الرئيسة \  تقارير  \  السلام عليكم!

السلام عليكم!

12.07.2025
بكر صدقي



السلام عليكم!
بكر صدقي
القدس العربي
الخميس 10/7/2025
مع تسريب الخبر عن اجتماع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، في أبو ظبي قبل يومين، مع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنعبي، يبدو أن الأمر قد تجاوز التكهنات إلى حركة متسارعة في اتجاه تطبيع العلاقات بين سلطة دمشق وإسرائيل في إطار ضم الأولى إلى اتفاقات أبراهام بإشراف الراعي الأمريكي. حركة تستثمر في ضعف السلطة وضعف سوريا عموماً بعد أربعة عشر عاماً من الحرب والحصار والعزلة الدولية الخانقة، أضيف إليها تحطيم ما تبقى من إمكاناتها العسكرية بواسطة آلة الحرب الإسرائيلية في الأسابيع الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد، وفي حاجة السلطة الجديدة إلى إرساء نظامها الجديد وإطلاق عملية إعادة إعمار تتطلب توظيف استثمارات ضخمة لن يكون الحصول عليها بلا ثمن. بل يمكننا من منظور اليوم أن نستنتج أن رفع العقوبات الأمريكية ورفع هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية والانفتاح الدبلوماسي على السلطة لم تكن بلا أثمان سياسية، وذلك حتى قبل أي حديث عن إعادة الإعمار وجعل دوران عجلة الاقتصاد ممكناً.
ومن حيث المبدأ ليس لأحد أن يتوقع أن تخوض سوريا، في شروطها القائمة وفي الأفق المنظور، حروباً ضد أي دولة، بصرف النظر عن الخوض في ضرورتها السياسية. فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بإسرائيل التي تمكنت، خلال أسابيع معدودة، من إلحاق هزيمة ماحقة بحزب الله اللبناني الذي كان، إلى ما قبل واقعة البيجر في شهر أيلول العام الماضي، يتصور أنه يتمتع بحالة من توازن الرعب مع إسرائيل، ويخوض ما أسماه بحرب إسناد لقطاع غزة. بل إنها ـ أي إسرائيل ـ قد خاضت حرباً ناجحة ضد إيران نفسها، قبل أسابيع، فألحقت بها خسائر فادحة في البنية التحتية لبرنامجها النووي وقامت باغتيال نخبة من قادتها العسكريين وخبرائها النوويين. لا يعقل إذن أن يتوقع أحد حرباً بين سوريا وإسرائيل في ظل خلل فادح في موازين القوى العسكرية وغير العسكرية. الأمر الذي حرص الشرع ووزير خارجيته على تأكيده منذ الأيام الأولى لاستلامهم السلطة في دمشق. فكانت تلك التصريحات والتطمينات مفهومة ومقبولة بل تحصيل حاصل أو تعبيراً عن بداهة لا تحتاج نقاشاً.
العائق الأهم إنما يتمثل في ضعف سوريا بجميع المعاني العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. فأي عملية سلام تحتاج من القوة بأكثر مما تتطلبها الحرب
لكن هذا شيء والانخراط في “عملية سلام” شيء آخر، لا تحتاجه سوريا ولا هي قادرة عليه. فعملية السلام لا تقل صعوبة عن الحرب من حيث حاجتها إلى توازن قوى غير موجود، وإلا فلن يتجاوز الأمر “صفقة لا يمكنك رفضها” على ما كان يقول بطل رواية العراب فيتو كورليوني لمنافسيه وغرمائه حين يريد تهديدهم. فما هي الحوافز التي يمكن لحكومة نتنياهو أن تقدمها لسلطة دمشق لتشجيعها على إبرام اتفاق سلام في إطار اتفاقات أبراهام؟ ربما التوقف عن التمدد العسكري داخل الأراضي السورية، أو الانسحاب من قسم من المناطق التي احتلتها بعد الثامن من كانون الأول 2024، أو تقاسم هضبة الجولان المحتلة (ثلاثة أثلاث! على ما جاء في “تسريبات” استكشافية مؤخراً)
كان رفض حافظ الأسد للسلام مع إسرائيل، فيما أطلق عليه حالة اللا سلم واللا حرب، استثماره الأهم للحفاظ على سلطته وتأبيدها من خلال التوريث، بما منحه ذلك من شرعية طالما افتقد إليها، وقوة ابتزازية تجاه الجوار الإقليمي، وتدخلاً فظاً في الشؤون الفلسطينية واللبنانية، وموقعاً تفاوضياً مع الدول الغربية فيما خص شؤون المنظمات الموصوفة بالإرهابية. فهل يكون انخراط الشرع في “السلام” الإسرائيلي والتطبيع استثماره للحفاظ على السلطة وإطالة أمدها لأطول فترة ممكنة؟ ربما هذا ما يظنه أو يظن أنه لا يملك ترف الاختيار والرفض بشأنه.
ذلك أن الشرع يدرك ولا بد هشاشة سلطته وشرعيته على رغم ما يظهر من تأييد واسع وغير مشروط من بيئات سنية لحكمه. فهذا التأييد المدفوع بنوع من نشوة استعادة “الأكثرية” لحقها “الطبيعي” في الحكم بعد أكثر من نصف قرن من “حكم الأقلية” على ما بدا لها نظام الأسد المتوحش، لا يمكن أن يستمر طويلاً بالنظر إلى أن السلطة لن تكون قادرة على إرضاء الجميع، وبخاصة فيما يمس حياتهم ومعاشهم في إطار رؤيتها الاقتصادية “السنغافورية” (ليبرالية متوحشة) التي تقوم على فرز طبقي حاد يهمش غالبية ساحقة مقابل إثراء نخبة صغيرة من المحظوظين. ومنذ اليوم بدأت بعض الفئات تتململ من إجراءات تعسفية على حسابهم.
والحال أن التحديات أمام شرعية سلطة دمشق لا تقتصر على نيل رضى غالبية سنية، بل هناك تحديات أكبر تتمثل في بسط سيطرة الدولة على كامل الأراضي السورية مع الحصول على قبول من الكرد والعلويين والدروز والمسيحيين وملايين اللاجئين في مختلف دول العالم، والتوفيق بين دول داعمة لها اشتراطاتها ومصالحها وهواجسها، إضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. كل ذلك والسلطة لا تملك ما تقدمه من حوافز لإرضاء هؤلاء غير بيع أصول الدولة وإمكاناتها، أي مزيداً من إضعاف مستقبل سوريا.
تحتاج السلطة لتخوض مغامرة سلام مع إسرائيل، إلى شرعية داخلية لا تملكها لأنها سلطة انتقالية. لكن هذا هو العائق الأسهل، لأن السوريين بغالبيتهم لن يثوروا ضدها وهم المنهكون والمكتوون بنار “الممانعة” طوال عقود. لكن العائق الأهم إنما يتمثل في ضعف سوريا بجميع المعاني العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. فأي عملية سلام تحتاج من القوة والمنعة بأكثر مما تتطلبهما الحرب.