أيها السوريون أوقفوا هذه اللعبة الخطرة جداً!
07.09.2025
د. فيصل القاسم
أيها السوريون أوقفوا هذه اللعبة الخطرة جداً!
د. فيصل القاسم
القدس العربي 6/9/2025
من أكثر ما يفتك بالسوريين اليوم هو وباء التعميم القاتل. أن تسمع أحدهم يقول بكل بساطة: “كل أهل هذه المنطقة السورية خونة”، أو “كل الدروز طائفيون”، أو “العلويون أسديون”، أو “كل السنة دواعش”. هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل سُمّ يتغلغل في النفوس ويحوّل الشعب الواحد إلى معسكرات متناحرة تمزق ما تبقى من نسيج اجتماعي هشّ. هذه اللغة ليست سوى أداة للتفرقة والتحريض والكراهية، ولا تنم إلا عن جهل وضيق أفق. التعميم يلغي الفرد ويمسخه في قالب جماعي مصطنع لا يعكس حقيقته، وكأن ملايين البشر يمكن حشرهم في خانة واحدة. متى نتعلم أن كل فرد يجب أن يُحاسب على أفعاله لا على انتمائه.
التعميم ليس بريئاً؛ إنه أداة سياسية واجتماعية تُستعمل لتأليب الناس على بعضهم البعض، ولإيجاد مبررات للقتل والإقصاء والإلغاء. فعندما يُشيطن مجتمعٌ كامل تحت شعار “كلهم متشابهون”، يصبح من السهل استباحة دمه وحقوقه وممتلكاته. خلط الجميع في سلة واحدة لا يظلم الأفراد فقط، بل يزرع بذور العداء بين أبناء الوطن الواحد، هكذا تبدأ الحروب الأهلية، وهكذا تتحول الشعوب إلى قطيع متناحر يسهل التحكم به من الخارج والداخل على حد سواء.
في كل طائفة، مدينة، أو جماعة، هناك الصالح والطالح، المثقف والجاهل، المتعصب والمتسامح، الوطني والخائن. أي منطق هذا الذي يساوي بين المجرم والبريء، بين المثقف والجاهل، بين من قدّم روحه للوطن ومن باع ضميره بثمن بخس؟ لماذا لم يتعلم الإنسان السوري الذي عانى من الاستبداد لعقود أن الظلم الأكبر هو أن تُحاسَب على ما لم تفعل، أو تُدان بجريمة لم ترتكبها.
التاريخ القريب والبعيد يعلّمنا أن الشعوب التي انساقت وراء التعميم سقطت في حروب أهلية مدمرة، لأن التعميم يفتح الباب أمام شيطنة الآخر، ثم تبرير قتاله أو إقصائه. وما يعيشه السوريون اليوم يكفي درساً بليغاً، والتاريخ شاهد على هذه الكارثة: فكل حرب أهلية سبقتها موجة من التعميمات والكليشيهات التي صنعت صورة “العدو الجماعي”. من رواندا إلى البلقان وصولاً إلى منطقتنا، لم يكن الرصاص هو الشرارة الأولى، بل الكلمة المسمومة التي تحوّل جار الأمس إلى عدو اليوم.
وسوريا اليوم تدفع الثمن ذاته، حيث أُحرقت مدن وهُجّر ملايين بناءً على صور نمطية قاتلة لا تمت للواقع بصلة. حين قيل إن “كل السنة دواعش”، قُتل عشرات الآلاف من الأبرياء لمجرد انتمائهم الديني. أليس من الغباء المطلق وضع أكثر من عشرين مليون سوري سني في خانة واحدة؟ وهل كان نزار قباني ابن دمشق الياسمين مثلاً من أتباع ابن تيمية وفتاويه؟ هل جحافل القتلة والمجرمين المتطرفين الذين اجتاحوا السويداء حتى لو كانوا بعشرات الألوف، هل يمثلون كل المسلمين السنة في سوريا، أم إن غالبية السنة بريئون من هذه الحثالات الداعشية ولا يشرفها أن تنتمي إليها؟
لا نجاة لسوريا إلا بقتل التعميم. إن أردنا لسوريا أن تنهض من تحت الركام، فعلينا أن ندفن هذه اللغة المقيتة
وهل كل أهالي السويداء كتلة واحدة أم إن المجتمع الدرزي متنوع ومختلف كبقية المكونات السورية ولا يمكن حصره مطلقاً في خانة هذا الشيخ أو ذاك؟ أليس داخل السويداء ذاتها ثلاثة شيوخ عقل مختلفين؟ أليس هناك اليوم في السويداء خلاف كبير حتى مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في لبنان؟ فلماذا انتقم شذاذ الآفاق من الدروز واعتبروهم كلهم كتلة واحدة كـ”كفرة وانفصاليين”، فحرقوا ونهبوا قراهم وهجروا سكانها، واغتصبوا نساءهم، وخطفوا أطفالهم، وذبحوا شبابهم، وصار كل فرد منهم محاصراً بالشك، وكأن انتماءه وولاءه يجب أن يُختبرا يومياً. هل فيصل القاسم الدرزي طائفي وانفصالي…؟ فلماذا أحرقتم قريته وقتلتم أهله وأقاربه بناء على تعميمات قاتلة وجاهلة؟
هل كان “كل العلويين مع النظام”، إم إن معظمهم كان وقوداً لمشاريع آل الأسد؟ فلماذا إذاً تضعونهم جميعاً في سلة واحدة؟ لماذا صار أي شاب علوي هدفاً مشروعاً للانتقام، حتى لو لم يحمل سلاحاً بحياته؟ ألم تكن بعض العشائر العلوية ضحية التمييز والتفرقة التي مارسها آل الأسد؟ هل كان ابن الساحل الأديب ممدوح عدوان أسدياً، أم ألد أعداء النظام هو ومناضلون علويون كثيرون؟ الأكراد، وُصفوا جميعاً بأنهم “انفصاليون”، مع أنهم يتعرضون للظلم والتمييز منذ عقود وعقود، وبينهم من دافع عن وحدة سوريا بروحه ودمه.
كل هذه التعميمات لم تجلب سوى الدم والخراب، ولم تُبقِ حجراً على حجر. سوريا لم تُدمَّر فقط بالبراميل والصواريخ، بل أيضاً بهذه العقلية التي تُجرّم جماعات بأكملها وتلغي الفرد.
لا تنسوا أن التعميم لن يخرب سوريا فقط، بل كان وما زال وباءً عالمياً: في رواندا، وصْفُ التوتسي جميعاً بـ”الصراصير” مهّد لإبادة أكثر من 800 ألف إنسان خلال 100 يوم. في ألمانيا النازية، تعميم اليهود بأنهم “طفيليون وخونة” فتح الباب أمام المحرقة. في البلقان، عبارة “كل المسلمين إرهابيون” أشعلت حرباً أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف. حتى في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، تعميم العرب والمسلمين بأنهم “إرهابيون” جعل ملايين الأبرياء عرضة للعنصرية والتمييز. إذن، التعميم ليس مجرد غلطة لغوية، بل أداة حرب وإبادة وتبرير للظلم.
لا نجاة لسوريا إلا بقتل التعميم. إن أردنا لسوريا أن تنهض من تحت الركام، فعلينا أن ندفن هذه اللغة المقيتة. يجب أن نقولها بصراحة: كل من يستخدم التعميم شريك في الخراب، وجاهل مهما حمل من شهادات أو ادّعى من ثقافة، فالعاقل يميّز بين المذنب والبريء، بين القاتل والضحية، بين الخائن والوفي، لذلك، فإن مواجهة التعميم ليست ترفاً فكرياً، بل معركة مصيرية. على السوريين أن يختاروا: إما الاستمرار في هذه اللعبة الجهنمية التي تقودهم إلى مزيد من الانقسام والدمار، وإما كسر هذه الحلقة الملعونة عبر الاعتراف بالتنوع، والتعامل مع الأفراد على أساس أفعالهم لا هوياتهم. فلنقلها بوضوح: التعميم لغة الجهلاء، وسوريا لن تخرج من جحيمها إلا إذا حطمت هذه اللغة إلى الأبد.