إعادةُ ترسيم حدود الدم السوري
07.08.2025
عبير نصر
إعادةُ ترسيم حدود الدم السوري
عبير نصر
العربي الجديد
الاربعاء 6/8/2025
أفرزت اللحظةُ التاريخية غير المنتظرة لتسيّد الإسلاميين سدّة الحكم في دمشق ارتباكاً غير مسبوق، على إثرها اجتاحت سكرةُ "النصر السنّي المظفّر" الشارع السوري، الذي ما زال مأخوذاً بطهرانية ثورته التي فقدت جدواها، دفعت بعضهم إلى المطالبة بضرورة الاقتصاص من "الفلول" و"الخونة" و"الانفصاليين". وعليه، لا يمكن الحديث عن "الشعب السوري الواحد" إلا بطريقةٍ مجازية، وكأنّه كان في أحسن أحواله تجمّعَ "عُصَب متهادنة" أكثر صلة بالتحوّلات السياسية منها بالبنى الاجتماعية، إذ أثبت سقوط نظام الأسد أنّ هذا المصطلح خرج أخيراً من حبسه اللغوي البائد، ودلالاته الرمزية تعود لتتشكّل وفق مقتضيات المرحلة الراهنة، اعتماداً على مخرجات التسوية التي ستنتج من فوضى عارمة تتمرّغ بخطابٍ شعبي موغل في التحريض والإقصاء، بينما نشهد مفارقات عجيبة رغم الاختلاف الأيديولوجي، فالبعثي القومي في عهد الأسد يبدو موازياً للسلفي الجهادي اليوم، يتقاطع خطابهما السياسي من منطلق البراغماتية الواقعية، لشرعنة اختطاف السلطة وبناء عصبية مخاتلة تتصّل بجوهر المصالح المميزة لكلٍّ منهما.
بالتساوق مع ما تقدّم، عمل نظامُ الأسد بشكّل منظّم على ألا يبقى إرثاً مشتركاً سواه بين السوريين، وعندما تخلّصوا من تركته الثقيلة، عادوا إلى هُويَّاتهم الأولية المقموعة، يُعزّزها جدار فصل بشري شاهق، لا يسمح بالتفاعل المجتمعي، فغدوا شعباً مع وقف التنفيذ، يخضع لقوة دفعٍ هائلة عمادها الطائفية التي تتعدّى إشكالية "أكثرية" و"أقلّيات"، فالتكتّل الطائفي مولِّدٌ لمزيد غير منتهٍ من التقسيم، ومعيق لإنتاج حالة وطنية جامعة. بالتالي لم يعد يهمّ وحدة سورية، إذ أصبحت شيئاً ثانوياً عند مكوّناتٍ متوجّسة تشعر بخطر وجودي، ومن يتمسّك بها فالبلاد (حُكماً) ستكون على صبغته ومقاس طائفته، من دون تقديم أيّ تنازلاتٍ معتبرة.
على أيّ حال، تحتّم الانزياحات الدراماتيكية المتسارعة في سورية مقاربة الحتمية الواقعية لمشروع التقسيم بلغةِ إنكارٍ يتبنّاها سوريون، هم أنفسهم يدركون جيّداً أنّ نغمة التقسيم بدأت تُعزف رسمياً منذ عام 2011، إذ استغلّت القوى الخارجية الفاعلة مظلومياتهم المتراكمة وفق أجنداتها، ثمّ دقّ ناقوس الخطر مرة أخرى بعد مجازر العلويين بذريعة أنّ فلول النظام السابق خاضوا معركةً فاشلةً لفصل الساحل وإقامة كيان علوي خاصّ، وغدت النغمة صاخبةً بعد مجازر السويداء، التي منحت مشروع قانون قيصر زخماً إضافياً، لتدخل إسرائيل اللعبة عبر بوابة الدفاع عن حقوق الدروز، وتبدأ فعلياً برسم حدود المنطقة التي تغيّرت معطياتها بعد "طوفان الأقصى"، ويبدو أنّ معالم الشرق الأوسط الجديد باتت تتوضّح أخيراً بدءاً من الجنوب السوري، أمّا بقية التفاصيل والاتفاقات فهي محفوظة في الأدراج السرّية لقادة العالم، لكن إلى حين.
سنقول، استطراداً، إنّ الإفقار الهُويَّاتي في سورية جعل من كلّ أزمةٍ طائفية محلّية مفرّخةً لخريطة جديدة متقنة، مع هوامش وتوضيحات، ففي عهد الأسد كان ثمّة ثلاث سلطاتٍ للأمر للواقع، واليوم تبدو سورية المتهالكة عرضة للتشظّي أكثر فأكثر. ولكن أيّ قدرٍ من الواقعية ينطوي عليه هذا الكلام؟ بينما يُدرجُ الحديثُ عن صعوبة التقسيم انطلاقاً من عدّة مقاربات أوّلها أنّ السوريين متغلغلون ببعضهم أكثر ممّا يظنّون، وحتّى في شمال شرقي سورية، فإنّ الواقع الديمغرافي المعقّد لا يسمح بسيطرةٍ كردية أو حتّى عربية صافية، وفي الجنوب والساحل لا يملك الدروز والعلويون أيّ مقومات داخلية وخارجية للانفصال. أمّا السُّنّة فمنتشرون في أنحاء البلاد، ولا يستطيعون تشكيل كيانٍ سياسي موحّد، من الممكن أن يصمد بمعزلٍ عن المكوّنات الأخرى. لذا لن تعرف الكيانات السورية المُقتَطعة الراحة أبداً، لأنها لن تشكّل عامل استقرار، بل بؤر احتقان محلّي وإقليمي، وسيتحوّل كلّ إقليم (أو كانتون) "غيتو" مغلقاً، يفقد جاذبيته المرحلية بسبب تناقضاته العميقة، متضمّناً أسباب انهياره في أيّ لحظة.
على التوازي، يتحدّث آخرون عن إمكانية إعادة ترتيب البيت السوري عبر تسوياتٍ عادلة، فتُعاد هيكلته بدستور جديد وشامل، مع حكم ذاتي للأكراد وضمانات واضحة لـ"الأقليات"، بشرط الحفاظ على مركزية دمشق، تتلقّف الأطراف نتائج سياساتها وتعزّز هوامشها الرخوة. ووفقاً لهذا السيناريو الإسعافي يُمرّر مشروع "التقسيم الناعم" بطريقةٍ غير خادشة. وفي الحقيقة، من الاستحالة بمكان توحيد الشعب السوري الذي لم يبلغ بعد مرحلة المناعة من الاستبداد بالمطلق، يعيش أطواراً أوّليةً للنضج الاجتماعي والوطني، تقوده نخبٌ نجحت عبر تشرذمها وارتهانها في التمكين لعودة دكتاتورية أخطر، فالإسلام الجهادي سيفجّر المجتمع السوري، يفرض حالةً قسريةً من التجانس بين سوريين يتكلّمون بإسهابٍ عن اللوحة الفسيفسائية الجامعة من دون أن يحدّدوا مفهومها ومعالمها، ممّا يزيد من التشويش في محاولات استخدامها في السياق السياسي، بدلالة أنه ما إنْ بدأت مجازر "الأقليات" حتّى تشظّت هذه اللوحة لمجرّد أنّ مسؤولين صرّحوا أنهم يستطيعون جمع أربعة ملايين مقاتل بفتوى دينية واحدة لقتال "المتمرّدين". تصريحات أسقطت كلّ الأقنعة، ودفعت بضحايا المجازر إلى الذهاب في اتجاهاتٍ انفصالية، طالما يُعاملون وكأنّهم غير سوريين، أو "أهل ذمّة" دخلاء على "الأمّة الأموية".
في كتاب له، يرى محمد حسنين هيكل أنّ الغرابة والغموض من مميّزات دول المنطقة العربية التي تتعرّض دائماً إلى مؤامراتٍ تُنتج فراغاتٍ سياسية مُخطَّط لها، تؤدّي إلى إحلالات خطيرة توظّف القوى السلبية وتدعمها بالإعلام والسلاح، حتّى تتمخّض صيروراتٍ ذات نزعات هدّامة لصياغة واقع جديد ليس على مزاج الشعوب. وربطاً برؤية المؤلّف، فإنّ تناول إمكانية تقسيم سورية يضعنا أمام أسئلةٍ ملحّة تحيطنا بالفراغ الهائل والمدروس بعد استئصال النظام الأكثر استعصاء في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثمّ انقلاب موازين القوى في وقت غير متوقّع، ما يجعل القلق من انزياحٍ تدميري يهّدد وحدة البلاد مشروعاً في ظلّ سيطرة جماعاتٍ محسوبة على تيّارات عنفية جهادية تسعى إلى إقامة إمارة إسلامية للدفاع عن مكتسباتها الثورية، وكأنّ سقوط نظام الأسد ليس إلا إعادة تدويرٍ لمشروع سايكس بيكو، بذريعة أن من رسم خرائط المنطقة منذ مائة عام يحقّ له اليوم تغييرها.
هذا كلّه وغيره، وفي غياب المرجعيات المشتركة، يُفرغ مفهوم "الشعب السوري الواحد" من معناه، ويُعطّل مفاعيل المواطنة والمشاركة، متحولاً شعاراً مارقاً لا يحمل رمزيةً مقدّسةً، فهو، وإنْ يُنْعَت اليوم بـ"شعب أمّية"، ما زال ينفض عن أكتافه غبار الخطابات الغوغائية التي صُدِّعت الرؤوس بها، باعتباره "الصامد" و"الممانع" و"المقاوم"، ليتجاوز أنه معطى اجتماعياً مميّزاً لروح البلاد إلى أداة وظيفية تثبّت شرعية الإسلاميين. وبالفعل، وفي ظلّ وجود وقائع دامغة، ينقسم السوريون على وقع الاتهامات المتبادلة في وجه من سيفتح باب إعادة ترسيم حدود سورية ما بعد الأسد، فالدماء التي سُفكت في الساحل والسويداء ليست مجرّد حوادث عفوية أو معزولة، بل إنذاراً عميقاً بتشظّي الجسد السوري ونخره عبر الشقوق الطائفية والسياسية، التي لم تُرمّم بعد.
نافل القول، وفقاً لهيكل، ليس تقسيم سورية ناجماً من العقد النفسية ودمامل القهر المحتقنة في أعماق السوريين فقط، بل من الفوضى، المستوردة والممنهجة، التي وإنْ جعلت المشهد العام ملتبساً بطريقة مريبة، فالغاية المبيّتة خدمة إرادة المتحكّمين بالشعب السوري المنكوب تاريخياً، لإسقاطه مجدّداً في أحابيل القبض على مصيره، وامتلاك علّة وجوده.