الرئيسة \
تقارير \ الاستخبارات في عهد نظام الأسد.. صناعة الخوف وتفكيك المجتمع
الاستخبارات في عهد نظام الأسد.. صناعة الخوف وتفكيك المجتمع
06.09.2025
عدي محمد الضاهر
الاستخبارات في عهد نظام الأسد.. صناعة الخوف وتفكيك المجتمع
عدي محمد الضاهر
سوريا تي في
الخميس 4/9/2025
منذ اللحظة التي أمسك فيها البعث بزمام الحكم في سوريا، لم يكن رهانه الأول على المؤسسات الرسمية أو الدستور أو القانون، بل على شبكة الاستخبارات التي تحولت مع مرور الزمن إلى قلب النظام وعصبه الحيوي. هذه الأجهزة لم تكن مجرد أدوات لملاحقة المعارضين أو إفشال الانقلابات أو حتى حماية الأمن المجتمعي والوطني كما قد يحدث في بلدان أخرى، بل صارت هي العقل المدبر لإدارة المجتمع بأسره مع اختراقه ، حيث اتخذت تلك الأجهزة من سياسة التخويف وشق الصفوف وسيلة لضمان بقاء المنظومة الفاسدة ، فقد أدرك الأسد الأب أن السيطرة العسكرية وحدها لا تكفي، وأن من الضروري ضرب أي إمكانية للتضامن المجتمعي الذي قد يولّد نظاماً بديلاً عنه. وهكذا بدأ بتغذية النزعات الطائفية والمناطقية والعشائرية وترسيخ الحواجز والعوائق النفسية بين مكونات المجتمع السوري ، بحيث يتحول التصور في الوعي الجمعي الخاص بالمكون أو الطائفة إلى أحادي الهوية وينظر كل مكوّن إلى الآخر بكونه خصما محتملا ، لا إلى شريك في الوطن.
مسرحية حامي الأقليات
لقد كان المشهد مدروساً بدقة، تُمنح بعض الامتيازات لأشخاص داخل جماعات بعينها لتُخلق زعامات مصطنعة تابعة للأمن والمخابرات السورية ثم يُشاع الخوف بين الأقليات تحت ذريعة أن أي تغيير في السلطة سيعني عودة التطرف أو الانتقام، في الوقت الذي كان فيه نظام الأسد الأب والأبن نفسه يمارس عنفاً منهجياً ضد الجميع دون تمييز حقيقي. ومع مرور الزمن، ترسخت هذه المعادلة الخطيرة: النظام بدا في نظر البعض وكأنه الحامي الوحيد للأقليات، وفي نظر آخرين وكأنه الممثل الحصري للأكثرية عبر شعارات قومية، بينما في الجوهر لم يكن يمثل إلا نفسه ومصالحه الضيقة.
وهنا تم الخلط المتعمد والمخطط له بين الطائفة والسلطة، وكأن الطائفة بكاملها مسؤولة عن ممارسات الحكم أو شريكة في جرائمه، وهو أمر باطل من حيث الواقع ومن حيث العدالة معاً، لأن الطائفة هي كيان اجتماعي واسع له امتداداته وتناقضاته الداخلية، بينما السلطة كيان سياسي يمارس سياسات محددة لأهداف سلطوية. هذا الخلط الذي كان نظام الاستبداد هو مسببه الأول هو الذي حوّل المواجهة مع النظام الاستبدادي في نظر المجتمع الدولي والإقليمي المجاور إلى صراع على أنه حرب أهلية بدوافع طائفية.
وإذا كان الماضي قد أُثقل بهذه السياسات، فإن الحاضر والمستقبل يفرضان تحدياً أعظم، إذ إن أي مرحلة انتقالية بعد الحروب هي الأخطر في حياة الأمم. لأن في مثل هذه المراحل، تتراكم الأحقاد وتزداد الشكوك المتبادلة وتبرز أصوات تدعو إلى الانتقام أو الانعزال أو إعادة إنتاج الهويات الضيقة باعتبارها ملاذاً آمناً. غير أن السير في هذا الاتجاه لا يقود إلا إلى دورة جديدة من الانقسامات، في حين يُطلب فيه أن يُعاد بناء الهوية الوطنية الجامعة، هوية لا تنفي التنوع بل تحتضنه ضمن إطار أوسع يجعل من الانتماء للوطن مقدماً على أي انتماء آخر. إن هذا التكاتف المجتمعي ليس ترفاً بل ضرورة وجودية، لأن الدولة التي تنهض من حرب مدمرة تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يرسخ فكرة المواطنة المتساوية، لا إلى إعادة تدوير الصراعات الطائفية والجهوية نفسها التي غذّاها النظام البائد على مدى عقود.
كيف نبني النموذج الصحيح؟
لكن حتى لو تحقق هذا الحد الأدنى من التكاتف، فإن الخطر الأكبر يبقى في الاستسلام لأي سلطة جديدة على أنها “المنقذ” الذي يجب الوثوق به دون مساءلة. هنا تبرز مسؤولية الشعب في أن يكون يقظاً على الدوام، لا يمرر الأخطاء ولا يسكت عن الانحرافات. فالديمقراطية لا تُبنى بخطاب عاطفي بل بتكرار عملية المراقبة والمحاسبة حتى تصبح سلوكاً عاماً. حين يتعوّد المواطن أن يطالب الحكومة بالشفافية وأن يحاسبها باستمرار، فإن ذلك يخلق عرفاً سياسياً جديداً، تصبح فيه السلطة خاضعة للمجتمع لا العكس. ومع الزمن، يتحول هذا العرف إلى ثقافة راسخة، بحيث لا يجرؤ أي حاكم على التعامل مع الناس وكأنهم رعايا صامتون.
وما إن يترسخ هذا الوعي حتى تأخذ الانتخابات معنى مختلفاً تماماً. فهي لن تعود مجرد سباق أسماء أو صراع طوائف خفي الملامح ، بل ساحة يتقدم فيها من يملك برامج وحلولاً واقعية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. حينها، يصبح الانتماء الطائفي أو المناطقي تفصيلاً ثانوياً لا يحسم الاختيار، لأن الناخب بات مدركاً أن ما يهمه هو من يستطيع تحسين حياته وضمان كرامته كمواطن بعد عقود من الفقر والمعاناة ، لا من ينتمي إلى طائفته أو عشيرته. هذا التحول في الوعي هو وحده ما يجعل من أي عملية انتخابية قادمة طريقاً نحو بناء ديمقراطية حقيقية، لا واجهة شكلية لتزيين الاستبداد.
نافذة أمل نحو مستقبل ديمقراطي
إن التجربة السورية في ظل حكم البعث، بما تحمله من قسوة ومرارة، تقدم درساً عميقاً عن خطورة الاستبداد حين يتغذى على الطائفية ويحوّلها إلى سلاح لبقائه. لكنها في الوقت ذاته تفتح نافذة أمل، فباعتقادي إذا كان بالإمكان تدمير مجتمع كامل بهذه الطريقة، فإنه بالإمكان أيضاً إعادة بنائه على أسس معاكسة تماماً، لكن بطريقة تضمن مصالحه تقوم على المصارحة والمحاسبة والاعتراف بالماضي من دون إسقاطه على مكونات بعينها. وبقدر ما يصر الشعب على أن يكون هو الناظم لعمل أي سلطة مقبلة، بقدر ما يقترب من الديمقراطية كحقيقة معاشة، لا كحلم بعيد المنال.