الرئيسة \
تقارير \ الضفدع في القدر المغلي.. البحث عن الطريق الثالث
الضفدع في القدر المغلي.. البحث عن الطريق الثالث
02.09.2025
عبدالله مكسور
الضفدع في القدر المغلي.. البحث عن الطريق الثالث
عبد الله مكسور
تلفزيون سوريا 2025.09.01
عندما أدرِّب الصحفيين في مناطق النزاعات والحروب والجغرافيات ذات المخاطر المتعددة، أروي قصة الضفدع الذي أُلقيَ في ماء يغلي فوثبَ مذعوراً لينجو بنفسه، لكن ضفدعاً آخر وُضع في ماء بارد، ثم رُفعت حرارته درجةً تلو أخرى، لم يشعر بالخطر، بل انساب مع الدفء الوهمي، حتى إذا بلغ الماءُ الغليانَ كان قد فقد القدرة على النجاة تماماً. لم يقتله الماء في لحظته الأخيرة، بل قتله اعتياده التدريجي على الخطر من دون إخضاعِه للقياس والمعالجة الآنية.
المجتمعات تنخرط بحالة أو أخرى ضمن نظرية الضفدع في القدر المغلي، فالانهيارات الكبرى لا تهبط كالصواعق، بل تتقدّم بخطى متخفّية، مواربة، مثل ماء يسخن على نار هادئة. يبدأ التصدّع ببطء: اقتصاد يترنّح، مؤسسات تفقد فاعليتها، روابط اجتماعية تتفسّخ، وسلطة تشتد قبضتها مع ارتفاع منسوب جشعها. وفي هذه الحالة ينشغل الناس بالتأقلم بدل المواجهة، مع كل درجة جديدة من السخونة، حتى تغدو الكارثة واقعاً عادياً، ويصير الشذوذ هو الطبيعي.
الخطر الأعظم ليس في لحظة الغليان الأخيرة، بل في ذلك الترويض الصامت الذي يجعل الناس ينسون أنّ ما يعيشونه استثناء لا ينبغي أن يكون. والوعي هنا يصبح أشبه بإنقاذ النفس من موت محقق: أن نسمّي الأشياء بأسمائها قبل أن يفقد المجتمع لغته للتمييز بين الحياة والموت، وبين الأمان والهاوية.
إسبانيا وسوريا:
عندما كان الأسد الأب يؤسس نظام حكمه الديكتاتوري في سنواته الأولى، أسدلت الحياةُ آخر أيامها على حياة الجنرال فرانكو في إسبانيا عام 1975. كانت إسبانيا – كما تقول المصادر- تقف على فوهة قدر يغلي بعد عقود من الديكتاتورية والقبضة الأمنية. حرارة الاستبداد أنهكت الروح الوطنية، لكن الإسبان على اختلاف قومياتهم أدركوا أن القفز في النار لن يجلب لهم الخلاص، وأن البقاء في الماء الساخن ليس إلا موتاً بطيئاً. كان لا بد من طريق ثالث: نار تُطفَأ بالتدرج، وحرارة تُروَّض بالحكمة. ربما كانت اللحظة الفاصلة في هذا المشهد مع نهاية العام التالي أي في ديسمبر من عام 1976، حين دُعي الشعب إلى استفتاء على قانون الإصلاح السياسي. لم يكن ورقة عابرة أو تعديلًا تقنياً من السلطة، بل كان بوابةً تاريخية للخروج من أسر الماضي. نعم للانتقال، نعم لانفتاح الأبواب الموصدة. لقد كان ذلك الاستفتاء أقرب إلى تعميد جماعي بالمفهوم الكنسي لإرادة الحرية، حيث وجد المواطن العادي نفسه شريكاً في صنع المستقبل، بعد أن كان ظل سنوات طوال مجرد تابع لإرادة السلطة.
أما قانون الإصلاح السياسي نفسه، فقد كان بمثابة صكّ ولادةٍ لعصر جديد. منح البرلمان المنتخب شرعية حقيقية، وفتح الطريق لتعددية حزبية بعد صمت خانق. لأول مرة منذ عقود عادت السياسة إلى الشارع، والمناقشة إلى البيوت، والأمل إلى القلوب. بدا وكأن المجتمع الإسباني بأسره حينها يستعيد صوته دفعة واحدة، من المثقفين إلى العمال، من الطلاب إلى الفلاحين، كلهم أحسّوا أن الأبواب الحديدية بدأت تتصدع. ثم جاء دستور 1978 ليُتوّج هذا المسار: نصّ واضح على الحريات الأساسية، فصل بين السلطات، اعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي، وترسيخ لمبدأ الملكية البرلمانية. لقد كان الميثاق بمثابة مرآة جديدة رآى فيها الإسبان أنفسهم، لا كأتباعٍ لزعيم فرد، بل كمواطنين أحرار في دولة تسع الجميع وتحمي حقوقهم.
لم يكن الانتقال طفرةً ولا انفجاراً، بل توافقاً هادئاً، تسويةٌ ذكية أنقذت إسبانيا من الدم والفوضى. وحتى حين حاولت الدبابات أن تعيد عقارب الساعة في انقلاب 23 من فبراير من عام 1981، بعد أن قاد المقدم أنطونيو تيخيرو العسكر واقتحم البرلمان محتجزاً النواب والحكومة الجديدة كرهائن. وقفت الملكية البرلمانية بصلابة أمام الجنرالات، معلنةً أن زمن الانقلابات انتهى، وأن الحلم الذي باركه الشعب الإسباني لم يعد قابلاً للاختطاف. هكذا، لم يدعُ الإسبان الماء يغلي حتى يميتهم، ولم يقفزوا في النار ليحترقوا، بل روّضوا الحرارة، وصنعوا من الألم ولادةً جديدة، ومن الانسداد عبوراً نحو حياة أرحب. صنعوا انتقالاً ديمقراطياً بطيئاً لكنه متماسك، يُثبت أن النجاة ليست في الاستسلام للحرارة ولا في الهروب منها، بل في ضبطها وتحويلها إلى دفء حياة جديدة.
في سوريا بعد الثامن من ديسمبر لعام 2024 ومع سقوط نظام الأسد وهروبه خارج البلاد، كان السوريون أمام خيارين: إما أن يظلوا في الماء المغلي، يتحملون الألم بصمت، أو يقفزوا في نار المواجهة والانتقام من دون حساب. حيث تحرق كل لحظة اندفاع غير محسوبة العواقب الحلمَ قبل أن يولد. الطريق الثالث في هذا المشهد كان ممكناً لكنه صعب وقاس ووعر. ففكرة بناء الممكن طرحتها الإدارة الحالية من دون أرضية صلبة تضمن استمرار البناء، ثم راكمتها بخطوات تضع التجربة كلها في قلب العاصفة، هذا ليس تهويلاً وليس رجماً بالغيب. إنها محاولة لقراءة مخاطر غياب الأدوات لاستخدام الممكن كي يصير واقعاً. وهنا يمكن الإشارة إلى تعزيز صلابة المؤسسات، واستقلالها، واحترام الحقوق، وتوزيع السلطات بشكل عادل، بهذه الأضلع من الممكن تحويل الطريق الثالث من مجرد حلم محفوف بالمخاطر إلى واقع ملموس يحمي الحرية ويصون الحلم من أن يتحول إلى كابوس رغم كل المطبات التي مرَّت بها سوريا خلال الأشهر الماضية. وهنا تبرز أهمية بناء الشبكة المتراكمة من الحماية للديمقراطية مع كل إصلاح إداري أو قانوني أو اجتماعي، بهذه الطريقة فقط تقي الدولة المجتمع من الانزلاق إلى الاستبداد الجديد، وتمنحه القدرة على مواجهة أي موجة من الشعبوية أو الانفعال الجماهيري، من دون أن يغرق في بحر من الفوضى.
الجدل والجدال السوري:
في ظل هذا ما اجتمع عصبة من السوريين أيَّاً كانت انتماءاتهم إلا واختلفوا على تعريف سوريا، كلٌّ يحمل في ذهنيته تصوراً مسبقاً غير قابل للنقاش عن الشكل الجديد للدولة، من هذه التصورات أن سوريا الجديدة هي الخطوة الأولى في الدولة الإسلامية، أو إنها جزءٌ من الأمة العربية، أو ربما أمة مستقلة بذاتها، أو إنها امتداد عشائري ضمن منظومة القبائل الممتدة في جغرافيات متعددة. هذا التباين في الرؤى ليس مجرد خلاف فكري، بل هو انعكاس مباشر للواقع الاجتماعي في ظروف البلاد، وللمغانم المختلفة من السلطة التي اعتادت كل مجموعة أن تتحكم بها تاريخياً. وهنا بالضبط تكمن خطورة ومخاطر غياب الديمقراطية، فقد يؤدي التمسك بتصور محدد من دون حوار مفتوح إلى انفجار اجتماعي، أو فرض إرادة أحادية، أو استبداد جديد مقنَّع.
الخطوة الأساسية لحسم هذا الجدل هي النقاش المفتوح في الحياة السياسية، وهو النقاش الذي ظل غائبًا لعقود، وأصبح ضروريًا الآن كخطوة أولى على طريق بناء الدولة. ولحسم النقاش بشكل عملي وواقعي، هناك حاجة إلى صندوق انتخابي حر وشفاف، يقيس إرادة الشعب، ويحدد الهوية السياسية للبلاد، ويربط المجتمع بقراراته، لكن هذا الصندوق ما يزال بعيدًا، غير ظاهر الملامح، ويواجه الطريق نحو ظهوره تحديات كبرى كما تصنِّفها الإدارة الجديدة، تتنوع بين الأمن، الوحدة الوطنية، مخيمات اللجوء، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات.
مقاربة تاريخية
بوضع تجربة إسبانيا بعد فرانكو، والتجربة السورية بعد سقوط الأسد، يمكن تلمُّسُ بعض التقاطعات. ففي إسبانيا، كان تعريف الدولة الجديدة محل جدل أيضًا، بين الملكية البرلمانية والتعددية الحزبية، بين السلطة المركزية واستقلال الأقاليم، بين إرث الاستبداد ورغبة الشعب في الحرية. والذي أعطى الطريق الثالث رسوخَهُ ومعناهُ هو منحُ الشعب فرصة تحديد مستقبل الدولة بشكل عملي وملموس عبر قانون الإصلاح السياسي، فنجحت البلاد في تحديد هويتها الوطنية، وتعزيز التعددية، وضمان استمرارية المؤسسات، كل ذلك ضمن إطار ديمقراطي محمي. أما في سوريا، فإن غياب وضوح تعريف الدولة الجديدة في أدبيات الإدارة الحالية سيشكل انعكاساً مباشراً على كل جوانب التجربة. على المؤسسات، على الاقتصاد، على التوزيع العادل للسلطة، وعلى قدرة الشعب على التعايش مع اختلافاته. لضمان أن يكون الطريق الثالث لبناء الممكن ليس مجرد حلم مثالي - اختصره الرئيس أحمد الشرع بعبارة " سنبني دولة تليق بالسوريين - بل واقعًا يُحسّ، يُدرك، ويعيش فيه المواطنون بأمان وثقة. ومن دون الوضوح، تبقى كل خطوات البناء هشّة قابلة للتفنيد والإسقاط في كثير من المطارح كما الحالة في مسار تشكيل مجلس الشعب المرتقب. وفي ظل كل هذا يكون كل إصلاح معرضًا للانكسار، والخلطة السحرية هنا تكمن في المشاركة الشعبية بصنع الديمقراطية بعد إطلاق العنان لتأسيس الأحزاب، إن هذا الإجراء ليس مجرد مسألة رمزية، بل هو حجر الأساس الذي يضمن استدامة أي تجربة انتقالية، ويحول الطريق الثالث القائم على بناء الممكن من خيار محفوف بالمخاطر إلى واقع متماسك، قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وإعادة تعريف الوطن بطريقة تحفظ كرامة كل مواطن. ومن دون ذلك يبقى الضفدع معرضاً لفقدان حياتِه إذا غاب وعيه بالحرارة التي تحيط به.