الرئيسة \  تقارير  \  السوريون الدروز... من الاندماج إلى دعوات الانفصال

السوريون الدروز... من الاندماج إلى دعوات الانفصال

26.08.2025
عمر كوش



السوريون الدروز... من الاندماج إلى دعوات الانفصال
عمر كوش
العربي الجديد
الاثنين 25/8/2025
رفع متظاهرون غاضبون في السويداء علم إسرائيل، إلى جانب صور الزعيم الروحي لطائفة الموحّدين الدروز حكمت الهجري، في تظاهرة نُظّمت في 16 أغسطس/ آب الجاري، تحت شعار "حقّ تقرير المصير"، وطالبت بالانفصال عن سورية. كما رفع بعضهم لافتاتٍ تشكر مجرم الحرب بنيامين نتنياهو. تتناقض مشهديات هذه التظاهرة مع المواقف التاريخية للسوريين الدروز، المشهود لهم بالمواقف الوطنية، فالذاكرة التاريخية للسوريين تحفظ تلك اللحظة التي رفع فيها سلطان باشا الأطرش العلم العربي في 29 سبتمبر/ أيلول 1918، ثمّ قاد الثورة السورية عام 1925 من جبل العرب جنوبي سورية، بعد أن أصدر بيانه الشهير الذي دعا فيه إلى "وحدة البلاد السورية، ساحلها وداخلها، والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة مستقلّة استقلالاً تامّاً، وقيام حكومة شعبية". ولم يتأخّر السوريون الدروز عن الانخراط (ومعهم معظم السوريين) في ثورتهم على نظام الأسد عام 2011، ولم تتوقّف تظاهراتهم في ساحة الكرامة ضدّه، لكن الأمور تغيّرت بعد سقوط هذا النظام لأسباب عديدة، ووصلت إلى حدودٍ قصوى في الآونة الماضية.
لا يقتصر انخراط الدروز في سورية على الجانبين السياسي والعسكري، بل يمتدّ إلى نسيج الهُويَّة الوطنية
الأصول والعقيدة
يعود أصل الدروز إلى قبائل وعشائر من شبه الجزيرة العربية، ارتحلت إلى بلاد الرافدين، ثمّ بلاد الشام، وسكنت، منذ بداية القرن الثامن عشر، مناطق غير متّصلة جغرافياً من الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وانتقل بعضها إلى داخل سورية الطبيعية. ودخلت هذه القبائل والعشائر الإسلام مع الفتح الإسلامي لبلاد الشام، وقاتلت مجموعات من أبنائها في الجيش الإسلامي خلال العهد الأموي ثمّ العباسي، وكانت لهم أدوار في حماية شواطئ البحر المتوسط الشرقية من الغزو البيزنطي. وهرب كثيرون من الدروز من ملاحقة الخليفة الفاطمي السابع الظاهر لإعزاز دين الله (علي بن الحاكم بأمر الله)، وسكنوا في جبال لبنان وسورية وفلسطين، وساهمت تلك الملاحقة إلى زيادة حالة الانغلاق على أنفسهم.
يرجع ظهور الدعوة التوحيدية إلى عهد الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي (996 -1021)، وحملها في ذلك الوقت مجموعة من الدعاة، أشهرهم محمد بن إسماعيل الدَرَزي (نسبة إلى أولاد درزة أي صانعي الثياب)، الذي هاجر إلى الشام، والأرجح أن الطائفة اشتهرت باسمه، فيما ترجّح بعض المصادر أن أصل تسمية الطائفة يعود إلى مبدأ "دَرْز الدماغ"، لاعتمادهم على العقل، وتعتبر أن المؤسّس الفعلي للموحّدين الدروز هو حمزة بن علي بن محمد الزوزني، الذي يعدّ المؤلف الرئيس للنصوص الدرزية. وتنهض دعوة التوحيد على تقديم تفسير للنصّ القرآني، ينهل من الفلسفة اليونانية والديانات الفارسية. ونشرت هذه الدعوة في رسائل تبشيرية سرّية، عرفت فيما بعد بـ"رسائل الحكمة". ويعرّف الدروز أنفسهم بـ"الموحّدين" أو "بنو معروف"، وهو اسم يعود إلى قبيلة عربية استجابت للدعوة الدرزية في بداياتها.
توزّع الموحدون الدروز، مع مرور الوقت، بين كلّ من سورية ولبنان وفلسطين والأردن، وشكّلوا إحدى الجماعات المنغلقة دينياً، والمتماسكة اجتماعياً وثقافياً. ويؤمنون بميثاق (أو عهد) ولي الزمان، الذي يعتبر ميثاقاً أزلياً بالنسبة إليهم، وهو قَسم يؤدّيه الشخص كي يصبح درزياً فعلياً، وفيه يتبرَّأ من جميع الأديان الأخرى ليلتزم ديانته في ميثاق أزلي. ويحيط عقيدة الطائفة ومذهبها كثير من الغموض والإبهام، بالنظر إلى أن مؤسّسيها آثروا عدم البوْح بها، وحصروا معرفة تعاليمها وطقوسها في حفنة ضيّقة من أبناء الطائفة.
يبلغ عدد الدروز في سورية أكثر من 700 ألف نسمة (حسب إحصائيات 2010)، ويشكّلون 3% من تعداد سكّان سورية. يعيش معظمهم في محافظة السويداء (حوالي 400 ألف نسمة)، ذات الطبيعة الجبلية جنوب غربي سورية، التي تعرف باسم جبل العرب، وفيها أكثر من 85% من السوريين الدروز، يتوزّعون هناك على نحو 120 قرية. كما يوجد في محافظة السويداء عشائر من البدو، ومسيحيون. يسكن البدو في مدينة السويداء في أحياء مثل المقوس، المشورب، الحروبي، ورجم الزيتون. ويوجدون كذلك في قرى الدياثة والشقراوية، وفي مدينة شهبا وقرى الأصلحة والرحا والكفر وعريقة والمزرعة وولغا وقم والخرسا، فيما يتوزّع المسيحيون بشكل رئيس في مدينتي السويداء وشهبا، وبلدات مثل القريا وأم الرمان وخربا وغيرها. ويعيش قسم من الدروز في منقطة حارم وجبل السمّاق في محافظة إدلب (14 قرية)، وكذلك في مدينة دمشق، وبلدات جرمانا وصحنايا وجديدة عرطوز، وفي المنحدرات الجنوبية الشرقية لجبل الشيخ في محافظة القنيطرة. ويعيش آخرون في مرتفعات الجولان المحتلّة، إذ نزح قسم منهم إلى داخل سورية بعد الحرب مع إسرائيل في عامي 1967 و1973، ومعظم الذين بقوا فيها رفضوا الجنسية الإسرائيلية، واختاروا الاحتفاظ بجنسيّتهم وهُويَّتهم السوريتَين. ولم يكتفوا بذلك، بل حرقوا الهُويَّات الإسرائيلية، ورفعوا شعار "لا بديل عن الهُويَّة السورية"، ونظّموا انتفاضات واجهتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتطبيق الحصار على مناطقهم، واعتقال العديد من الشاب الدروز، الذين قضى بعضهم أكثر من 20 سنة في السجون الإسرائيلية.
تقتضي إدارة التنوّع في سورية توفير بيئة لإطار التعايش، عبر إشراك المكوّنات في عملية الانتقال السياسي
لعب الدروز دوراً مهماً في مختلف تفاصيل الحياة السورية، ولا تعكس النسبة المحدودة لعدد الدروز وزنهم الحقيقي فيها، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، إذ شكّلوا قوة فاعلة في السياسة السورية، وتجسّد ذلك في الدور القيادي الذي لعبه سلطان باشا الأطرش في الكفاح الوطني ضدّ الانتداب الفرنسي وقيادته الثورة السورية الكبرى بين عامَي 1925 و1927.
لا يقتصر الأمر على باشا الأطرش، بل هناك شخصيات سياسية عديدة برز دورها، منها عادل أرسلان، الذي تولّى منصب رئاسة أمانة السرّ في المملكة السورية الهاشمية، التي تأسّست في دمشق عام 1920، ثمّ تولّى وزارات الخارجية والدفاع والتربية في السنوات الأولى بعد استقلال سورية. كما برزت شخصياتٌ أخرى، مثل فريد زين الدين، إبّان الوحدة مع مصر، وكذلك الفريق عبد الكريم زهر الدين الذي شارك في حرب فلسطين 1948، وعُيّن قائداً للجيش السوري عام 1961، وبعدها أصبح وزيراً للدفاع.
بعد الاستقلال، طالبت قيادات درزية بالحفاظ على إدارتهم المستقلّة، وعلى مزايا سياسية عديدة منحهم إياها الفرنسيون، إلى جانب مطالبتهم بمساعدة اقتصادية كبيرة من الحكومة السورية المستقلّة حديثاً، الأمر الذي أثار توجّسها. وتعرّض الدروز إلى هجوم من سلطة أديب الشيشكلي، الذي جاء إلى الحكم بانقلاب في 1947. لكنّ منطلق الشيشكلي لم يكن طائفياً، إذ وصف أعداءه بالثعبان "الرأس هو جبل الدروز، والمعدة هي حمص، والذيل هي حلب. إذا سحقتَ الرأس، يموت الثعبان". وشكّلت هجماته العسكرية على جبل العرب أول ضربة للتنوّع السوري بعد جلاء فرنسا عن سورية. وبعد رحيل الشيشكلي، لعب ضباطٌ عسكريون دروز أدواراً مهمّة في حكومة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي حكم سورية بعد انقلاب 1963.
لا يقتصر انخراط الدروز على الجانبين، السياسي والعسكري، بل يمتدّ إلى نسيج الهُويَّة الوطنية السورية، ومختلف تفاصيل الحياة الفكرية والثقافية والفنّية، فكان من بينهم مؤسّسون وروادٌ في الصحافة من أمثال عجاج نويهض، وهاني أبو مصلح، وبرز في فنون الموسيقى والغناء فريد الأطرش، وأسمهان، وفهد بلّان، وسواهم. وفي الفنّ المسرحي والسينمائي برز كلٌّ من ناجي جبر ومحمود جبر وغيرهما. ولم يقدّم هؤلاء أنفسهم دروزاً، بل سوريين.
إدارة التنوع
عُرفت سورية تاريخيّاً بتنوّعها الإثني والطائفي، وشهدت تعايشاً تاريخياً بين مختلف مكوّناتها الاجتماعية والدينية، فتشكّلت روابط وعلاقات وتقاليد للعيش المشترك، أسّست إطاراً مسكونياً في سورية الطبيعية والمشرق العربي منذ ما قبل الإمبراطورية العثمانية. وكان تاريخ المكوّنات الدينية والإثنية السورية تاريخاً للعيش المشترك أيضاً، جمع بين السوريين، وشكّل مانعاً أمام محاولات ضربه وحصره في لون ديني أو إثني وحيد، وخاصّة خلال لحظات التحوّل والانتقال، التي شهدت صراعات وحروباً، فعانى التنوع السوري من صدمات وإخفاقات، نتيجة الاستغلال السياسي له من الأنظمة السياسية والزعامات الدينية والقومية، الأمر الذي أفضى إلى حدوث انتهاكات جسيمة، ارتُكبت فيها مجازر وجرائم خلال فترات عصيبة من التاريخ السوري.
كان طبيعيّاً، في غياب دولة المواطنة والقانون، أن تظهر الخلافات بين المكوّنات الإثنية والدينية، ولم يكن العامل المسبّب لها دينياً، بل سياسياً واقتصادياً. وفي حالة السويداء، تركّزت الخلافات بين عشائر البدو والدروز في مسائل الرعي والزراعة، وأحقية استخدام الأراضي والاستفادة منها، لكنّ الأنظمة الحاكمة، والزعامات الدينية المحلّية، غالباً ما كانت تستغلّها، بغرض بسط هيمنتها عبر إضعاف المكوّنات، وتفتيت إطار التعايش المسكوني. وغالباً ما كانت تحلّ الخلافات بجهود محلّية. وقد لعب نظام الأسد البائد دوراً كبيراً في تأجيج الخلافات والصراعات بين مكوّنات الشعب السوري. ففي عام 2000، وقعت أحداث دامية بين السوريين البدو والدروز، استغلّها النظام كي يعزّز وجوده العسكري والأمني داخل السويداء، بحجّة حماية أهلها من البدو. ثمّ سادت بعدها حالة الاستعداد والتوتر بين الطرفَين، واستمرّت حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011، فازداد تسلّحهما، ونشأت عصابات الخطف، إلى جانب متاجرتها بالأسلحة والمخدّرات تحت إشراف أجهزة الأمن. ثم تنافس كلّ من الروس والإيرانيين في بسط نفوذهما في محافظة السويداء بشكل خاصّ، والمنطقة الجنوبية بشكل عام. وبعد سقوط نظام الأسد، زادت عمليات الخطف المتبادَل، ووصلت الأمور إلى اندلاع مواجهة مسلّحة في بداية الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، أفضت إلى تدخّل قوى الجيش والأمن العام التابعة للإدارة الجديدة، وحدثت انتهاكات جسيمة ومجازر، فيما تدخّلت إسرائيل بحجّة حماية الدروز، فاستهداف قوات الأمن العام والجيش، وقصفت مبنى هيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسي في دمشق.
على السلطة الجديدة العمل لاحتضان الجميع وفق مبدأ المواطنة المتساوية والابتعاد عن منطق الأقليات
الوضع الجديد
أفضت أسباب عديدة إلى تعميق الشروخ في النسيج الاجتماعي السوري، ووصل الأمر إلى حدّ مطالبة بعضهم بالانفصال. ويمكن تفهّم الصدمة التي أصابت أبناء السويداء جرّاء الأحداث الدامية التي ارتكبت خلالها جميع الأطراف انتهاكات جسيمة. ومع ذلك فإنه ليس بالضرورة أنّ من خرجوا في تظاهرة رافعين أعلام إسرائيل يعبّرون عن مواقف غالبية أهل السويداء، فالذين نظّموا التظاهرة مجموعة من السياسيين، يتخفّى بعضهم في لباس مشيخة العقل، إلى جانب قادة مجموعات مسلّحة ترتبط بإسرائيل، التي تستخدم بعض أبناء السويداء ورقة من أجل تنفيذ مخطّطاتها الهادفة إلى ضرب النسيج السوري وتمزيق وحدة البلاد. وثمّة اختلاف كبير بين تحميل السلطة السورية الجديدة مسؤولية الانتهاكات التي حصلت في السويداء والمطالبة بالانفصال والاستقواء بإسرائيل، ليس بسبب التاريخ والعيش المشترك، بل لارتباط السويداء الكلّي بسورية على الصعد كافّة.
تقف أسباب عديدة وراء ما آلت إليه الأمور بين السلطة الجديدة والقوى المسيطرة على السويداء، لكن أساسها سياسي بامتياز، ولا تتعلّق بالسوريين الدروز أقلية أو طائفة، إنما بتعامل السلطة الجديدة مع مكوّنات المجتمع، الساعية إلى إخضاع مناطق سورية كافّة، وتتعلّق كذلك بالطائفية السياسية، وبالتحديد بـ"الدرزية السياسية"، أي بعملية تسييس الطائفة، التي تلجأ إليها بعض القوى السائدة، وتقحمها بالصراع على السلطة، وتوظّفها خدمة لمطامحها ومصالحها الضيّقة، إضافة إلى التوجّس من السلطة الجديدة والتوقّف عند ماضيها الفصائلي، واتهامها بالتطرّف والداعشية، وبإبادة متنقّلة، بدأت في الساحل ثمّ امتدّت إلى جرمانا ووصلت السويداء. ويساهم في إشاعة ذلك (من دون دلائل) سياسيون ومثقفون ناقمون من كل شيء.
تقتضي إدارة التنوّع في سورية توفير بيئة مناسبة لإطار التعايش، عبر الوصول إلى تناغم أكبر بين مكوّناتها، عبر إشراكها في عملية الانتقال السياسي، والابتعاد عمّا يساهم في التفتيت والتمزيق. وهي مهمّة منوطة بالسوريين كافّة، وقواهم الحيّة، وخصوصاً السلطة الجديدة، التي لم تحسن التعامل من التركة الثقيلة التي خلّفها نظام الأسد والخراب الذي أصاب النسيج الاجتماعي. ولا يزال مطلوباً منها العمل لاحتضان الجميع، وفق مبدأ المواطنة المتساوية، والابتعاد عن منطق الأقليات والطوائف والعشائر، والتعامل مع السوريين بوصفهم كائناتٍ سياسية، ولا سبيل سوى فتح حوار وطني مع جميع قواهم الحيّة، كي يتمكّنوا من المساهمة في بناء ما تهدّم، ورأب الصدع، ولملمة الجراح.