الأكثرية العددية جامعة الأمة السورية
11.09.2025
حسان الأسود
الأكثرية العددية جامعة الأمة السورية
حسان الأسود
سوريا تي في
الاربعاء 10/9/2025
بدأت الامتيازات الغربية في بلاد المسلمين أيّام عزّ السلطنة العثمانية، وهي في ذروة اتساعها ومجد قوّتها وعظمة سلطانها. كان ذلك التدبير السياسي قد اتخذه السلطان سليمان القانوني دعمًا للملك الفرنسي فرانسوا الأوّل في مواجهاته مع الإمبراطور الروماني شارل الخامس.
أراد السلطان أن يقوّي شرعيّة فرانسوا في مواجهة سلطة روما، حيث مركز الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، وحيث الفاتيكان مقرّ الكنيسة الكاثوليكية. وقد جاء ذلك في عهد الإصلاح الديني الذي ابتدأه مارتن لوثر وانتهى بحروب دمويّة استمرّت عشرات السنين.
التدخلات الغربية لم تتوقّف عن منطقة الشرق الأوسط بعد زوال السلطنة؛ إذ وقعت المنطقة تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي، ثم دخلت في تجاذبات الأحلاف الكبرى بعد الاستقلال وفي أثناء الحرب الباردة.
في عهد السلطان سليمان كانت السلطنة العثمانية في أوج قوّتها، تسيطر على شواطئ البحار الثلاث: الأبيض والأسود والأحمر، وتحكم معظم الأراضي المحيطة بها، وتتحكّم بالمضائق الواصلة بينها. وكانت تتدخّل في شؤون الدول الأوروبية كما تتدخّل الأخيرة في شؤوننا اليوم. كما أنّ العديد من الممالك الأوروبية والمدن الإيطالية كانت تدفع الإتاوات للسلطنة العثمانية حفاظًا على استقلالها أو اتقاءً للصدام معها. لقد وجد السلطان سليمان في حركة الإصلاح البروتستانتي فرصة سانحة لإضعاف الإمبراطورية الرومانية المقدّسة بقيادة شارل الخامس، فالحروب بين الإصلاحيين والكنيسة الكاثوليكية كانت تصبّ في مصلحة الدولة العثمانية.
كانت الامتيازات الممنوحة لفرانسوا الأوّل إذن سلاحًا سياسيًا لتوسيع شقّة الخلاف بين المسيحيين الأوروبيين وإضعافهم في مواجهة المسلمين العثمانيين. غير أنّ هذه الامتيازات تحوّلت مع الأيام إلى حقوق مكتسبة، ثم إلى واجبات مفروضة على السلطنة في أيام ضعفها، وصارت أداة للتدخل الغربي في شؤون الشرق العثماني. واستمرّت هذه الامتيازات حتى ألغاها مصطفى كمال أتاتورك في أثناء مفاوضاته مع الأوروبيين لتصفية الدولة العثمانية والاعتراف بالدولة التركية الحديثة. وقد تجرّع الأوروبيون كأس السمّ عندما أصرّ أتاتورك على رفضها، لأنه كان يدرك أنّه لا مجال للحفاظ على سيادة الدولة في العصر الحديث مع بقاء امتيازات تمنح دولة أجنبية سلطات على رعايا دولة أخرى؛ فهذا هدرٌ صريح لمبدأَي الاستقلال والسيادة ولأسس الدولة القومية.
لكنّ التدخلات الغربية لم تتوقّف عن منطقة الشرق الأوسط بعد زوال السلطنة؛ إذ وقعت المنطقة تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي، ثم دخلت في تجاذبات الأحلاف الكبرى بعد الاستقلال وفي أثناء الحرب الباردة. وبقي الأمر على حاله بسبب فشل الدولة الوطنية في الإجابة عن أسئلة السياسة والاقتصاد والاجتماع. ثم عاد المشهد مع الربيع العربي إلى شكله القديم من التدخل المباشر أو الاحتلال الجزئي أو فرض الدعم لقوى مختلفة. من ليبيا إلى السودان واليمن والعراق وسوريا ولبنان، أمثلة كثيرة تشهد على ما آل إليه وضع بلداننا.
بالعودة إلى الامتيازات، وبما أنّ فكرة المواطنة لم تكن قائمة آنذاك، فقد كان مقبولًا نسبيًا أن ترعى دولة ما أتباع دين أو طائفة في دولة أخرى. فالأكثريّة العددية في أيّة إمبراطوريّة لم تكن تشعر بتهديد داخلي، وهذا حال المسلمين السنّة ضمن السلطنة العثمانية، كما كان حال الشيعة ضمن الدولة الصفوية. ورغم أنّ العثمانيين والصفويين أبناء عمومة، إلا أنّ الانتماء الديني أو المذهبي كان هو المحدّد للتبعيّة والمرجعية السياسية، لا الانتماء القومي أو القبلي. وهو الأمر ذاته في الإمبراطوريات الأخرى، كالرومانية والصينية.
غير أنّ عصر الدولة القومية الذي بدأ في القرن التاسع عشر واشتدّ في بدايات القرن العشرين غيّر هذه الانتماءات، فأصبحت الدولة تحدّد هويتها بالاقتراب أكثر من القومية، وصار اقتران الدول بقوميات سكانها من أبرز ملامح المرحلة. وكما أشعلت الحروب الدينية أوروبا في القرون الوسطى، فقد تحوّلت لاحقًا إلى حروب قومية في القرون الحديثة، وانتهت بتقاسم النفوذ الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إعادة التوزيع بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا القلق دفع الأكثريّة إلى التفكير بعقلية الأقلية، لكنّه خوف مؤقّت سيزول بزوال الضغوط الخارجية وبانطلاق عجلة الاقتصاد. فالأكثريّة قدَرها أن تكون هي الأمّة، وستبقى كذلك.
خلال هذه الفترات لم تكن الأكثريّة العددية في أيّ إمبراطوريّة أو دولة تشعر بالخوف الوجودي، وكان الاطمئنان إلى الحكم القائم باسمها كافيًا، حتى وإن كان تسلطيًا. لكنّ المجتمعات الأوروبية التي دخلت مرحلة التصنيع والرأسمالية شعرت بضرورة المساواة بين الأقليات والأكثريات، بعدما أصبح الفرد هو أساس المجتمع الحديث. من هنا ظهرت قيم الحرية والديمقراطية، واتّسع المجال لمشاركة أوسع في الشأن العام، فأصبحت المواطنة جوهر الدولة الحديثة، والحرية والديمقراطية أساس الحكم المتمدّن.
أما الدول التي لم تنجز هذا الانتقال إلى عصر التصنيع وبناء الدولة الحديثة، فقد ظلّت العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة رعوية، لا تعترف بالفرد كمواطن كامل الأهلية. وظلّ التعامل يتمّ من خلال القبيلة أو الطائفة أو المذهب، أي بُنى ما قبل الدولة.
ومع ثورات الربيع العربي ظهرت الانقسامات الهويّاتيّة بوضوح في المجتمعات المركّبة، خصوصًا في سوريا. فقد انكشف ضعف المجتمع والدولة معًا، وصار همّ كل مجموعة تعريف نفسها في فوضى أطاحت بالعقد الاجتماعي وبالدولة وبسيادة القانون. وفي خضمّ ذلك، سعت المكوّنات إلى البحث عن الأمان والبقاء. ومع أنّ الأكثريّة العددية، أي العرب السنّة، كانت المستهدَف الأكبر بالقتل وتدمير الحواضر، فإنّها لم تشعر بالخوف الوجودي الذي عاشته الأقليات، رغم أنّ بعض تلك الأقليات كان محسوبًا على الطرف الجاني.
ورغم أنّ هذه الأكثريّة كانت مطالَبة طوال الثورة بتقديم التطمينات للأقليات، فإنّها لم تجد في ذلك غضاضة، لأنها اعتبرت نفسها الحامل الرئيس للأمّة وعصبها الجامع لبقية المكوّنات. غير أنّ المشهد تبدّل مع سقوط النظام، ومع إحساس الغالبية بأنّ الدولة والسلطة باتت بيدها. ورغم أنّها ليست كتلة صمّاء تقف خلف هيئة تحرير الشام، بل إنّ كثيرا من مكوّناتها كان يعتبر الهيئة عدوًا للثورة، فإنّ الخوف بدأ يتسرّب إلى قلوب أفرادها خوفا من عودة الاضطهاد، من المخابرات والسجون والموت تحت التعذيب، من ضياع فرصة إعادة التشكيل السوري، ومن احتمالات أخرى كثيرة.
هذا القلق دفع الأكثريّة إلى التفكير بعقلية الأقلية، لكنّه خوف مؤقّت سيزول بزوال الضغوط الخارجية وبانطلاق عجلة الاقتصاد. فالأكثريّة قدَرها أن تكون هي الأمّة، وستبقى كذلك.