الرئيسة \  تقارير  \  التطبيع العربي والحرب السورية المؤجّلة

التطبيع العربي والحرب السورية المؤجّلة

01.05.2023
وسام سعادة

التطبيع العربي والحرب السورية المؤجّلة
وسام سعادة
القدس العربي
الاحد 30/4/2023
تنطلق حجّة التطبيع الرسميّ العربيّ مع النظام السوريّ من ملاحظة واقعيّة، وهي أنّ الاستمرار في عزل هذا النظام عربياً وغربياً لا يؤدي في ظل تقاطع الأوضاع القائمة في السنوات الأخيرة وإلى أجل غير محدّد لسنوات إلى الأمام، لا إلى إبدال هذا النظام بآخر، ولا إلى الاضعاف من النفوذ الإيراني في كل من سوريا ولبنان، ناهيك عن العراق، كما أنه من غير الممكن وضع تصورات استشرافية لآلية حل النزاعات وخفض التوترات في المنطقة العربية من الشرق الأوسط على قاعدة الاستمرار في سياسة العزل ليس إلا وليس أكثر.
يضاف إلى هذه الملاحظة الواقعية بعدٌ آخر، وهو أن النظام السوري ليست له سمة أيديولوجية من نوع “تصدير ثورة” ما، على غرار النموذج الخميني الإيراني. هذا بالرغم من أنّه قد تحوّل منذ رحيل حافظ الأسد وانسداد المسار السوري من عملية السلام، أكثر فأكثر إلى التعكيز على التحالف مع إيران.
ولئن كانت رؤى وأدوات النظامين الإيراني والسوري متضاربة بعد 2003 – ولسنوات – فيما تعلّق بالعراق، فإن الأمور سارت، وخاصة بعد الانسحاب السوري من لبنان 2005 في إثر صدور القرار 1559 ثم اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، إلى الاحتياج أكثر فأكثر إلى الحليف الإيراني.
ولم تجد كذلك الأمر التمارين الأمريكية والفرنسية نفعاً، لجهة التبديل من سلوكيات النظام السوري، وبشكل أساسي تعديل مسلكه “الفنائي” في المنظومة الإقليمية التي تقودها إيران، وقد وصلت تمارين تغيير السلوك حدّ إشراك بشار الأسد في عيد الثورة الفرنسية يوم 14 تموز/يوليو 2008 جنباً إلى جنب مع نيكولا ساركوزي، في مفارقة صارخة ومستفزة لذاكرة ذلك اليوم الذي شهد سقوط سجن الباستيي، إنما في اعتراف مكبوت أيضاً إلى أن الديكتاتورية السورية هي وريثة تجربة الجنرالات الفرنسيين أيام استعمارهم لسوريا.
لم يسمح شيء من هذا بتعكير صفو التحالف الإيراني السوري، ولا حتى إلى تحسين شروط النظام السوري ضمن هذا التحالف، حيث زادت أحواله فيه تبعية.
كذلك، التعويل التركي على تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين الجارين في مرحلة رجب طيب اردوغان، والصفح السعودي السريع عن بشار الأسد بعد اغتيال الحريري، خاصة بعد رحيل الملك فهد بن عبد العزيز (1 أغسطس 2005) ومن ثم الضغط السعودي على مكونات 14 آذار اللبنانية “لترشيد” عداوتها مع نظام دمشق، وتوجيب تطبيع سعد الحريري بعد ترؤسه للحكومة مع بشار الأسد، بل والمبيت عنده، بعد سنوات من الاتهام السياسي الموجه من آل الحريري وتيارهم وقوى 14 آذار للرئيس السوري بأنه من أعطى الأمر بتصفية الحريري الأب. كل هذا لم ينفع في “استرداد” النظام السوري من الحلف الانقيادي وراء إيران، ومن إعادته إلى مرحلة التوفيق بين علاقته مع الجمهورية الإسلامية وبين علاقته مع السعودية والخليج أيام حافظ الأسد.
حتى إذا انتقلت شرارة الربيع العربي إلى سوريا في آذار/مارس 2011، وجدت كل من تركيا والسعودية أنه لم يعد من الممكن الاستمرار في السياسة نفسها، وكذلك وجدت الولايات المتحدة أن الرهان على التعديل في سلوكيات الرئيس السوري ونظامه خائب.
في المقابل، ظهر أن الرهان على انهيار النظام السوري لم يفلح هو الآخر. بعكس الحال في تونس ومصر وليبيا واليمن لم يتمكن السوريون من خلع “رئيسهم”. هذا قبل أن يظهر أن هذا الاستثناء السوري نسبي هو الآخر. ففي مصر وتونس وأجزاء من ليبيا، ظهر أن النظام نفسه لم يتبدّد بعد أن أطيح برأسه. المفارقة أن ثمة من أخذ يطرح هنا وهناك المعادلة بالمقلوب: هل يمكن، في سوريا، الإبقاء على الرأس مع إبدال النظام؟ ثم، وفي محاولة للتخفيف بعض الشيء من فانتازيا السؤال: هل بقي النظام بالفعل؟ أم أن بشار الأسد هو رئيس لنظام منحسر ينساب بين النفوذين الروسي والإيراني في سوريا، فضلا عن لا مركزية أمنية محلية ضمنية مستمدة من الوضع الجديد؟
ظهر في المقابل أن النفوذ العسكري الروسي وحده هو الذي نجح في الحد من تبعية نظام آل الأسد لإيران، وفي إدخال سوريا في وضعية بالغة التركيب حتى بعد أفول موجة “الثورة السورية”. فالشرطة العسكرية الروسية لها الكلمة في مناطق عديدة ما أن تخرج من دمشق. وللحرس الثوري الإيراني مناطق نفوذه. والضيق والتبرم من البث الأيديولوجي الديني الدائر في فلك هذا الحرس وملحقاته العراقية واللبنانية والسورية المحلية يتشارك فيه السنّة والعلويون.
أما المنطقة الخاضعة للفرع السوري من “حزب العمال الكردستاني” ألد أعداء تركيا في برّ الأناضول، فلا تزال تشمل ربع مساحة سوريا، وتشمل مناطق ليست فقط كردية بل عربية أيضاً. وكل من واشنطن وموسكو غير مقتنعين بوجهة النظر التركية حيال “روجافا” هذه وكيفية التعامل معها. وكل سنة تمرّ تعطي لهذا الكيان مادة أقوى للبقاء، بحيث تصعب عملية ازالته بعد ذلك كأن شيئاً لم يكن. والحال أن أكراد العراق وسوريا تمكنوا في مطلع هذا القرن من تحقيق ما كان يبدو صعب المنال في القرن الماضي. كيانية كردستانية شمال عراقية، لها حد أدنى من المواثيق الضامنة لها، ولو أنها كيانية لا تزال تنظر إلى عاصمتها المرغوبة على أنها خارجها، وهي كركوك ونفطها. وكيانية كردية شمال شرق سوريا، لا تنحصر بالمنطقة الكردية فقط، بل تشمل الحسكة.
ولئن كانت تركيا تفرض نفوذاً شبه مباشر في بعض المناطق الملاصقة لحدودها، ربطاً بمشكلتها المستدامة مع الحركة الثورية الكردية، فإن المنطقة التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية المنبثقة من – أو على – أنقاض الثورة السورية، في ريفي شمال حلب وإدلب على حالها منذ قرابة خمس سنوات، تكاد لا تزيد أو تنقص. هذه المنطقة طرفية بامتياز إذا قيست المسافة من دمشق، لكن عشرات آلاف المقاتلين الموجودين فيها من مختلف الفصائل هم على مسافة عشرات الكيلومترات في نهاية المطاف من كل من حلب واللاذقية، ويصعب ان يتطبع النظام الأسدي مع استمرار هذه المعادلة.
فلئن قلنا مثلا أن تبدلا طرأ في الحرب السورية عام 2016 لجهة الترجيح الروسي لكفة النظام، وأن الحرب نفسها باتت أشبه بالمعلقة منذ عام 2018، أو أقله خفتت وتيرتها، فإن الزمن يمضي ومعه مجموعة من الأوضاع المؤقتة – يفترض – انما الذي كلما طال الوقت بها غدت عملية نفضها أصعب من قبل.
والحال أن التطبيع العربي الرسمي مع النظام السوري تبدأ مشكلته من هنا. فهذا التطبيع ينطلق من نظرة واقعية ليصطدم من ثم بما هو غير واقعي من أمور بمجرد طرحه سؤال ما الذي يمكن عمله من بعد التصريح عن هذه النظرة الواقعية.
لنشرح. هناك مجموعة من الأوضاع القائمة لم تعد تسمح بابقاء النظام الرسمي العربي على سياسة عزل النظام السوري. أولها ان هذا النظام الرسمي العربي لا يتعرف على الديمقراطية من قريب أو من بعيد كي تكون هذه هي مشكلته مع نظام دمشق. وثانيها أن النظام السوري ليس من طبيعة ثورية تريد تصدير عقيدتها إلى بقية البلدان. وثالثها ان المصالحة مع إيران بدأت، بإشراف صيني، فما تكون الحجة حينها للاستمرار في معاداة نظام دمشق؟ الستاتيكو الحالي لا يسمح أساسا ببناء السياسات كما لو ان هذا النظام آيل للسقوط. في الوقت نفسه، هو في موقع الرابح، قياسا على انهزام القوى التي خرجت تقاتله. لكن الأسد لم يخرج من الحرب السورية مظفراً بالشكل الذي خرج فيه الجنرال فرانكو من الحرب الأهلية الإسبانية. فرانكو قمع الجمهوريين بالحديد والنار، لكنه استطاع من ثم إطلاق عملية تصنيعية للبلاد، وتمكن من نقل البندقية من تحالفه مع المحور الألماني الإيطالي إلى تحالفه مع الولايات المتحدة في زمن الحرب الباردة. بشار الأسد ليس أبدا في هذه الخانة. ربح حرباً جُمّدت جبهاتها ولكنها لم تنته. أي محاولة لمعالجة أي من الملفات العالقة وكل ما في سوريا ملفات عالقة من شأنه استئناف الحرب من جديد. فهل يمكن معالجة موضوع روجافا من دون حرب؟ وهذه ما يكون شكلها؟ انقضاضا تركيا وسوريا رسميا وسوريا “ثوريا” على روجافا؟ وهل يمكن معالجة موضوع منطقة سيطرة النظام في ريفي حلب وإدلب من دون حرب؟ وهذه ما يكون شكلها؟ انقضاضا سوريا وروسيا وكرديا وتخليا تركيا عن هذه المنطقة؟ هل يمكن السير جديا بإعادة إعمار سوريا فيما أكثر من ثلث مساحة البلد لا تخضع بأي شكل للدولة السورية؟ والثلثان الباقيان يخضعان لأحوال مختلفة ومتقلبة من منطقة إلى أخرى؟ ومسألة اللاجئين السوريين تأخذ طابعا متوترا ان في تركيا أو في لبنان؟
هناك ميل في العامين الماضيين لفك الترابط بين مسارات إعادة إعمار سوريا، والعملية السياسية فيها، وعودة اللاجئين إليها. والتطبيع العربي الرسمي المنطلق من ملاحظة واقعية للأوضاع القائمة يتحول إلى نقيض للواقعية حين يساهم هو الآخر في فك التربط بين هذه المسارات الثلاثة. المطب هنا أنه كلما جرى الابتعاد عن الربط بين مسارات العملية السياسية الداخلية، إعادة الإعمار، عودة اللاجئين، كلما آل الوضع إلى ان الأنظمة تقول لنظام دمشق “لم يعد لنا مشكلة معك، لكن ليس عندنا ما نقدمه لك” إلى ان تبدل أمريكا سياستها تجاهك. هي الآن لا تقف حجر عثرة دون انفتاحنا عليك، لكن انفتاحنا عليك لا يعني انها بصدد الانفتاح عليك هي الأخرى. أساسا الولايات المتحدة، وحتى إشعار آخر، تكاد تكون سياستها الخارجية محصورة في موضوعين اثنين: مساعدة أوكرانيا في الحرب، وتنبيه الصين من مغبة الاستفادة من الاستغراق الغربي في الحرب الروسية الأوكرانية لتعديل ستاتيكو تايوان ومنطقة بحر الصين الجنوبي بشكل عام. في هذه الغضون، ليس للولايات المتحدة أي سياسة شرق أوسطية متكاملة في الوقت الحالي. تتكل فقط على تخبط بلدان المنطقة بمشكلاتها المستعصية والمتفاقمة، وتخبطها بعد أكثر بمحاولات الخروج من هذه المشكلات دون امتلاك شروط ذلك، ويدخل التطبيع العربي مع نظام دمشق ضمن هذه الخانة. يمكن للدول العربية تطبيع علاقتها مع هذا النظام، انما لا يمكنها “احياؤه” ليعود كما كان عليه عام 2011. فكيف إذا كان هناك، بصدد لبنان تحديدا، من لا يزال يمني النفس بإعادته إلى ما قبل 2005؟ في سوريا حرب معلّقة لم تنته بعد، وأي محاولة غير متمكنة من شروطها لمعالجة أي من الملفات العالقة يمكنها أن تفجر مرحلة جديدة من الحرب.