الرئيسة \
تقارير \ الحكومة في دمشق بين خيارين.. التنازل للخارج أو التنازل للداخل؟
الحكومة في دمشق بين خيارين.. التنازل للخارج أو التنازل للداخل؟
23.08.2025
إياد الجعفري
الحكومة في دمشق بين خيارين.. التنازل للخارج أو التنازل للداخل؟
إياد الجعفري
سوريا تي في
الخميس 21/8/2025
يُكشف تسريبان صحفيان، تم تمريرهما بالتزامن، قبل نحو أسبوع، عن أن السلطات في دمشق تتعرّض لضغوط خارجية غير مسبوقة، على خلفية أحداث السويداء، التي اندلعت الشهر الفائت. ونستطيع التقدير أن صانع القرار في دمشق بات بين خيارين: تقديم تنازلات مؤلمة لجهات خارجية، أو تقديم تلك التنازلات المؤلمة، للداخل.
قبل نحو أسبوع، مررت صحيفة "ذا ناشيونال" الإماراتية، الناطقة بالإنكليزية، معلومات عن عرض أميركي لتشكيل تحالف دولي لدعم التعافي وإعادة الإعمار في سوريا، مقابل تنازلات في السياسة الداخلية من جانب سلطة الرئيس أحمد الشرع. والملفت في هذا التسريب، الحديث عن التدخل بتشكيل الحكومة القائمة بدمشق، عبر تعيين تكنوقراط، تحددهم الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج والأردن. أي، الانتقاص من السيطرة المطلقة للمقرّبين من الشرع.
يؤشر التسريب بوضوح، إلى أن واشنطن تخيّر الرئيس الشرع بين عملية إعادة إعمار جدّية وواسعة النطاق، لقاء تنازلات مؤلمة، وبين العودة إلى ذات المربع الذي انحشر فيه بشار الأسد طوال السنوات التالية للعام 2018..
ترافق هذا التسريب، مع آخر مرّره موقع "أكسيوس" الأميركي، مفاده أن واشنطن تحاول إقناع السلطات في دمشق، بالموافقة على إنشاء ممر "إنساني" بين إسرائيل ومدينة السويداء، لإيصال المساعدات إليها. وهو الممر، الذي قالت وسائل إعلام عبرية، يوم الثلاثاء 19 آب، بأنه سيكون محور لقاء بين وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، ووزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بحضور المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في العاصمة الفرنسية باريس.
ما الغاية من هذين التسريبين؟ عادةً ما تستخدم أجهزة المخابرات تقنية التسريبات الصحفية في السياسة الخارجية، كوسيلة للضغط وإحراج الخصوم، أو لإيصال رسائل سياسية لأطراف محددة. وغالباً ما تكون مصحوبة بحملة علاقات عامة مكثفة لتحقيق هدف إخضاع الطرف المستهدف. وقد تكون المعلومات المسرّبة مضللة. لكنها في حالات أخرى تكون صحيحة، ومقصود تسريبها بالفعل.
في نهاية الشهر الفائت، قام وزير الخارجية، الشيباني، بزيارة لافتة إلى موسكو. ويمكن قراءة هذه الزيارة بوصفها محاولة لموازنة الضغط الأميركي، بصورة رئيسة، عبر إدخال لاعب منافس. لكن الإشارة التي احتواها تسريب "ذا ناشيونال"، قبل أسبوع، قد يحبط أي جدوى لمحاولة الموازنة تلك، إذ يؤشر التسريب بوضوح، إلى أن واشنطن تخيّر الرئيس الشرع بين عملية إعادة إعمار جدّية وواسعة النطاق، لقاء تنازلات مؤلمة، وبين العودة إلى ذات المربع الذي انحشر فيه بشار الأسد طوال السنوات التالية للعام 2018، حين تمكن من استعادة مساحات واسعة من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، وتجاوز خطر الانهيار العسكري، بفضل الدعم الروسي والإيراني. لكنه بقي في قفص العجز الاقتصادي المزمن، من جراء العقوبات، والفيتو الأميركي على أي نشاط اقتصادي حقيقي في المناطق الخاضعة لسيطرته. ولم تستطع لا روسيا ولا الصين، ولا حليفتهما المقرّبة إيران، من انتشاله من ذاك الضغط الاقتصادي الذي أدى في نهاية المطاف إلى تدهور معيشي غير مسبوق في أوساط حاضنته الموالية، كان أحد الأسباب العميقة لانهيار الروح القتالية لجيشه بصورة صادمة، خلال عملية "ردع العدوان"، قبيل 8 كانون الأول 2024.
أفضل وسيلة لمقاومة الضغوط الخارجية، هي في معالجة نقاط الضعف الداخلية.
يدرك صانع القرار في دمشق، ذلك. فهو حريص، وفق ما تؤشر إليه تحركات الوزير الشيباني، على التمسك بالانفتاح الأميركي عليه. لكن، لذاك الانفتاح كلفة مرتفعة للغاية. إذ تبدو كفة واشنطن أميل باتجاه الإرادة الإسرائيلية، التي تبحث عن سبل لتعزيز قيمة "الورقة الدرزية"، لتكون طرفاً فاعلاً في رسم معالم سوريا الجديدة، إلى جانب باقي اللاعبين الإقليميين.
وبالعودة إلى تسريب "ذا ناشيونال"، تبدو الرسالة واضحة. على أحمد الشرع أن يغيّر تركيبة السلطة وأجهزة الأمن والجيش التي شكّلها. عليه التخلص من سمة "اللون الطائفي الواحد"، والحد من نفوذ قادة الفصائل السابقين، والقبول بشخصيات خبيرة. ولا توجد فعلياً أي مشكلة في الخطوط العريضة لهذه الرسالة. بل قد يكون ذلك مطلب الكثير من النخب السورية التي انتقدت استفراد المقرّبين من "هيئة تحرير الشام"، بكل مواقع المسؤولية، بذريعة الحاجة لـ "فريق عمل متجانس". لكن الخطير في هذه الرسالة، وفق تسريب "ذا ناشيونال"، هو الرغبة في الوصاية على دمشق، في تحديد أسماء شخصيات داخل مواقع المسؤولية.
لكن إن أهملنا تسريب "ذا ناشيونال"، وراهنا على أنه "مضلل" وغير حقيقي. كيف يمكن قراءة تزامنه مع تسريب "أكسيوس"، بخصوص "الممر الإنساني"، بين إسرائيل والسويداء؟ للوهلة الأولى، يمكن قراءة هذا التزامن، على أنه تخيير للسلطة في دمشق، بين فقدان سيطرتها المطلقة على إدارات الدولة، وبين القبول بفتح "الممر الإنساني" المرغوب إسرائيلياً. وربما الخيار الثالث، هو خسارتها للانفتاح الأميركي عليها، وهو ما يبدو أن سلطة الشرع، ليست في وارد الذهاب باتجاهه، أياً كانت الأثمان.
في العلاقات بين الدول، تستند الضغوط الخارجية على نقاط ضعف داخلية. وقد كشفت أحداث السويداء، الشهر الفائت، عن فشل ذريع في القدرة على التعامل مع إحدى نقاط الضعف الداخلية، من جانب السلطات في دمشق. وأفضل وسيلة لمقاومة الضغوط الخارجية، هي في معالجة نقاط الضعف الداخلية. في حالة ملف السويداء، يمكن مقاومة الضغوط الأميركية بخصوص "الممر الإنساني"، عبر استنفار كل القدرات لفتح قناة "دعم" حقيقية، لأبناء المحافظة. وبما أن الفصائل الممسكة بالأرض، في السويداء، ترفض التعامل مع السلطات الرسمية، يمكن الحض على تشكيل مبادرات شعبية ودعمها، وتكثيفها، والتفاوض باتجاه فتح ممرات آمنة لها، لإيصال المساعدات للمحتاجين هناك. ويجب استنفار كل القدرات لردع أي عرقلة لذلك، من جانب المسلحين المحسوبين على السلطات بدمشق. وهنا تجب الإشارة إلى حالات استهداف الخارجين من السويداء، في طريقهم
إلى دمشق، (تم تسجيل حالتين على الأقل في الأيام القليلة الفائتة)، خلال مرورهم بريف درعا الشرقي، وهو ما يؤشر إلى عجز السلطات عن ضبط المشهد الأمني في تلك البقعة. ووجود مسلحين منفلتين هناك. الأمر الذي يتطلب معالجة سريعة، وأكثر جدّية، تزيل ذريعة "الممر الإنساني". ويجب اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من خطاب الكراهية، في ضفة أنصار السلطة في دمشق.
ويجب فتح المجال أمام مبادرات الشخصيات الوسطية وغير المحسوبة على السلطات. من قبيل الاقتراح الذي قدّمه الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني السوري، أحمد معاذ الخطيب، بأن يقوم رجال الدين بمجلس الإفتاء، بخطوة مباشرة للتواصل مع القيادات الدرزية في السويداء. مع منحهم الصلاحيات اللازمة لذلك. وقد تم عرض أكثر من مبادرة بهذا الاتجاه، في الأيام القليلة الفائتة، يجب دعمها، وإتاحة المجال لها، بدلاً من حصر كل مفاتيح الحل والربط، في قبضة المحسوبين مباشرة على السلطة، والذين فشلوا في إدارة الأزمة.
يجب على السلطة تقديم تنازلات جدّية لقوى سياسية ومجتمعية، ولشخصيات قادرة على التأثير، من الداخل السوري. وأن تتيح المجال لتشاركية حقيقية في صنع القرار الخاص بمستقبل هذا البلد، بدل الاستفراد به، وتقديم تنازلات مؤلمة للخارج، في سبيل الاحتفاظ بهذا الاستفراد. وللتذكير، فإن المصير النهائي الذي خلص إليه نظام الأسد، باتجاه السقوط، كان بصورة أساسية، حصيلة هذه العقدة: لنتنازل للخارج، على أن نكون "الوكلاء الحصريين" له، بدل تقديم تنازلات لقوى داخلية، تنتقص من سيطرتنا المطلقة. نأمل ألا يكون المنطق ذاته، ما يزال يحكم صانع القرار بدمشق، في الوقت الذي يتفاوض فيه مع الإسرائيلي، على فتح "ممر" إلى السويداء.