الاختبار الحاسم للسلطة الانتقالية السورية
21.08.2025
مالك الحافظ
الاختبار الحاسم للسلطة الانتقالية السورية
مالك الحافظ
العربي الجديد
الاربعاء 20/8/2025
بدا بيان مجلس الأمن بشأن السويداء، في العاشر من أغسطس/ آب الجاري، وكأنه يعيد فتح الملف السوري على الطاولة الدولية، مستدعياً قرار المجلس 2254 بوصفه مرجعية لا غنى عنها لأي مسار سياسي سوري. لكن ما يلفت النظر ليس مضمون البيان بحد ذاته بقدر ما هو السياق الذي صدر فيه، إذ جاءت الأزمة محلية تُدار بضماناتٍ غير سورية، في سابقة تستحق التوقف عندها لما تحمله من تشابه مع تجارب تاريخية تحوّلت فيها مدن أو أقاليم إلى مداخل لإعادة تشكيل المشهد الوطني بأكمله.
ليس القرار 2254 الصادر عام 2015 في جوهره قائمة مطالب، إنما هو إطارٌ حاكم يربط أي شرعية سياسية بسلسلة مترابطة من الالتزامات، تشمل وقفاً شاملاً لإطلاق النار وتوفير بيئة آمنة والشروع في عملية دستورية وصولاً إلى انتخابات تُجرى تحت إشراف الأمم المتحدة. إعادة استدعائه هنا استحضار لآلية الحكم الدولية على سلوك الأطراف. في علم السياسة، توصف هذه العودة بـ"إعادة إدراج الملف في جدول النظام الدولي"، وهي مرحلةٌ قد تعيد توزيع موازين الفعل بين الداخل والخارج.
وتكشف السويداء هشاشة إدارة التنوّع ومحدودية قدرة السلطة الانتقالية على ضبط الانقسام. هذا النوع من اللحظات في الانتقال السياسي يُعرف بـ"الأزمة الحافزة للتحول"، وهي حدثٌ محليٌّ يشكل نقطة انعطاف تدفع النخب إما إلى إنتاج اتفاق مؤسس يضبط قواعد اللعبة أو إلى القبول بتسويات يصوغها الآخرون. ويكتسب بيان مجلس الأمن أهميته من أنه يكسر خطاب الاكتفاء الذاتي الذي تروّجه السلطة الانتقالية، والذي يقوم على فكرة أن الحل "سوري – سوري" خالص. فحين يصدر عن مجلس الأمن تأكيد على مرجعيات دولية للعملية السياسية، فهذا يشير إلى أن لا شرعية نهائية ولا استقرار سياسياً خارج التوافق مع القرار 2254، ولا إمكانية لعزل المسار السوري عن ساحتيه الدولية والإقليمية. بهذا المعنى، يتحوّل البيان إلى أداة تفكيك للخطاب السلطوي الداخلي، ويكشف حدود قدرته على فرض سرديّته الخاصة.
في البلقان، لم يكن اتفاق دايتون عام 1995 ثمرة تفاهم داخلي شامل حول مستقبل البوسنة، بل جاء بعد سلسلة من الأزمات المحلية الطاحنة، أبرزها حصار سراييفو، التي دفعت المجتمع الدولي إلى تبنّي مسار تفاوضي أفضى إلى صيغة حكم معقدة صاغتها قوى خارجية. الفارق أن البوسنة وصلت إلى طاولة المفاوضات وهي منقسمة بعمق ما جعل "الهندسة الدولية للسلام" مساراً شبه حتمي، وفي الحالة السورية يثير مشهد السويداء، رغم اختلاف طبيعة الصراع، سؤالاً مشابهاً حول إمكانية إنتاج اتفاق تأسيسي محلي يترجم القرار 2254 قبل أن يتحوّل إلى صيغة جاهزة تُفرض من الخارج.
لقد برز، منذ مطلع الألفية في أدبيات القانون الدولي، مفهوم "السيادة المقيدة"، وهو الفكرة التي تقول إن الدولة التي تعجز عن حماية مواطنيها أو تنخرط في انتهاكات جسيمة، تفقد حقّ الحماية الكاملة لسيادتها أمام المجتمع الدولي. يضع بيان مجلس الأمن، وهو يربط التعافي بتدابير حماية شاملة، دمشق عملياً أمام اختبار هذا المعيار، فإما أن تُثبت قدرتها على ممارسة سيادة مسؤولة، أو أن تصبح شرعية التدخّل الخارجي مبرّرة وفق هذا المنطق.
الدعوة إلى حوار وطني شامل في سورية وتعديل الإعلان الدستوري، بحيث يضع أسس الحكم ويحد من تركّز السلطات، هو ضرورة براغماتية
هيئة الحكم الانتقالي المنصوص عليها في القرار 2254 مكوّن جوهري وضعها كإطار سياسي لإدارة المرحلة الانتقالية في سورية. غير أن السؤال الملحّ اليوم يتصل بمدى توافر الإرادة السياسية؛ فهل تستطيع السلطة الانتقالية أن تتخلى عن منطق السيطرة الأحادية وتفتح المجال لشراكة حقيقية في القرار، وأن تجعل من التعدّدية السياسية والديمقراطية قاعدة للحكم الرشيد، لا مجرّد إطار خطابي يُستدعى عند الحاجة لامتصاص الضغوط الدولية؟. ... ما يبدو أن مسار السلطة في سورية يميل إلى إحكام القبضة على مفاصل الدولة الوليدة، مع الاكتفاء بإدارة الأزمات بدلاً من تفكيكها. الإدارة الانتقالية أمام اختبار لقدرتها على إدماج كل القوى الفاعلة في صياغة المستقبل، وبناء عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع. وهذا يتطلب استعداداً فعلياً لفتح المجال أمام الكفاءات الوطنية بلا تمييز، وإشراك المجتمعات المحلية في رسم الأولويات، وإقرار قواعد للشفافية والمساءلة تضمن أن المرحلة الانتقالية ليست استراحة لسلطة قائمة، وإنما مسار تأسيسي لدولة قادرة على التعافي والنهوض.
تُشكّل إعادة تدويل الملف السوري انعكاساً مباشراً لفراغ سياسي داخلي، ولعجز السلطة الانتقالية عن إدارة المرحلة بحد أدنى من التوافق الوطني، فالفراغ في بناء مؤسسات تمثيلية، واستمرار العنف بأشكاله المختلفة، عوامل دفعت المجتمع الدولي إلى إعادة الإمساك بخيوط الملف. وفي هذه العودة الدولية رسالة ضمنية مفادها أن سورية كما هي اليوم عاجزة عن إنتاج تسوية ذاتية وأن بقاء الوضع الحالي مرهونٌ بإرادة أممية.
عندما انفجرت أزمة تيمور الشرقية عام 1999، تحوّلت أحداث العنف إلى مدخل لإطلاق مسار أممي كامل لإدارة الانتقال نحو الاستقلال. الفارق أن الأمم المتحدة تولت حينها إدارة البلاد مباشرة عبر بعثة انتقالية. في سورية، لا أحد يتحدّث عن إدارة أممية مباشرة، لكن الجنوب السوري يُظهر أن مناطق بعينها يمكن أن تتحوّل إلى بؤر تدخّل مُركّز، تُبنى عليها ترتيبات سياسية أو أمنية خارجية، وهو ما يجعل فكرة "التجزئة الانتقالية" خطراً قائماً إذا لم يتشكل إطار وطني شامل.
بيان مجلس الأمن بشأن السويداء في جوهره اختبار لهذه السلطة الانتقالية؛ إما أن تبرهن قدرتها على الحماية والتمثيل، أو أن تترك المجال لتوسيع دور الوصاية الدولية على مسار الانتقال
وفي علم الاجتماع السياسي، هناك مفهوم الأزمة المؤسّسة، وهي اللحظة التي لا تعود فيها المؤسّسات القائمة قادرة على إنتاج الشرعية أو الحفاظ على النظام، فتُفتح نافذة لإعادة التأسيس. هذه اللحظات نادرة وقصيرة الأجل، وإذا لم يُستثمر فيها داخلياً، فإن القوى الخارجية غالباً ما تملأ الفراغ بترتيباتها. ما يحدُث اليوم في أزمة السويداء يحمل خصائص هذه اللحظة، إذ تكشف الأزمة عجز البنية السياسية عن إدارة التنوّع ويصدر بيان دولي يمنح الشرعية لفتح مسار سياسي جديد، غير أن الباب قد يُغلق سريعاً.
من هذا المنظور، الدعوة إلى حوار وطني شامل في سورية وتعديل الإعلان الدستوري، بحيث يضع أسس الحكم ويحد من تركّز السلطات، هو ضرورة براغماتية، فالخبرات الدولية من جنوب أفريقيا إلى البوسنة تؤكد أن النخب التي عجزت عن إنتاج قواعد متوافق عليها، انتهت إلى قبول ترتيباتٍ صاغها الآخرون وفق أولوياتهم. والبيان الأممي في جوهره اختبار لهذه السلطة الانتقالية؛ إما أن تبرهن قدرتها على الحماية والتمثيل، أو أن تترك المجال لتوسيع دور الوصاية الدولية على مسار الانتقال.
ورغم أن البيان الرئاسي لمجلس الأمن لا يملك صفة الإلزام القانوني قراراً تحت الفصل السابع، فإنه يملك وزناً سياسياً يجعله نقطة مرجعية في أي متابعة لاحقة، ويُرسّخ الإجماع الدولي حول مسار بعينه. وهو، في الوقت نفسه، يربط نجاح العملية بقدرة مكتب المبعوث الخاص على إدارة تفاصيلها وفق ولايته المستمدّة من قرار المجلس 2254، ما يضع المسار كله تحت متابعة أممية دقيقة.
الخطر في هذا كله يتمثل في غياب عقد وطني سوري يحسم الخلافات داخلياً قبل أن تُحسم بمعايير خارجية. فما يمكن أن نصفه ضمن حقل العلاقات الدولية بـ"سلسلة السوابق" قد يبدأ من الجنوب إذا لم تُلتقط هذه النافذة. وبالنتيجة، بيان مجلس الأمن الصادر أخيراً إما أن يكون بداية لترتيب البيت الوطني على أسس حماية شاملة وتمثيل متوازن، أو مقدّمة لانزلاق بطيء نحو حلول تُدار من خارج الحدود، بمعايير ليست بالضرورة منسجمة مع أولويات السوريين.