إعمار سوريا من دون قروض .. وقضايا أخرى
07.07.2025
إياد الجعفري
إعمار سوريا من دون قروض .. وقضايا أخرى
إياد الجعفري
المدن
الاحد 6/7/2025
في حديث حاكم المصرف المركزي السوري، عبد القادر حصرية، لقناة CNBC عربية، قبل يومين، غابت نقطة محورية عن الجدل في أوساط الاقتصاديين السوريين. وبدا أن معظم هؤلاء، ارتكزوا على العناوين العريضة التي تناقلتها وسائل الإعلام، من دون الإطلاع على تسجيل المقابلة بالكامل. الأمر الذي جعل بعض النقاشات مبتورة من سياقها، وغير دقيقة.
أبرز العناوين العريضة، أن الحكومة، وبتوجيه من الرئيس أحمد الشرع، لا تتجه نحو الاستدانة من أطراف خارجية. بصورة خاصة، صندوق النقد والبنك الدوليين. وعند هذه النقطة، انقسم المختصون، بين مرحبٍ بهذا المبدأ، وبين ناقد له. إحدى الانتقادات جاءت من زاوية فقدان استقلالية البنك المركزي، وخضوعه لتوجيهات رئيس الجمهورية. لكن حاكم المركزي، لم يشرِ إلى توجيهات الشرع، في قضية تخص صلاحيات البنك، بل في سياق الحديث عن رفض مبدأ اللجوء للقروض الخارجية. وهي قضية لا تخص البنك المركزي، بل تخص الحكومة مجتمعةً.
عنوان آخر عريض، استجلب بعض الانتقادات، وهو أن سوريا لن تربط عملتها بالدولار أو اليورو. المنتقدون أشاروا إلى أن ربط الليرة بعملة دولية قوية، سيوفّر استقراراً لسعر الصرف. وهنا، أغفل المنتقدون أن استراتيجية ربط العملات المحلية بالدولار أو اليورو، تتطلب احتياطي كبير من العملات الأجنبية لدى المركزي، للحفاظ على استقرار سعر الصرف. وهو أمر مفقود في سوريا، التي نعلم جيداً، أن احتياطياتها غير المعلنة في خزينة المركزي، متواضعة، وغير مؤهلة لخلق سعر صرف ثابت، يمكن الدفاع عنه.
وبخلاف كثير من الانتقادات، يبدو أن استراتيجية التعويم المدار، التي اعتمدها المركزي، هي الأنسب للحالة السورية الراهنة. وقد أوضح الحاكم، بصورة واضحة، أنهم سيتبعون السوق، ولن يفرضوا سعراً عليه، مع التدخل فقط، حين حدوث مضاربات على الليرة. وهكذا تُترك السوق للوصول إلى حالة توازن في سعر الصرف، ليصبح مستقراً، لكن غير ثابت. أي سيكون متحركاً ضمن هوامش مقبولة، بعيداً عن التذبذب الحاد.
بالعودة إلى قضية الاقتراض من الخارج. تنقسم النقاشات بين من يرى أن الاقتراض من الجهات الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين)، أسلَم من الاقتراض من دول، والخضوع لعبء الديون الثنائية وتبعاتها السياسية، في معظم الحالات. لكن حاكم المركزي السوري كان واضحاً برفض مبدأ الاقتراض من الخارج، بالمجمل. فهل يمكن إعمار سوريا، من دون قروض؟ يبدو هدفاً جذّاباً. وقد روّج له عدد من الاقتصاديين المقرّبين من السلطة الحالية. وبدلاً من رهن مستقبل سوريا لخدمة الدين، يمكن الرهان على الاستثمار الخارجي، وعلى تمويل السوريين أنفسهم، لإعادة إعمار بلادهم. ونقصد بذلك، المغتربين منهم. من ذلك ما أشار إليه حاكم المركزي، من تقديم قروض عقارية للمغتربين، تخلق تدفقات نقدية، وحركة بناء نشطة، قريبة الأجل. ومن ذلك أيضاً، ما طرحه اقتصاديون سابقاً، عبر جذب ودائع واستثمارات المغتربين السوريين لتتدفق في شرايين الاقتصاد السوري.
وفي نظرية "إعمار سوريا من دون قروض"، تغيب المخاوف من خدمة الدين في مستقبل السوريين، لكن تتبدى مخاوف نظيرة، تتعلق بكيفية عقد الاستثمارات الأجنبية، الضخمة منها على وجه الخصوص، وعلاقتها بالخصخصة، واعتماد نموذج الـ(BOO)، وما يعنيه من خسارة ملكية المشاريع لصالح المستثمر الأجنبي مستقبلاً، بغية خلق جاذبية أكبر للاستثمار. وهي قضية تتطلب مزيداً من النقاش، وسط شفافية مفقودة، من جانب المسؤولين في الحكومة. إذ في الوقت الذي يتم فيه الترويج لصفقات استثمارية مليارية -من قبيل "بوابة دمشق" قبل أيام- تغيب التفاصيل حول طبيعة العقود، ومآل الأراضي أو المرافق الممنوحة للمستثمر، مستقبلاً.
على أن أبرز النقاط المحورية التي لم تحظ بأي نقاش، في حديث حاكم المركزي، كانت إشارته إلى نيّة الحكومة تمويل جانب من عجز الميزانية العامة للدولة، عبر إصدار سندات محلية، بالليرة. وفيما تحرص حكومة الشرع على ألا تلجأ للاقتراض الخارجي، فإنها بصدد اللجوء للاقتراض الداخلي. وكما هو معلوم، فالدين المحلي، في معظم الحالات، أكثر تكلفة، على خزينة الدولة، رغم أن فوائده ترجع لجيوب السوريين، وتجنّب الدولة الخضوع لاشتراطات المدينين الخارجيين. لكن السؤال الأهم هنا: هل سوق الدين المحلي قادرة على تغطية احتياجات الدولة التمويلية؟ هل هناك ثقة من جانب السوريين تجعلهم يشترون سندات معلن عنها من جانب الحكومة السورية؟ التاريخ القريب للسوريين مع هذه التجربة (السندات المحلية)، معروفة. إذ كانت حكومات الأسد السابقة تجبر القطاع المصرفي على شراء السندات المحلية، لتمويل جانب من العجز في الميزانية، على حساب السوريين الذين كانوا يُجبرون بموجب تعاميم قهرية، على إيداع جانب من أموالهم في البنوك. وكانوا يخسرون قيمتها جراء التضخم وتآكل قيمة الليرة على مدار السنوات الأخيرة.
وكي نخلق إقبالاً محلياً حقيقياً، لا إجبارياً، على شراء سندات دين حكومية، يتطلب ذلك جملة شروط. أبرزها، تحقيق هامش استقرار مقبول لسعر الصرف لفترة طويلة (على الأقل لستة أشهر أو سنة). وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي السوري، عبر إتاحة حرية تحريك الأفراد لحساباتهم وودائعهم من دون أية قيود. وهي حرية مفقودة، حتى ساعة كتابة هذه السطور. إذ توجد قيود صارمة على السحب، تقتل الثقة بالقطاع المصرفي السوري. ومن المعلوم أن القيود على حرية السحب، هدفها أساساً، ضبط تذبذبات سعر الصرف في السوق المحلية. وبذلك، تبدو المعضلة كبيرة. كيف ستحقق سعر صرف مستقر، مع حرية سحب مطلقة (وهي الحالة الطبيعية المفترضة)؟ لم يشر حاكم المركزي إلى هذه المعضلة، مطلقاً، لكنه أشار إلى تعميم 7 أيار الفائت، الذي أتاح حرية السحب في الودائع والحسابات الجديدة بعد هذا التاريخ. ما يعبّر عن معالجة تدريجية للمعضلة، لكنها غير كافية، حتى الساعة، لإنهاء أزمة الثقة بين السوريين والقطاع المصرفي في بلادهم. وحتى حلّ تلك المعضلة، يبدو تمويل جانب من عجز الموازنة بالدين المحلي، أمر غير مفهوم، اقتصادياً، إلا إن كان سيتم اللجوء لأدوات النظام البائد نفسها، بفرض شراء السندات الحكومية على البنوك المحلية، قسراً.