الرئيسة \  تقارير  \  السوري الخائف من جماعته: السوري تجاوزاً

السوري الخائف من جماعته: السوري تجاوزاً

10.09.2025
عمر قدور



السوري الخائف من جماعته: السوري تجاوزاً
عمر قدور
المدن
الثلاثاء 9/9/2025
لا معنى لكلمة "سوري" حالياً، ربما باستثناء الإشارة إلى أفراد مبعثرين، لا ينتظمون في رابطة ما تعبِّر عن انتمائهم المشترك، والقسم الأكبر منهم صامت. ثمة الرابطة القانونية الشكلية، تلك المرتبطة بوثائق رسمية تمليها وضعية سوريا وفق القانون الدولي ليس إلا. بينما يستحيل القول بوجود رابطة قانونية حقيقية تشمل السوريين، يحتكمون إليها وهم راضون عنها، ولو نسبياً. ولا حديث معتبر عن الاجتماع السوري بعد الاستقلال، بل يُنتقى من تلك الحقبة كلها ما يطعن في فكرة الاجتماع السوري، ليُصوَّر بوصفه استثناءً ضمن سياق من التنافر والتنابذ.
مع إسقاط الأسد ومجيء السلطة الحالية، طُرح من قبل الأخيرة مفهوم المكوِّنات، وترافق مع رفض فكرة المحاصصة، الرفض الذي تكرر في العديد من المناسبات. في حين أن الإشارة إلى المكونات-الأقليات حفّزت المطالبة بالمحاصصة من جهة، والمطالبة بوضعيات خاصة يكفلها الدستور من جهة أخرى، وهي نتيجة منطقية نظرياً أكثر من التركيز على موضوع المكوّنات والامتناع عن تحمُّل نتائجه أو معالجته.
السنوات السابقة، تحديداً منذ انطلاق الثورة، لم تكن أفضل على الصعيد ذاته. فقد انتعشت فيها الخطابات الطائفية، وأُعيدت فيها قراءةُ التاريخ السوري على ضوء الانقسامات الأهلية الراهنة، بصرف النظر عن الرأي فيما يخص الأخيرة. وبالطبع، يصعب القول إن الاجتماع السوري كان برمّته مشرقاً خلال التاريخ الحديث، لكن في المقابل لم يكن الانقسام (أو الاختلاف والتباين) دائماً على النحو الدموي الراهن.
ويمكن الجزم بأن الكيان السوري، منذ استقراره في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، لم يشهد تداولاً للموضوع الطائفي على نطاق واسع، كما حدث في الشهور الأخيرة. بالمقارنة، يسهل الحديث عن الكثير من الممارسات الطائفية للعهد البائد، والحديث عن توريات طائفية استُخدمت خصوصاً بعد اندلاع الثورة، إلا أن خطاب "المكونات" لم يكن حاضراً على الصعيد الرسمي، وهذا بالطبع لا يُحتَسب للعهد البائد، ويمكن الخوض في أسبابه التي لا تنطلق أيضاً من مشروع وطني.
 هناك فرق حاسم بين تداول الشأن الطائفي خارج السلطة، وبين طرحه من قبل الأخيرة، خصوصاً في بلد مثل سوريا للسلطة فيه تأثير كبير وحاسم على صعيد القرار والتوجيه. على الأقل، يشجّع حديث "المكوّنات" على إطلاق العنان للخوض في الشأن الطائفي من منطلق القبول بتكريسه، لا بنيّة تجاوزه. نشير هنا إلى أن الفكرة القائلة بضرورة إباحة الخوض في الطائفية، بديلاً عن تحريم النقاش فيها وتركها تتفاقم أكثر فأكثر. هذه الفكرة لا تلحظ طبيعة النقاش نفسه وطبيعة الفاعلين، خصوصاً في زمن السوشيال ميديا حيث يكثر المتكلّمون مع ضحالة في المعرفة وإغراءٍ للتطرف مصدرُه الإفلات من العقاب، أي أن الاستباحة حلَّتْ مكان المنع والإباحة.
كما هو معلوم حدثت مجازر الساحل ثم السويداء، والسلطة نفسها اضطرت إلى الاعتراف بحدوثها وشكّلت لجان تحقيق فيها. ما يهمنا في هذا السياق أن ما حدث كرّس الانقسام الطائفي السوري إلى حد تكون فيه خطوط الانقسام غير قابلة للعبور، والجدران اللامرئية بين الجماعات السورية صارت واضحة جداً وملموسة. العودة عن الانقسام تبدو مستحيلة الآن أكثر من أي وقت مضى، بل إن المسار يتجه إلى مزيد من الاصطفاف.
المتداول بين الجماعات، من العتب أو التوبيخ في ألطف الحالات، مهمته الحالية لا تتعدى ترسيخ الانكفاء، فتحميل الآخر المسؤولية غايته التنصّل من أي نصيب منها، وشيطنة الآخر بحيث يصعب التعامل معه. المسألة ليست في تفاقم الطائفية فحسب، هي في استقوائها غير المسبوق على أبناء الجماعات السورية، فاليوم يبدأ خوف السوري بخوفه من الجماعة الرمزية التي يُحتَسب عليها، حتى إذا لم يكن يشعر بالانتماء إليها، أو عمل من قبل على الخروج منها وتفكيكها.
ذلك يترافق مع أجواء من الريبة الشديدة، الريبة التي تلجم عند أصحابها حسَّ المبادرة، وتجعلهم ينتظرون صدورها عن "الآخر" الذي لن يستجيب، مع التأكيد على كونه أيضاً خائفاً من "جماعته"، بما يقضي على حس المبادرة لديه. الأذى الناجم عن تطويع الجماعات لأفرادها لا يتوقف عند ما هو شائع لجهة القول بانعدام الأفق الوطني، إذ يبدو هذا كأنه مقارنة بين واقع طائفي راسخ، ووطن لا يتعدى وجوده الحلم أو الأمنيات.
الأخطر هو تغييب الوطن باعتباره إطاراً مفاهيمياً لممارسة السياسة، فمنطق الأكثرية والأقليات الخاص بالطوائف يتعارض كلياً مع الأكثريات والأقليات السياسية. وهو فوق ذلك منطق تفاضلي يتناقض مع المنطق الوطني التكاملي، بما في ذلك تكامل السلطة والمعارضة الذي لا يلغي الصراع بينهما بموجب نظام تداولي. وإذا كان التركيز على مظلومية الأكثرية، ثم أحقيتها بالسلطة، يوحيان بكونها الرابح حالياً من ترويج منطوق "المكوّنات"، فالأكثرية نفسها خاسرة في المحصلة لأن تغييب السياسة لن يقتصر بطبيعة الحال على الأقليات، بل سيطاول أبناء الأكثرية. هذه المحصّلة تكون عادةً هي الهدف، فلا تأتي كعرَض جانبي.
لا ينفع التصدّي للوضعية الطائفية الراهنة بموجب آلياتها نفسها، فلا تجدي مثلاً الاستجابة لنداءات تطالب بمبادرات تجاه أقلية بعينها، أو تجاه الأقليات. وأغلب الظن أن المبادرات المأمولة لن تحدث، لأن الوضع الطائفي الذي يتسبب بالمطالبة بها يتسبب أيضاً بامتناع حدوثها. وفي أحسن الأحوال تنطلق المطالبة مما يظهر كعشم بـ"الشقيق الأكبر"، وهو يندرج ضمن التفاضل العددي نفسه، بينما تفترض البديهيات المعاصرة ألا يكون لأي فرد حصة من الوطن تفوق حصة غيره، وأن يكون هذا المبدأ محمياً بالقانون.
كي لا تكون تسمية "السوري" على سبيل التجاوز أو المجاز، يلزم أن تتعزز القناعة بألا أحد له حصة تفوق حصة غيره، فهكذا يكون الدفاع عنها مستنداً إلى الأحقية، لا إلى مجرد شعارات تظهر كأنها لا تنتمي إلى الواقع. وعدم الانصياع لما يُراد تكريسه تحت شعار الواقعية لن يكون من باب معاندة الواقع، ولا "كلام مثقفين" كما يُشيع المستفيدون من ترويج حتمية الواقع. ففي الجوارين اللبناني والعراقي هناك مثالان على الدمار الذي تسببت به الدوامة الطائفية، والتي أثبتت أنها المشكلة ومن المستحيل أن يُشتق منها الحل. في المثالين، تحضر الكلفة الباهظة من الدماء ومن الدمار الاقتصادي، وتحضر معهما "الواقعية الطائفية" كبديل انتحاري عن العقلانية. المثالان يفصحان عن أسباب المشكلة، ولماذا يمتنع الحل، إذا كان السوري الخائف من جماعته والذاهب إلى الانتحار راغباً في تعلّم الدرس.