ومنها عدم زيارة الرئيس اللبناني جوزيف عون العاصمة السورية، وقد زار عواصم عربية عدة، فيما دمشق أقربها. ولمّا يُشار إلى أن وزير الخارجية السورية، أسعد الشيباني، زار باريس مرّتين في أقل من شهر، وعلى القياس الجغرافي نفسه، بيروت أقرب من باريس، يخيم الصمت الثقيل على فضاء النقاش والأسئلة.
 تعيش بيروت على قارعة المتاهة، فشرقُها مجهول وغربُها غير معلوم
وإلى هذا التبادل في الأسئلة والأسئلة المضادّة، وبما يشبه التقاصف، أضاءت الورقة الأميركية التي تبنّتها الحكومة اللبنانية بقرار نزاعي وصدامي داخلي في الخامس والسابع من اغسطس/آب الحالي، وعنوانها "حصر السلاح"، على عقدة جديدة في العلاقات السورية ـ اللبنانية، ففي صلب الورقة دعوة إلى ترسيم الحدود بين البلدين، وعوامل العقدة تتمثل في موافقة دمشق على عملية الترسيم، ولم تقرع العاصمة السورية جرس الموافقة بعد، وكأنها تتهيّب الترسيم برمته، أو أنها تخشى أن تفعل ما لم يفعله قدماء دمشق منذ استقلال سورية قبل ثمانية عقود وأزيد.
بحسب ما يقال في بيروت، أربع إجابات تريدها دمشق قبل الولوج إلى حوار جدّي مع بيروت: مبادرة لبنانية حول قضية الموقوفين السوريين في لبنان، عدم مطالبة لبنان بمزارع شبعا المحتلة، معرفة مصير الودائع المالية السورية في المصارف اللبنانية، تسوية أوضاع السوريين النازحين إلى لبنان وعدم التضييق عليهم، بمعنى أن يُسقط لبنان من جدول أعماله وأفكاره المطالبة بعودة النازحين إلى بلادهم، على الأقل خلال السنوات المنظورة.
هل لدى بيروت ما تقوله في هذا الشأن، أو في هذه الشؤون والشجون؟ الإجابة السريعة أن بيروت تعيش على قارعة المتاهة، فشرقُها مجهول وغربُها غير معلوم.