الحوار الوطني عبور إلى المستقبل
25.02.2025
محمد برو
الحوار الوطني عبور إلى المستقبل
محمد برو
سوريا تي في
الاثنين 24/2/2025
يشهد السوريون اليوم انشغالا واسعا حول مؤتمر الحوار الوطني الذي طالب به كثيرون وتطلع إليه واستعجله كثيرون، ربما تكون هذه الخطوة مهمة في جانب تطمين السوريين عامة لاهتمام الإدارة الجديدة بآرائهم وتطلعاتهم والاستماع إليهم وهذا ما كان غائبا في الحقبة الأسدية تماما. لكن من الحصافة أيضا عدم رفع سقف التوقعات وتوهم أن هذه الحوارات واللقاءات ستكشف عن جبل الذهب المخفي، وستحل للسوريين أكثر المسائل إلحاحا وهي رغيف الخبز والوقود والكهرباء والماء.
تكشفت العديد من المحاورات التي جرت، عن الهوة الكبيرة بين لغة وأحلام المثقفين والأفراد المسيسين ومن يتبعهم من هواة ومحترفي التنظير، وبين السواد الأعظم من الشارع السوري الذي يأتي اهتمامه بشكل ونظام الحكم واسم الجمهورية، ولون العلم والنشيد الوطني في الدرجة التالية للاحتياجات اليومية التي تمس حياته وحياة أسرته بشكل مباشر، فهو معني اليوم وبشكل شديد الإلحاح بتوفير خبز أطفاله ووقود التدفئة والكهرباء والماء والدواء، الجهة التي ستوفر له هذه الاحتياجات، هي وحدها من ستحظى بولائه وصوته في صندوق الانتخابات القادمة، وسيدرك جموع المنظرين أنهم كما كانوا في معظم الأحوال بعيدين كل البعد عن لغة الشارع وهمومه، وأنهم في معظم الحالات لم يلتقطوا نبض الشارع ولغته التي يستطيع سماعها، وأنهم باقون لوحدهم في واد غير ذي زرع، كما كانوا خلال سنين الثورة.
مع هذا تبقى الأنظار والأحلام معلقة بهذا اللقاء الذي سيجتمع فيه السوريون وربما للمرة الأولى في تاريخهم المعاصر، بجميع أطيافهم أو بالشطر الأوسع من هذه الأطياف، وسيعبرون عن تطلعاتهم ومواقفهم من قضايا كبيرة، لم يألفوا فيما سبق أن يكون لهم رأي فيها، وربما سيكون شطر كبير من هذه الآراء محض أحلام وأمنيات، وهذا لا يعاب عليهم بكل تأكيد، فقد عشيت نفوسهم وأبصارهم من سنوات الكبت وهيمنة الظلم والظلام على حياتهم، فهم يحتاجون زمنا فاصلا ليستعيدوا القدرة على الرؤية الواضحة والعملية، واختيار الموضوعات التي تلامس جوهر معضلاتهم.
سيكون محور القضايا الاقتصادية والاجتماعية حاضرا بكل قوته وسيعالج أو يحلم بمعالجة دمار ممنهج على مدى ما يزيد عن خمسين سنة، وسيتذمر كثيرون أن هذه القضايا لم تنل حظها من الاهتمام في الأيام المئة الجديدة من عمر دولة تكاد تلد الآن على أرض زلقة
سواء كان عدد المؤتمرين خمسمئة أو ألف أو يزيدون سيكون من شبه المحال الخلوص إلى نتيجة محددة في أي باب ستجري فيه تلك الحوارات والمناقرات الفكرية أو السياسية، سيهتم كثيرون وربما الشطر الأكبر من المؤتمرين بالقضايا المعيشية التي قد تبدو بسيطة، والتي تحاصر ساعاتهم وأيامهم بشكل رتيب، في الوقت الذي سيتركز اهتمام شريحة أخرى ودائرة من الحوارات على القضايا الكبرى، حول تشكيل حكومة وحدة وطنية وصياغة جديدة للدستور واجتراح قانون مناسب للأحزاب، التي سيبدأ معظمها من نقطة الصفر كون حال الأحزاب القديمة اليوم أشبه بقطرة الماء التي تجاوزت السد، وفقدت فرصتها في توليد الطاقة، وأصبحت مجرد ماض من التاريخ السياسي السوري البائس. ليس هذا تقليل من أهمية انكباب عموم السوريين على القضايا المعاشية، بل هو عرض لتباين سلم الأولويات بين الشارع السوري بعمومه وبين الطبقة المثقفة أو المسيسة، وبالرغم من أن فاتورة التحولات الكبرى تدفعها الغالبية العظمى من بسطاء الناس، إلا أن الوقائع المدونة والتي ستبقى لآماد طويلة، ستذكر وستحتفظ بأسماء وألقاب أولئك النخب والمنظرين المنفصلين عن شارعهم.
سيبتعد المؤتمرون عن لغة المحاصصة الطائفية الفجة، لكنها ستثوي في كثير من مفاصل رغباتهم واشتراطاتهم، وسيكون الحديث عن لغة الوحدة الوطنية والتأكيد على أهمية التنوع، وإشراك جميع المكونات مع تكرار التصريح أو التلميح لنسب تلك المكونات كما يزعم أصحابها، مما يدفعنا دفعا لمراعاة المحاصصة، وسنكون أمام استحقاقات متخيلة ينبغي تفكيكها ووضعها في نصابها الصحيح، سيكون لقادة بعض الفصائل صوت مرتفع يذكرنا بما قدمه من تضحيات وشهداء، وهذا يقتضي وفق تخيله استحقاقه لامتيازات استثنائية، ولن يكون حال بعض السياسيين الذين شغلوا مناصب مهمة في بعض مؤسسات المعارضة ببعيد عن تصور قريب أو موازي، فقد اكتسبوا خلال 13 سنة خبرات وخاضوا تجارب فاشلة تؤهلهم لاستلام مواقع تليق بنضالهم في الإدارة الجديدة.
سيكون محور القضايا الاقتصادية والاجتماعية حاضرا بكل قوته وسيعالج أو يحلم بمعالجة دمار ممنهج على مدى ما يزيد عن خمسين سنة، وسيتذمر كثيرون أن هذه القضايا لم تنل حظها من الاهتمام في الأيام المئة الجديدة من عمر دولة تكاد تلد الآن على أرض زلقة، وستستمر جحافل الفسابكة في انتقاد كل تفصيل صغر أم كبر من دون هوادة، وهذه النقطة بالتحديد ينبغي تفهمها بشكل ودي، فمن كمم فمه وأخرس صوته لعقود طويلة سيصاب بنوبة هيستيرية من الصراخ حين تسقط عنه القيود وينتفي شبح الخوف دفعة واحدة، فحتى المريض الذي يتخلص من ضرسه المنخور المؤلم، يبقى أياما بعد قلعه يتحسس موضعه بلسانه وحتى بإصبعه أحياناً، وكأنه غير مصدق أن مسبب الألم قد زال.
تحديات كبرى يواجهها مؤتمر الحوار الوطني، ربما يكون أكبرها وأولها هو التسرع المفرط في انعقاده، وعدم نيله كفايته من الإعداد والتحضير، وربما سيكون كما يراه بعضهم إجراء تسكيني وتجميلي يلبي تطلعات العديدين في المشاركة، وفي أحسن الأحوال ستصدر عن هذا اللقاء رؤى وتوصيات أولية يمكن العمل مستقبلا على تنقيحها، ووضع ما هو ممكن في جدول اهتمامات الإدارة الجديدة، وستكون هذه المراجعات بحاجة لتكنوقراط يشتغلون عليها زمنا ممتدا، لتثمر مخرجات عملية تسهم بشكل حقيقي في تغيير الواقع المدمر الذي خلفه لنا كسوريين نظام محترف في التدمير والقتل وبث الخراب.
سيكون علينا كسوريين مناقشة مسألة الحريات والأحزاب والمهجرين وعودتهم، والعدالة الانتقالية وقضايا المرأة والعقد الاجتماعي والعلاقات مع دول الجوار، ومعضلة الاحتلال الإسرائيلي وتهديده المستمر، والموقف من أقطار صديقة لا تتوقف عن العبث بخاصرتنا الرخوة، إضافة لتركة كبيرة من الحقوق التي استباحها وأهدرها النظام السابق وأصحابها ما يزالون يطالبون بها.
تركة الآثام التي ورثها الشعب السوري من جلاديه، هذا الشعب الذي لم يكد يصحو من صدمة الفرح بعد، كما تحملها الإدارة الجديدة ومن سيعقبها أنى كان اتجاهه ولونه، كل هذه التركة لا يمكننا تجاوزها إلا بمزيد من الجهد المصابر والإصرار على النجاح، والمزيد من التضحيات كما فعلت أمم كثيرة قبلنا، ولسنا كسوريين بدعا بين الأمم، وسيكون لمؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده أربع مخرجات رئيسية، أن السوريين مؤهلون كغيرهم من الأمم للاحتكام للغة الحوار كسبيل لبناء وحدة وطنية، وأن لسواد الشعب السوري صوت أو أصوات ينبغي بمن يتسلم إدارتها أن يحسن الإصغاء إليه وأن لا يتجاوزه، وأن التطلع إلى بناء سوريا حديثة والتعافي من تركة الآثام تلك يحتاج لزمن قد يبدو طويلا وشاقا لكنه بعد تحطيم جدار المستحيل أصبح محض سعي في مضمار الممكنات. وأن الثقة المفقودة بين المكونات لزمن بعيد واللازمة ليسود الاستقرار والتشاركية يمكن بناؤها من جديد، فسوريا اليوم تتعافى من سرطانها، وكل ما سواه ممكن وبسيط.