الرئيسة \  تقارير  \  الإخوان في سوريا: حل أم بقاء؟

الإخوان في سوريا: حل أم بقاء؟

03.09.2025
محمد إسماعيل كريدي



الإخوان في سوريا: حل أم بقاء؟
محمد إسماعيل كريدي
الجزيرة
الثلاثاء 2/9/2025
على الساحة السورية ظهر نقاش حول مستقبل جماعة الإخوان المسلمين، بين من يرى أن ضعف رصيدها وأدائها خلال الثورة يستدعي إنهاء وجودها، وبين من يؤكد أن بقاءها ضرورة لحماية التعددية ومنع تفريغ المجتمع من كياناته الشعبية والسياسية.
بدايةً أقول: أنا لست منتمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وقد كتبتُ عدّة مرات على مواقع التواصل الاجتماعي انتقادات للجماعة، مؤكدًا أنها بحاجة إلى تطوير وتحديث وضخّ دماء شبابية جديدة. ومع ذلك، لا أرى أن هذا الضعف أو الحاجة إلى التحديث يعني أن يكون الحل هو إلغاء الجماعة بالكامل، خصوصًا في ظل واقع سياسي واجتماعي معقّد كالوضع السوري الحالي.
إن دعوات حلّ الجماعة اليوم تأتي في توقيت حسّاس، تزامنًا مع دعوات بعض أعضاء الكونغرس الأميركي لوضع جماعة الإخوان المسلمين على لوائح الإرهاب، وقد حُظرت سابقًا في العديد من الدول العربية
منذ نشأتها، عُرفت جماعة الإخوان في سوريا كجماعة إصلاحية لا ثورية، وحتى في ثمانينيات القرن الماضي تأخرت كثيرًا في الانخراط بالصدام العسكري ضد نظام الأسد الأب، وكانت في البداية تعارض الحل العسكري، مفضّلة الإصلاح والتدرّج. ومع ذلك، دفعت الجماعة ثمنًا باهظًا؛ إذ أُعدم الآلاف في سوريا لمجرد اتهامهم بالانتساب إليها. وبعد سقوط نظام الأسد، أصدرت أكثر من بيان يبارك ما جرى ويدعو إلى التعاون مع القيادات الجديدة، ولم تنخرط في مهاجمة أحد، بل أبدت استعدادها للتعاون ووضع خبراتها ومقدّراتها في خدمة الدولة السورية الجديدة.
إن دعوات حلّ الجماعة اليوم تأتي في توقيت حسّاس، تزامنًا مع دعوات بعض أعضاء الكونغرس الأميركي لوضع جماعة الإخوان المسلمين على لوائح الإرهاب، وقد حُظرت سابقًا في العديد من الدول العربية، وكان آخرها الأردن قبل فترة قريبة. أما على الساحة السورية، فتأتي هذه الدعوة بعد أقل من شهر على حلّ المجلس الإسلامي السوري نفسه، وهو المجلس الذي كان يحظى بقبول شعبي واسع ولم يعارض الحكومة في شيء. وسبقه موقف الحكومة السورية الرافض لاستقبال الجماعات ككتلة، مع قبول التعاون مع أعضائها كأفراد، كما هو الحال مع الائتلاف السوري المعارض.
مثل هذا التزامن يثير تساؤلات عن الهدف الحقيقي من إقصاء ما تبقى من الكيانات المجتمعية ذات الامتداد الشعبي، في وقت لا تمتلك فيه الحكومة الجديدة منهجًا فكريًا واضحًا أو مشروعًا جامعًا.
الإمام محمد عبده يرى في مقالته “آثار محمد علي في مصر” أن محمد علي لم يُحيِ مصر، بل أمات فيها روحها؛ إذ حطّم قوى المجتمع الأهلي، وصادر استقلال الأفراد والقرى بجمع السلاح منهم، وقضى على التعددية والعزائم التي كانت تحيي الأمة
إن جماعة الإخوان، ورغم ضعف رصيدها السياسي، بذلت خلال الثورة جهدًا ملحوظًا في العمل المجتمعي والدعوي، وأسهمت في تعزيز وعي الناس وحماية بعض البُنى الاجتماعية من الانهيار. وإن إلغاء هذا الدور يعني إضعاف المجتمع السوري نفسه، لا مجرد إنهاء تنظيم.
قد يرى بعض الحكام أن تقليم أجنحة المجتمع وإضعاف قواه الشعبية يحفظ الحكم المطلق ويثبّته، لكن ذلك خيار قصير النظر؛ فلا أحد يعلم ما يخبّئه القدر. فالتحديات التي تواجه الحكومة الجديدة جسيمة، والاحتلال الإسرائيلي استهدف بالفعل هيئة الأركان للجيش السوري وسط العاصمة دمشق، واستهدف القصر الجمهوري، وربما – لا قدّر الله – تصيب القيادة حادثة ما. عندها لا بد أن يبقى في المجتمع من يستطيع تولّي زمام المبادرة، وإلا فإن الفراغ سيكون كارثيًا.
وحول أهمية ترك المجتمع قويًا بتجمّعاته ومجالسه، نقرأ في التاريخ تجربة محمد علي باشا مع المجتمع المصري.. فالإمام محمد عبده يرى في مقالته “آثار محمد علي في مصر” أن محمد علي لم يُحيِ مصر، بل أمات فيها روحها؛ إذ حطّم قوى المجتمع الأهلي، وصادر استقلال الأفراد والقرى بجمع السلاح منهم، وقضى على التعددية والعزائم التي كانت تحيي الأمة، فاستبدل بها سلطة مركزية جعلت الناس آلات جباية وأتباعًا للسلطان.
أما المدارس والمصانع والبعثات التي أنشأها فكانت تخدم الدولة وجيشها لا الشعب، فكانت النتيجة دولة قوية ظاهرًا، لكن شعبها ضعيف منزوع الإرادة. حتى إن المصريين الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي ببسالة لم يملكوا القدرة نفسها على مقاومة الاحتلال البريطاني لاحقًا؛ بسبب ما أحدثه حكم محمد علي من إضعاف للروح الوطنية.
يقدّم القرآن الكريم والسيرة النبوية العديد من الأمثلة التي تجلّي عظمة الشورى وأهمية تعدد الآراء واختلاف الأمة الواعية، باعتبار ذلك رحمة وهبة، لا نقمة
إن تجريد الساحة السورية من أي قوى فاعلة خطأ إستراتيجي جسيم؛ فسوريا بلد كبير ذو تاريخ طويل، وشعبها قريب عهد بتجربة ثورة مسلّحة. والجهات التي تمثل الحكومة الحالية نفسها خاضت في إدلب معارك عديدة ضد أطراف مختلفة، بعضها لا يزال موجودًا على الأرض. وهذا يعني أن مشهد التعددية القسرية مفروض بحكم الواقع، وأن تفريغ الساحة من القوى المجتمعية والسياسية لن يحقّق الاستقرار، بل سيجعل أي صدام مستقبلي أكثر خطورة.
إن الشعب السوري اليوم واعٍ تمامًا لحالته الداخلية، والضعف الاقتصادي للدولة الجديدة نتيجة تخريب النظام البائد وفساده، ولا يطالبها إلا بأقل القليل من العدالة الاجتماعية. وهو يخشى أشدّ الخوف من الثورات المضادّة، ولن يقبل بأي شكل من الأشكال تهديد الحكومة الحالية، وقد ظهر ذلك جليًا في أحداث الساحل وأحداث السويداء. لكن هذا الوعي لا يعني بحال القبول بحلّ كل الأحزاب والجماعات والمجالس المجتمعية والشعبية؛ فحماية الحكومة لا تكون بنسف التعددية، بل بترشيدها وضبطها ضمن إطار وطني جامع.
التجربة المصرية القريبة ماثلة أمام السوريين، والشعب السوري يدرك هذه التجربة جيدًا ولا يريد تكرارها. فالتعددية المجتمعية ليست ترفًا، بل صمّام أمان لأي مشروع وطني. وتفريغ الساحة من كل مكوّنات المجتمع المدني والسياسي سيؤدي إلى فشل ذريع واحتكار سيئ.
يقدّم القرآن الكريم والسيرة النبوية العديد من الأمثلة التي تجلّي عظمة الشورى وأهمية تعدد الآراء واختلاف الأمة الواعية، باعتبار ذلك رحمة وهبة، لا نقمة. ومن أبلغ صور هذا الفهم العميق إبقاء النبي ﷺ مفاتيح الكعبة في أيدي من عُهدت إليهم، دون المساس بالأمانة التقليدية لعائلة بني شيبة، بل تركها في أيدي أفراد العائلة نفسها تكريمًا للعادات واحترامًا للحقوق المشهورة بين الناس، رغم أن مكة فُتحت بالقوة لا بالسلام. وهم الذين كانوا سدنة الكعبة في الجاهلية، شاهدين على حكمة النبي ﷺ في الجمع بين السلطة والعدل، بين القوة والإنصاف.
قد يكون أداء جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ضعيفًا، لكن حلّها الآن سيكون خسارة للمجتمع قبل أن يكون نهاية لتنظيم. فبقاء الجماعة -مع نقد أخطائها- ضرورة لحماية فكرة التعددية
إن منهج الحاكم الطبيعي البشري، الذي وصل إلى السلطة بالقوة ومارس العسكرة، هو إقصاء الجميع، وهو أمر متوقع؛ فالسلطة المطلقة غالبًا ما تسعى لتقليص أي منافسة. لكن بالمقابل، واجب الشعب أن يعمل على وجود كيانات شعبية مشاركة تعزز العمل المجتمعي، وتضمن استمرارية المؤسسات، ووجود قوى حيّة توازن بين السلطة والمجتمع. وقد قال أحمد شوقي:
وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي .. ولكن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
قد يكون أداء جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ضعيفًا، لكن حلّها الآن سيكون خسارة للمجتمع قبل أن يكون نهاية لتنظيم. فبقاء الجماعة -مع نقد أخطائها- ضرورة لحماية فكرة التعددية، ولضمان ألّا تتحول سوريا إلى ساحة مغلقة لا مكان فيها إلا لصوت واحد، في بلد كبير ومعقّد الاتجاهات الفكرية مثل سوريا. وغياب هذه الروح عن المجتمع السوري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانغلاق والتفرّد بالسلطة.
إن توظيف أفراد المؤسسات والجماعات في مفاصل الدولة ليس بديلاً، ولا يغني عن جماعتهم الأساسية؛ فالمناصب يمكن أن تُلغى أو تُستبدل عند تغيير الحكومة.. حينها تكون الدولة قد خسرت خبرات طويلة، وربما لا يُعاد تشكيل الجماعة بعد حلّها.