الرئيسة \  تقارير  \  إسرائيل الكبرى ولبنان والشام: الجغرافيا والأمن

إسرائيل الكبرى ولبنان والشام: الجغرافيا والأمن

15.09.2025
صقر أبو فخر



إسرائيل الكبرى ولبنان والشام: الجغرافيا والأمن
صقر أبو فخر
العربي الجديد
الاحد 14/9/2025
في العالم العربي اليوم نحو 1500 محطّة تلفزة فضائية تبث جميعها تقريباً على مدار الليل والنهار، وبصورة متواصلة وبلا انقطاع، إلا القليل منها. وهذا يعني أن ساعات البث تقارب 36 ألف ساعة يوميّاً بما في ذلك الإعادات بالطبع. ولو أمعنّا النظر في بعض محطات التلفزة العربية، ولتكن اللبنانية على سبيل المثال، ورصدنا كيف عالجت موضوعاً محدّداً، كسلاح حزب الله أو نهب الأموال العامة أو ودائع الناس في المصارف أو انتخاب رئيس للجمهورية، لوجدنا أن آلاف الساعات الفضائية صُرفت في مناقشات ومهارشات وسجالات وخناقات وشتائم وآراء متناقضة وأفكار متعارضة ومقدّمات استعراضية لا حصر لها. وهذا يعني أن مئات المعلّقين كان لا بد من استحضارهم، لا بسبب "شروحهم الثاقبة" وآرائهم الفاخرة، بل لأن تغطية ساعات البث الطويلة تتطلب جلب "مفكرين" بلا أفكار، وخبراء بلا خبرة، ومحلّلين مثل طواحين الكلام، وكُتّاب أتقنوا نثر الألفاظ التي تفتقر إلى المعاني. ومع ذلك، ليس هذا هو المهمّ هنا، فالمهم أن آلاف الساعات تلك، لو عُدنا إليها اليوم، لوجدناها كالكلام المسلوق والبيض المخفوق، بلا قيمة، وهي باتت عبئاً على المساحات المخصّصة لها في خزائن المحفوظات، ولا شك في أنها ستُرمى في سلال المهملات بعد انقضاء زمنها. هنا، في هذا الميدان، سأسمح لنفسي بالعودة، ولو متأخراً قليلًا، إلى ثلاثة موضوعات صاخبة، مر بها الزمن التلفزيوني، لكن الزمن التاريخي لم يمرّ عليها ولم يطوِها أو يحجبها.
أولا، خريطة إسرائيل الكبرى: تبارت بعض الصحف، وكثير من مواقع التواصل الاجتماعي في نشر، وإعادة نشر خريطة "إسرائيل الكبرى" التي ضمّت مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين والكويت وأجزاء من السعودية (تبوك والجوف والعُلا وحائل بما في ذلك عرعر وسكاكة ورفحاء). وأثارت تلك الخريطة صخباً إعلاميّاً يشبه، إلى حد كبير، النفخ في قِرَبٍ مفخوتة. تقارب مساحة تلك الخريطة المليون ونصف المليون كيلومتر مربع، وعدد اليهود في العالم كله نحو 16 مليون نسمة بمن فيهم يهود إسرائيل، وعددهم ثمانية ملايين من دون الذين زعموا إنهم من يهود الاتحاد السوفييتي، وتبيّن أن معظمهم مسيحيون، لهم صلة واهية باليهودية. ولو أغرقنا في دعوانا وأسرفنا في هوانا واعتقدنا من باب الافتراض أن إسرائيل تمكّنت من استقدام جميع يهود العالم إليها، فكيف سيتمكّن هؤلاء من السيطرة على هذه المساحة والانتشار فيها واستيطان دمشق وحلب وحمص وحماة والرقة ودير الزور والموصل وبغداد والبصرة والسماوة والأنبار وتبوك والجوف ومعان والطفيلة وعمّان وجزء من الديار المصرية؟
هذا هراء وخُبال. لا تستطيع إسرائيل أن تضم تلك الأراضي العربية البالغة مليوناً ونصف المليون كيلومتر مربع إليها لعدم قدرتها البشرية. وكل ما تستطيعه السيطرة الأمنية والعسكرية على محيطها المباشر حتى لا تشكّل دول الطوق أي خطر على الدولة الإسرائيلية، وأن ترغم دول الطوق على عدم امتلاك الجيوش والأسلحة المتطوّرة التي من شأنها تهديد الأمن القومي الإسرائيلي. أي أنها، باختصار، تريد الدول العربية المجاورة مجرّد أحزمة أمن لها على غرار جنوب لبنان وجنوب سورية وجنوب فلسطين (قطاع غزّة). وعبارة "إسرائيل الكبرى"، بهذا المعنى، مفهوم أمني وليست مفهوماً جغرافيّاً على الإطلاق، ولا حتى توراتيّاً.
ما عادت حدود إسرائيل ترتبط بأعداد المهاجرين إليها، بل بالأمن القومي لإسرائيل
أما تجميع اليهود كلهم في فلسطين، فضلاً عن استحالته (نصف يهود العالم بعد 77 سنة على تأسيس إسرائيل ما برحوا خارج إسرائيل، ولم يهاجر منهم أحد إلى أرض الميعاد) فهو يُعتبر لدى الورعاء (الحريديم) تأخيراً للخلاص النهائي لليهود، ولأن من شأن العودة الجماعية إلى أرض إسرائيل (إيرتس يسرائيل) قبل مجيء المخلّص (المسياه) إنزال الكوارث الإلهية باليهود. وعبارة "إيرتس يسرائيل" عبارة عامة لا تشير إلى حدود واضحة، وهي لدى الحسيديين مفهومٌ روحيٌّ لا مادي. ولذلك نظر الحسيديون، في معظمهم، إلى الصهيونية أنها "عمل شيطاني". وفي حين اعتبرت فئة من الحريديم قيام إسرائيل تحقيقاً لإرادة الرب (حزب المفدال القومي الديني مثلًا)، فإن فئة مهمّة منهم اعتبرت قيام إسرائيل إعاقة لإرادة الرب (ناطوري كارتا مثلاً). والمعروف أن اليهودية الإصلاحية، وهي حركة كبيرة جدّاً، حذفت من صلواتها أي إشارة إلى العودة إلى "إيرتس يسرائيل" وإلى إعادة بناء هيكل سليمان، ورفضت القومية اليهودية والوطن القومي اليهودي، ورفعت لواء الاندماج في البلدان التي يقيم فيها اليهود. و "أرض إسرائيل" تمتد بين دان (تل القاضي) في شمال الجليل وبير السبع في جنوب فلسطين. وما عادت حدود إسرائيل ترتبط بأعداد المهاجرين إليها، بل بالأمن القومي لإسرائيل. وما عادت الأرض لدى بعض الحاخامات مثل جلد الجمل الذي ينكمش في حال العطش والجوع، ويتمدد في حال الشبع والارتواء، على غرار أرض إسرائيل التي تنكمش إذا هجرها سكانها، وتتمدّد إذا هاجر إليها اليهود من بقاع الأرض؛ هذا شعر يهودي قديم. أما فكرة عودة اليهود جميعهم إلى الأراضي المقدّسة فهي اليوم شعار "الأغيار" كالمسيحية الصهيونية التي تدعو إلى تجميع اليهود في فلسطين شرطاً يسبق العودة الثانية للمسيح. ومهما يكن الأمر، فلا ينبغي كلما رسم أحدهم خريطة لإسرائيل، وما أكثر تلك الخرائط، أن نبادر نحن العرب إلى "الحنجلة" والرقص الاستنكاري، ثم تبدأ حفلات الدبكة الإعلامية الهادرة، "فكل ما يُبالغ فيه لا أهمية له" بحسب تاليران وزير خارجية نابليون. وكثيراً ما شاهدنا المبالغة في خرائط الحركة الصهيونية إلى مؤتمر الصلح في فرساي في سنة 1919، أو في خريطة حركة حيروت التي تضم فلسطين والأردن، وفي خريطة ما يُزعم إنها "إسرائيل الكبرى". لقد رسمت إسرائيل حدودها مع مصر والأردن ولبنان، وكادت أن ترسمها مع سورية (وديعة رابين). والمستحيل الآن رسم الحدود مع الفلسطينيين. وعلى هذا يدور الصراع الدامي.
كان لبنان وما زال جزءًا من بلاد الشام بالتأكيد، وكذلك سورية، وهو تحصيل حاصل ولا شيء يدعو إلى الدهشة
ثانياً، الشام ولبنان: في مقابلة مع صحيفة "ذا ناشيونال" الإماراتية (11/7/2025) انزلق لسان المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان توم برّاك ليقول: "إذا لم يتحرّك لبنان فسيعود إلى بلاد الشام من جديد". وسرعان ما ارتجف كثيرون من جماعة الحرية والسيادة والاستقلال فور سماعهم هذا التصريح، وجفل منه حتى بقايا القوميين العرب. وفي نهاية الأمر، التقى الجمعان على رفض ذلك التصريح، بما في ذلك حزب القوات اللبنانية وحزب الله (سبحان الله)، واعتبروه خطباً فظيعاً وهولاً شنيعاً. وبالطبع، فهم الجميع أن كلام توم برّاك إنما هو تهديد للجماعات اللبنانية بإلحاق لبنان بسورية إذا لم يتخذ الإجراءات التي تطلبها منه الولايات المتحدة وإسرائيل في شأن تسليم سلاح حزب الله. لكن الفكرة العويصة "المجعلكة" التي نطق بها برّاك تشير إلى أنه لا يعرف الشام ولا لبنان ولا التاريخ، فضلاً عن الجغرافيا، وهو أقرب إلى مستشرقٍ ساذج، أو رحّالة يريد أن يبدو كأنه علّامة فهامة، وربما قرأ بعض مقالاتٍ عابرة عن هذه البلاد، وأراد أن يتمالح مع اللبنانيين، ففشل. فلبنان كان وما زال جزءًا من بلاد الشام بالتأكيد، وكذلك سورية، وهو تحصيل حاصل ولا شيء يدعو إلى الدهشة، كأن يتحدّث أحدهم عن إلحاق النوبة بوادي النيل. فما العجب؟ أليست النوبة جزءاً من وادي النيل؟ أَكانت تابعة لمصر أو للسودان. ولو أن أحد الذين لا يفرّقون التمرة عن الجمرة تكلّم على إلحاق ليبيا بأفريقيا، فسنجد من يسخر من هذا الكلام، لأن ليبيا جزءٌ من أفريقيا، حتى أن حدود أفريقيا كانت تبدأ قديماً من ليبيا، وليبيا نفسها كانت تُدعى أفريقيا في العصور البائدة. ولو قلنا، على سبيل المثال، إن لبنان يقع في غربي آسيا، أو في الشرق الأدنى، لما أثار هذا القول أي احتجاج، ولما أصاب الحكاك جلود بعضهم، لأن لبنان يقع حقّاً في غرب آسيا (بحسب خرائط الأمم المتحدة) أو في الشرق الأدنى (بحسب خرائط الاستعمار البريطاني)، وهو يقع من بابه إلى محرابه في المشرق العربي، وهو القول الصحيح والنهائي.
كل ما تستطيعه إسرائيل السيطرة الأمنية والعسكرية على محيطها المباشر حتى لا تشكّل دول الطوق أي خطر على الدولة الإسرائيلية
الاستنكار العجيب لأن يكون لبنان جزءاً من الشام لا يثير فينا غير "الحَسْبَنَة" (حسبي الله)، أو "الحوقلة" (لا حول ولا قوة إلا بالله)، أو "الهيللة" (لا إله إلا الله). ومن البدهي أن ليس على الجاهلين حرج؛ فالشام جهة اليسار مثلما اليمن جهة اليمين. فالذاهب إلى مكّة يصبح اليمن إلى يمينه، والشام إلى شماله. ولبنان، في جميع الأحوال، قديماً وحديثاً، جزءٌ من بلاد الشام التي هي تعبير جغرافي في الأصل. ولبنان كان دائماً، في المصادر والمراجع الجغرافية، جبل في الشام من أعمال حمص تارّة، ومن أعمال طرابلس تارّة أخرى، وهو مؤلف من جُبّة بشري والبترون وبلاد جبيل لا غير. حتى منطقة كسروان لم تكن من لبنان (راجع: كمال الصليبي: تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، بيروت، 1967، ص 12). ولبنان بحدوده الحاضرة كيان حديث تماماً، وهو إحدى نتائج الحرب العالمية الأولى، وخلاصة الخطط الاستعمارية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في ما عُرف بـِ "المسألة السورية"، وكان من عقابيلها تقسيم بلاد الشام على أسس دينية، وتأسيس دولة إسرائيل اليهودية في سنة 1948.
ثالثاً، مسيحيو الشرق: يحلو لبطريرك الموارنة والمطارين من الطوائف المسيحية المختلفة، ومعهم كتائب من الإعلاميين، أن يتحدّثوا دائماً عن "المسيحيين في الشرق"، وعن "الدور الحضاري لمسيحيي الشرق". أي شرق هو المقصود إليه هنا؟ هل الصين واليابان وتايلاند وماليزيا مثلًا؟ بالطبع لا. الشرق في التاريخ المسيحي القديم شرق روما، أي أنطاكيا والقسطنطينية. والشرق في دلالة العبارة الرائجة على ألسنة البطاركة والمطارين اليوم هو المشرق العربي ولا مشرق غيره (سورية والعراق والأردن وفلسطين). فلماذا لا ينطقون المصطلح بفصيح عبارة، وكما هي بحسب دلالتها: أي المسيحيون العرب أو العرب المسيحيون بدلاً من استعمال تلك الخرقة المرقّعة أي "مسيحيو الشرق"؟ لكن، هيهات أن يتزحزح الواحد من هؤلاء أو يتلحلح، فهو لا عن الغلط يمتنع، ولا إلى الصحّ يستمع، ولا بقوة الحجة يرتدع.