الرئيسة \
تقارير \ إعادة الإعمار في سوريا: معركة سياسية واقتصادية
إعادة الإعمار في سوريا: معركة سياسية واقتصادية
13.09.2025
المدن
إعادة الإعمار في سوريا: معركة سياسية واقتصادية
خاص - المدن
الخميس 11/9/2025
بعد سنوات الحرب الطويلة وسقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، تدخل سوريا مرحلة مفصلية يُفترض أن تكون بوابة للتعافي وإعادة البناء، لكن سرعان ما تبيّن أن ملف إعادة الإعمار ليس مجرد ورشة هندسية أو مبادرة إنسانية لإنقاذ المتضررين، بل تحوّل إلى ساحة صراع سياسي واقتصادي مفتوح، تتشابك فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية مع هموم السوريين اليومية.
مليارات للاستثمار.. ولكن بشروط
اقتصادياً، تهاطلت الوعود والاستثمارات: السعودية أعلنت عن مشاريع تتجاوز 6 مليارات دولار تشمل الطاقة والزراعة والعقارات، فيما دخلت قطر والإمارات على الخط عبر مشاريع مشتركة بقيمة تقارب 10 مليارات، تركيا بدورها ترى فرصة كبرى لشركاتها في سوق قد تصل قيمته إلى تريليون دولار، لكنّها تتحرك بحذر بسبب المخاطر الأمنية والبيروقراطية.
أما الغرب، فقد رفع الاتحاد الأوروبي بعض العقوبات عن قطاعات أساسية كالنقل والبنوك والطاقة، لكنه ربط أي تمويل إضافي بمسار سياسي جدي وضمانات للشفافية، وفي مؤتمر بروكسل الأخير، جُمعت تعهدات تقارب 6.5 مليارات دولار، غالبيتها منح وقروض ميسّرة.
وبرغم هذه الأرقام، يصف خبراء الاقتصاد المشهد السوري بأنّه "هش". البنك الدولي توقع نمواً لا يتجاوز 1% هذا العام، فيما يظل الدخل الفردي عند أدنى مستوياته (830 دولاراً سنوياً). ويزيد الطين بلة أن سوريا تواجه أسوأ أزمة غذاء في تاريخها الحديث، حيث يواجه أكثر من 14 مليون شخص انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، مع تراجع إنتاج القمح وتفاقم آثار الجفاف.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي حسن النيفي، في حديث لـ"المدن"، أن قدرة الحكومة السورية على إدارة ملف الإعمار تشكّل ركيزة أساسية في بناء مشروعيتها السياسية، فالمواطنون يواجهون أولويات حياتية ضاغطة، من خدمات وإسكان وفرص عمل، لكن هذه الأولويات لا تتحقق دائماً كما يريد الناس، لأنّ على الحكومة أن توازن بينها وبين مصالح الدول المانحة والمستثمرين.
ويذكّر النيفي بأن الشركات والدول ليست جمعيات خيرية، بل تبحث عن عوائد اقتصادية ونفوذ سياسي، ومن هنا فإن التصرّف الحكيم برأيه يتمثل في أن تسعى القيادة السورية إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من مصالح الشعب عبر تعاملها مع الخارج، بحيث لا تتحول مشاريع الإعمار إلى بوابة للتوغل الاقتصادي والسياسي، فالشعار السياسي حول "إعادة الإعمار" قد يمنح الحكومة فرصة لترسيخ نفوذها مؤقتاً، لكنّه لن يصمد طويلاً إن لم يقترن بإنجازات ملموسة، خصوصاً أن السوريين بعد 2011 أصبحوا أكثر وعياً وقدرة على النقد والضغط.
ويخلص النيفي إلى أن التحدي الأكبر يكمن في تحييد البُعد السياسي للاستثمارات الأجنبية، فالأموال الوافدة من الخارج لا تأتي بلا شروط، وغالباً ما تسعى لانتزاع مكاسب سياسية إلى جانب المصالح الاقتصادية، وهنا تبرز أهمية دور القيادة السورية في الحفاظ على استقلالية القرار الوطني ومنع تغوّل الخارج على السيادة.
معركة تتجاوز الخراب المادي
ولا تقتصر معركة الإعمار على العقود والمشاريع، بل تشمل أيضاً ملفات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فقد أُنشئت لجنة وطنية للتحقيق في الانتهاكات وتعويض الضحايا، لكن منظمات حقوقية ترى أن الطريق لا يزال طويلاً، وأن المصالحة لن تنجح دون إشراك حقيقي لمختلف مكونات المجتمع، بما فيها الأقليات التي ما زالت تشعر بالتهميش.
في المحصلة، يبدو أن إعادة إعمار سوريا اليوم أبعد ما تكون عن مجرد ترميم للبيوت والطرقات، هي معركة على النفوذ والشرعية والسيادة، بين قوى إقليمية تريد موطئ قدم في "سوريا الجديدة"، ودول غربية تسعى لفرض شروط سياسية، وحكومة انتقالية تحاول تثبيت سلطتها وسط تحديات اقتصادية وإنسانية خانقة.
ويرى الباحث الاقتصادي محمد غزال، في حديث لـ"المدن"، أن الإجابة الواضحة عن سؤال "من يحدد أولويات الإعمار؟" تكمن في الشعب السوري نفسه، فالتضحيات التي قدمها الشعب منذ عام 2011 من دماء شهداء وملايين المهجرين والنازحين، هي التي منحت السوريين حقاً حصرياً في رسم مسار المستقبل ومن رحم هذه التضحيات، نشأت قوى سياسية واقتصادية تمثل امتداداً للحراك الثوري، وهي اليوم جزء من كتلة واحدة مع المجتمع.
أما السوريون أنفسهم، الذين يعيش نصفهم تقريباً تحت خط الفقر ويعانون من الجوع وانهيار الخدمات، فيخشون أن تتحول عملية الإعمار إلى سباق نفوذ جديد، تُقدَّم فيه مصالح الخارج على حساب أولويات الداخل.
ويشدد غزال على أن الموقف السوري كان واضحاً منذ البداية في رفض القروض الدولية المثقلة بالديون والفوائد التي قد تكبل القرار السياسي، وبدلاً من ذلك، اتجهت الحكومة إلى تبني مبادرات داخلية والانفتاح على شراكات استراتيجية مع شركات كبرى ودول ذات ثقل اقتصادي، هذا التوجه برأيه يضع سوريا في موقع "الشريك" لا "التابع"، حيث تقوم العلاقة على المنفعة المتبادلة بدلاً من الخضوع لشروط تمليها المؤسسات المالية أو الدول المانحة.
من خلال قراءة موقفي النيفي وغزال معاً، يتضح أنّ معركة إعادة الإعمار في سوريا اليوم تتجاوز بكثير بعدها الإنساني، فهي اختبار مزدوج: داخلي يتعلق بقدرة الحكومة على كسب ثقة المواطنين من خلال تلبية حاجاتهم، وخارجي يتمثل في كيفية التعامل مع التمويل والاستثمار الأجنبي من دون التفريط بالقرار الوطني.