الرئيسة \  تقارير  \  الانتخابات الرئاسيّة التركيّة ... صراع بين البصلة والسّفينة الحربيّة

الانتخابات الرئاسيّة التركيّة ... صراع بين البصلة والسّفينة الحربيّة

13.05.2023
النهار العربي

الانتخابات الرئاسيّة التركيّة ... صراع بين البصلة والسّفينة الحربيّة
النهار العربي
الخميس 11/5/2023
تحول النقاش بشأن الانتخابات التركية إلى بصلة وسفينة حربية. وبدأ الأمر عندما جلس كمال كليتشدار أوغلو، الرجل الذي يقود المهمة الساعية إلى كسر قبضة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على السياسة التركية، على طاولة مطبخه الشهر الماضي، وكانت ياقة قميصه مفتوحة، ويمسك بيده بصلة.
وكانت الفكرة التي أراد زعيم المعارضة نقلها إلى الناخبين أن التضخم الجامح في عهد أردوغان قد أضر بكل عائلة تركية، لا سيما مع ارتفاع سعر كيلو البصل، وهي سلعة حيوية للمطبخ التركي، بنحو خمسة أضعاف في العاصمة أنقرة في الأشهر الثمانية عشر الماضية.
وقال كليتشدار أوغلو وهو يبتسم: "الأجندة الحقيقية للمواطنين هي هذه البصلة"، مضيفاً: "إنهم يعلمون أنه عندما أتولى السلطة، ستسود الديموقراطية وتتدفق الأموال والاستثمارات، وترتفع قيمة العملة ونشهد ازدهاراً، لكن إذا بقي أردوغان في منصبه، فهذه البصلة في يدي ستكون بقيمة 100 ليرة، وهي بـ30 ليرة اليوم".
 بعد يوم واحد، عرض أردوغان صورة مختلفة تماماً، وهو يقف كرجل دولة في قاعدة بحرية لتدشين سفينة حربية جديدة، وهو حدث اعتاد أن يتباهى من خلاله بقوة تركيا تحت قيادته ونفوذها، وقال إن السفينة رمز يعزز مكانته كقائد في القرن التركي، ويرفع صوت دولته عالمياً.
وتلخص الصورتان المتناقضتان الخيار الصارم الذي يواجهه الناخبون الأتراك في الانتخابات المقرر إجراؤها في 14 أيار (مايو): رجل قوي يتمتع بالكاريزما تألق في سماء سياسات البلاد خلال عقدين، أو بيروقراطي متقاعد يتكلم بصوت منخفض ويراهن على أن سنوات الاستبداد التدريجي وتكاليف المعيشة المرتفعة ستؤدي الى إقناع الناخبين بضرورة التغيير.
ونادراً ما كان الرهان أكبر من الذي تواجهه تركيا اليوم، في وقت تحتفل الجمهورية بالذكرى المئوية لتأسيسها.
ويواجه أردوغان صعوبات كبيرة للحفاظ على بقائه السياسي، في ظل أكبر تحد له في صندوق الاقتراع منذ وصوله إلى السلطة عام 2003، بعدما قاد كليتشدار أوغلو تحالفاً سداسياً موحداً في معركة إطاحة الرئيس.
والواقع أن انتصار المعارضة، لا سيما بهامش ضيق، من شأنه أن يختبر التزام أردوغان بالديموقراطية، فضلاً عن ولاءات القضاء والشرطة والجيش، بعدما أمضى عقدين في محاولة إخضاع هذه الكيانات لسيطرته.
أما إن حصل أردوغان، الذي يُظهر عدم تسامح متزايد مع المعارضة، على ولاية رئاسية أخرى، فيخشى النقاد من أنه سيقود تركيا نحو المزيد من الاستبداد.
ويقول جان سلجوقي، "المدير العام لأبحاث اسطنبول الاقتصادية" إن في جوهر هذه الانتخابات اختياراً بشأن كيفية تطور الديموقراطية التركية، مضيفاً أن فوز أردوغان يشكل استمراراً لهذا النظام غير المتوازن، حيث تقتصر الديموقراطية على انتخابات تجرى كل خمس سنوات، وبدون أي فصل في السلطات.
وقد تحدد النتيجة أيضاً الاتجاه الذي يتخذه الاقتصاد البالغ حجمه 900 مليار دولار.
وتحتاج تركيا إلى جذب الاستثمار الأجنبي لإدارة عجز الحساب الجاري الذي يقترب من أعلى مستوياته.
وقوضت هذه الأزمة شعبية أردوغان، الذي انتهج سياسة نقدية غير تقليدية، بعدما عارض أسعار الفائدة المرتفعة، رغم زيادة التضخم وفصل ثلاثة من محافظي المصارف المركزية في أقل من أربع سنوات. مع ذلك، يصر أنصاره على أنه الرجل الوحيد القادر على إصلاح هذه الفوضى.
في المقابل، يتعهد كليتشدار أوغلو بإعادة تشكيل المؤسسات المالية للدولة واستقطاب مستثمرين أجانب. ويرغب في إصلاح علاقات العضو في "منظمة حلف شمال الأطلسي" (الناتو) المتوترة في كثير من الأحيان مع أوروبا، وهو تحول مهم محتمل نحو غرب، المنشغل بالحرب في أوكرانيا. وبالتالي، سيكون شخصية أقل إثارة للقلق على الساحة الدولية.
ولن يكون لدى كليتشدار أوغلو العلاقة الوثيقة والمعقدة، التي أقامها أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنه سيحافظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا، أحد أهم شركاء تركيا التجاريين.
ووعد كليتشدار أوغلو بالتخلي عن الرئاسة التنفيذية القوية التي أقامها أردوغان، وتم تبنيها بعد استفتاء عام 2017 على الدستور المثير للجدل، والعودة إلى الديموقراطية البرلمانية.
يقول كليتشدار أوغلو: "لقد سلمنا الجمهورية التركية لشخص واحد... مثل هذه العقلية لا يمكن أن تستمر، سنفوز ونصلح تركيا".
وتشير معظم استطلاعات الرأي إلى أن كليتشدار أوغلو، زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، حقق تقدماً ضئيلاً على أردوغان، إذ تدعم فرصه حقيقة أن المعارضة التي كانت منقسمة في السابق، صارت في أقصى حالاتها الموحدة، في سعيها المستمر منذ سنوات إلى إطاحة الرئيس.
لكن تفاؤل المعارضة يخفف من حجم المهمة المقبلة. فأردوغان داهية وعديم الرحمة، تفوّق باستمرار على المعارضين لتخطيط الانتصارات الانتخابية المتعددة في البرلمان والرئاسة والاستفتاءات.
ويعترف المعارضون أيضاً بإمكانية القول إنه لا يزال السياسي الأكثر شعبية في تركيا، مع قاعدة دعم قوية بين المحافظين الدينيين، الذين يرون أن آفاقهم مرتبطة بآفاق الرئيس.
ويقول أحد أعضاء فريق حملة كليتشدار أوغلو: "بعد 20 سنة، لا يزال لدينا بعض الشكوك".
وليست هذه المرة الأولى التي يتوقع منظمو استطلاعات الرأي وشخصيات معارضة أن قبضة أردوغان على السلطة قد تتراجع.
وفي حزيران (يونيو) 2015، خسر "حزب العدالة والتنمية"، ذو الجذور الإسلامية، الأغلبية البرلمانية للمرة الأولى منذ 13 سنة، لكن أردوغان ضاعف من الرهان على موقفه، ودعا إلى انتخابات مبكرة في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام. وتحدى "حزب العدالة والتنمية" استطلاعات الرأي، التي توقعت برلماناً منقسماً، فاستعاد حزبه الأغلبية في المجلس.
وبعد ثلاث سنوات، راهنت المعارضة بثقة على أن التضخم الهائل والتراجع في قيمة الليرة سيساعدان في إسقاط أردوغان، لكنه فاز بنسبة 53 في المئة من الأصوات، ما ضمن له الرئاسة التي سعى إليها منذ فترة طويلة.
واليوم، باتت الضائقة الاقتصادية أعمق بكثير، فالدولار الذي كانت قيمته 4.5 ليرات في 2018 وصل إلى 19 ليرة. وبلغ التضخم ذروته في 24 سنة، إذ تجاوز نمو أسعار المستهلك 80 في المئة في تشرين الأول (أكتوبر).
وتفاقم الوضع بسبب الزلزال الذي دمر جنوب تركيا في شباط (فبراير)، ما أسفر عن مقتل أكثر من 50 ألف شخص وتشريد 3 ملايين آخرين. وانتقد الكثيرون كيفية استجابة الحكومة لهذه الكارثة.
ويفتقر أردوغان الذي يبلغ 69 سنة، إلى الطاقة التي كان يتمتع بها من قبل. وعلقت حملته لفترة وجيزة بسبب ألم في المعدة، تسببت في إصابته بالإعياء على الهواء مباشرة.
ويقول بيرك إيسن، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية في جامعة سابانجي في إسطنبول والعضو في "حزب الشعب الجمهوري": "لم يخض أي مرشح الانتخابات بهذا الكم من القيود وأوجه القصور الهيكلية"، مضيفاً أن بقاء حكومة في السلطة منذ 21 سنة هو أمر غير مسبوق في تاريخ تركيا المتعدد الأحزاب. وذكر أن أردوغان مستبد متقدم في السن، ليخلص إلى أن كل هذه العوامل تشير إلى ضرورة وضع حد لولايته.
مع ذلك، فهو متفائل بحذر بفوز المعارضة. وعلى غرار محللين آخرين، يتوقع إيسن أن تصل الانتخابات إلى جولة ثانية، بسبب عدم حصول أي مرشح على ما يفوق 50 في المئة من الأصوات.
وتوقع المحللون برلماناً منقسماً بشدة، بالرغم من وجود إمكانية لحصول كتلة "حزب العدالة والتنمية" على معظم المقاعد، ما يؤكد الطبيعة الحادة للمنافسة.
ويقول إيسن: "إحساسي أن كلاً من المعارضة والحزب الحاكم واثقان من النصر، وهذه ليست علامة جيدة في دولة استبدادية، لأن الأنظمة الاستبدادية تخطئ في الحسابات، وتميل أيضاً إلى امتلاك الكثير من الموارد تحت تصرفها".
ويستخدم أردوغان بلا خجل الدولة لدعم قضيته، إذ خضعت الكثير من وسائل الإعلام لسيطرة الحكومة، والتزمت بصرامة بقواعد الرئيس.
وتميزت حملته بمزيج من الهدايا التي سبقت الانتخابات، من الغاز المجاني لمدة شهر إلى رفع الحد الأدنى للأجور، وتقديم ما يصل إلى 10 جيغابايت من الإنترنت المجاني للطلاب، بالإضافة إلى افتتاح مشاريع حكومية، بما في ذلك السفينة البحرية، ومنشآت معالجة الغاز ومحطة نووية تقوم بإنشائها روسيا.
وسعى أردوغان في خطاباته إلى إبراز خبرته وقوة الدولة، بينما اتهم كليتشدار أوغلو بالاستعداد لـ"التسول" من المانحين الغربيين والاستسلام لصندوق النقد الدولي، كما أنه يؤيد مجتمع الميم ويتحالف مع "الإرهابيين".
لكن أنصار أردوغان يدركون أنه في معركة. ويقول مصدر مطلع على الحملة: "لا داعي للذعر، لكنهم غير مرتاحين".
ويقول فرحات بيرينجي، المحلل في مؤسسة "سيتا"، وهي مؤسسة فكرية في واشنطن لها صلات وثيقة بأردوغان وحكومته، إن حملة الرئيس "واثقة" من فوزها، لكنها تؤمن بالحاجة إلى العمل الجاد، وتدرك أنها على حافة الهاوية.
ورغم الانتقادات بشأن كيفية تعامل الحكومة مع الزلزال، تصب إعادة الإعمار الهائلة في مصلحة اردوغان، مستشهداً بخبرته وسجله في تسليم مشاريع البنية التحتية.
وذكر فرحات بيرينجي: "قبل الزلزال، انخفض الدعم الشعبي للحكومة بسبب الأزمة الاقتصادية. لكن بعد الكارثة، بدأ الجميع يسأل عن الشخص القادر على مساعدة البلد على التعافي. وعند مراجعة الاستطلاعات، حتى الأشخاص الذين لا يصوتون لأردوغان، اجابوا أنه هو الشخص الذين يبحثون عنه.
وشكك بيرينجي أيضاً في أن المعارضة منحت أردوغان عن غير قصد ميزة من خلال اختيار كليتشدار أوغلو مرشحاً لها، وقال: "لقد كان من أفضل المرشحين بالنسبة إلى أردوغان، لأنه يعرفه جيداً. فاردوغان هو سيد السياسة".
ومؤيدو أردوغان ليسوا الوحيدين الذين يشككون في قدرة كليتشدار أوغلو على الفوز في الانتخابات.
وبعد أشهر من إعلان الأحزاب المعارضة عن توحيد صفوفها خلف مرشح واحد العام الماضي، انتشرت التكهنات بشأن ما إذا كانت ستختار الرجل الضعيف البنية، الذي يبلغ 74 سنة، أم أحد قادة حزب الشعب الجمهوري الأصغر سناً والأكثر جاذبية، ولا سيما أكرم إمام أوغلو أو منصور يافاش، رئيسي بلديتي اسطنبول وأنقرة.
ويضم التحالف الذي يقوده "حزب الشعب الجمهوري" "الحزب الجيد"، بقيادة ميرال أكشنر وحزبين صغيرين بقيادة حلفاء أردوغان السابقين. ولم ينضم "حزب الشعوب الديمقراطي"، ثالث أكبر مجموعة سياسية في تركيا والذي يهيمن عليه الأكراد، إلى التحالف ولكنه يدعم محاولة كليتشدار أوغلو.
وتصاعد التوتر بشأن قضية القيادة في آذار (مارس)، عندما انسحب "الحزب الجيد" من الائتلاف، قائلاً إنه لا يستطيع دعم كليتشدار أوغلو، قبل أيام من تسميته كمرشح. ثم عاد الحزب الى التحالف بعد تسمية إمام أوغلو ويافاش نائبي الرئيس. ولى التحالف سبعة نواب للرئيس.
لكن كليتشدار أوغلو، الذي قاد "حزب الشعب الجمهوري"، الحزب العلماني الوريث لمصطفى كمال أتاتورك، الأب المؤسس لتركيا، منذ عام 2010، لا يزال عليه بذل المزيد من الجهود لتحقيق أهدافه.
ويقول إيسن إن ثمة "خيارات أفضل" حينما يتعلق الأمر باختيار مرشح رئاسي للمعارضة، ويصف كليتشدار أوغلو بأنه "شخص مهذب وهادئ، وموظف حكومي جيد، مشيراً إلى امكانية الاستهانة به.