الرئيسة \  تقارير  \  أن تحكم الآن... فذاك امتحان لا منحة

أن تحكم الآن... فذاك امتحان لا منحة

17.08.2025
بشار الحاج علي



أن تحكم الآن... فذاك امتحان لا منحة
بشار الحاج علي
سوريا تي في
السبت 16/8/2025
في لحظات التحول الكبرى، حين تتبدّل الموازين وتُفتح أبواب السلطة لمن جاء، لا بد من مرور الامتحان الذي لا يرحم. السلطة ليست منحة تُوزع، بل مسؤولية تُحمَل، ومن يحكم اليوم عليه أن يدرك أن التاريخ لا يسجّل أسماء الحكام، بل يسجّل كيف حكموا، وهل اجتازوا اختبار الشرعية التي لا تُشترى ولا تُهدى.
في الأوقات التي تتغيّر فيها الخرائط وتترنّح فيها العروش، كثيرًا ما تتسلّل السلطات الجديدة من بين الشقوق، لا على صهوة الإجماع، بل على بساط الضرورة. وما أندر أن تخرج سلطة من رحم أزمة وهي تدّعي أنها جاءت "مؤقتة"، ثم تعرف كيف تتقن فنّ الانسحاب عند انتهاء المهمة. فالانتقال، وإن حمل وعدًا بالتغيير، قد يتحوّل في لحظة غفلة إلى تكريس لواقع جديد، يلبس ثياب الطوارئ لكنه يهوى المكوث.
في سوريا، حيث لم تعد الأحداث تُقاس بتقويم الأمم، بل بتوقيت القوى الخارجة والداخلة، تُروى حكاية سلطة نشأت في الفراغ، وبنت مؤسساتها من مادة الانهيار. يُقال إنها سلطة أمر واقع، ويُقال أكثر إنها تحوّلت إلى واقع بلا أمر، لا لأنها اكتسبت الشرعية، بل لأنها أُعفيت مؤقتًا من المساءلة. فحين ينسحب خصمك بصمت، وتغيب المنافسة، وتُغلق الأبواب على صوت واحد، فإنك لا تحكم بقرارك، بل بما أتاحه الغياب.
لا أحد يطلب من السلطة الجديدة أن تُقدّم استقالتها من اليوم الأول، لكن ما يُنتظر منها - على الأقل - أن تُفصح عن نيتها في ألا تبقى إذا ما قرر الناس غير ذلك.
ليس ثمة ما يُحرّج في الاعتراف أن من يحكم اليوم قد أتى في لحظة انهيار. فالأرض لم تكن مفروشة بالورود، بل ملغومة بالفراغ، والناس كانوا بحاجة لمن يُعيد إليهم الحد الأدنى من التنظيم، حتى لو جاء من باب غير مألوف. لكنّ الفارق بين من يحكم بشجاعة، ومن يُدير المرحلة بدهاء، يكمن في ما إذا كان يسعى لتأسيس شرعية أم لتقنين الغلبة.
السلطة، في جوهرها، ليست إدارة لحاجات الناس فحسب، بل خضوعًا طوعيًا لها من قِبل من تحكمهم. وحين يُمنع هذا الخضوع من أن يكون خيارًا، يصبح أشبه بانحناءة صامتة لا تحمل اعترافًا، بل تَحَمُّلًا. وفي سوريا، بات من المألوف أن تنشأ السلطات لا من صندوق اقتراع، بل من صندوق أسود مغلق على مزيج من التفاهمات والرهانات والضرورات.
من الحصافة أن نقرّ بأن الحكم، حتى وإن أتى بلا انتخابات، قد يُمنح فرصة مشروطة لاكتساب الشرعية، لكن هذه الفرصة لا تُكتسب بالخطابات ولا بتوزيع الحقائب، بل بأن يُقاس الحكم بمقدار شجاعته في أن يفتح المجال لغيره، ويحتمل النقد، ويتخلّى عن الامتيازات حين تتعارض مع المصلحة العامة. لا أحد يطلب من السلطة الجديدة أن تُقدّم استقالتها من اليوم الأول، لكن ما يُنتظر منها - على الأقل - أن تُفصح عن نيتها في ألا تبقى إذا ما قرر الناس غير ذلك.
المشكلة ليست في من يحكم، بل في كيفية هذا الحكم، وفي مدى استعداده لأن يُسائل نفسه قبل أن يُسائل الآخرين. الخطورة لا تكمن في الشخوص، بل في النمط. فحين تُعاد إنتاج السلطة القديمة بروح جديدة، يُصبح التجديد خدعة، ويصبح الانتقال قناعًا يخفي استقرارًا مموّهًا.
ومن العبث الظنّ أن الناس لا يرون. فالسوريون - برغم كل ما مرّ بهم - لم يعودوا يحتاجون إلى من يصرّح كي يفهموا، ولا إلى من يهدد كي ينصاعوا. إنهم يميزون جيدًا بين الدولة التي تحترمهم، والسلطة التي تراقبهم، وبين الحاكم الذي يطلب ثقتهم، والحاكم الذي يفترضها.
في هذا المناخ، تبدو الشرعية الوطنية كالغيم، لا تُرى لكنها تُشعَر، ولا تُمسك لكنها تُفقد بسهولة.
لا أحد يستطيع أن يمنحها لنفسه، ولا أن يستوردها، ولا أن يشتريها بمنح أو خدمات. هي عقد ضمني لا يُكتب، لكنه يُكسر عند أول خيبة، وأول كذب.
إن السلطة الجديدة، التي خرجت من عباءة تنظيم ثم غسلت يدها منه، وأعلنت تبنّي نهج مدني في المظهر، مطالبة اليوم بأكثر من حسن النية، مطالبة بأن تُقدّم برهانًا يتجاوز اللغة: أن تُفكّك العلاقة القديمة بين التنظيم والحكم، أن تُعيد الاعتبار لمفهوم التمثيل، أن تفكّك جهاز الرقابة غير المعلنة، وأن تعترف صراحة أن المستقبل ليس مزرعةً، بل وطن.
الشرعية الوحيدة التي تدوم - رغم كل العواصف - هي الشرعية التي تُمنح من الناس، لا التي تُمنح باسمهم. هي التي تنشأ من الاعتراف الشعبي، لا من شهادات حسن سلوك سياسية تصدرها السفارات والمنظمات.
أما أن تُدار البلاد بعقلية الوصاية على المجتمع، وبحسابات الصراع على الجغرافيا، فهذا لن يُنتج دولة، بل دويلة تتقن الانتظار، وتخشى المراجعة، وتُحسن طباعة الشعارات الجديدة بلون الحبر القديم.
قد يُقال إن الوقت ليس مناسبًا، وإن النقد يُضعف الجبهة، وإن المرحلة حساسة!
لكن كل المراحل كانت حساسة، وكل سلطة اعتبرت النقد تهديدًا كانت تمهّد لتكرار التجربة ذاتها. لا أحد يُطالب بكمالٍ مستحيل، بل فقط باعتراف شجاع بأن الحُكم ليس غاية، بل وسيلة لخدمة من لا يملكون السلاح ولا المنابر، أي الناس العاديين.
ومن يدّعي أنه جاء مؤقتًا، عليه أن يُبرهن على ذلك بممارساته لا ببياناته. فالمشكلة لا تبدأ حين تُمارَس السلطة، بل حين تُبنى على صمت الداخل، ورغبة الخارج، من دون أن تترسخ على قاعدة وطنية صلبة.
ذلك أن الشرعية، حين تُستمدّ من الخارج، تكون دائمًا على كف التفاهمات، قابلة للسحب والتعديل وفق الحاجة. فالقوى الدولية - مهما رفعت شعارات الاستقرار - لا تدعم طرفًا إلا بما يخدم ميزان مصالحها. ولهذا، فإن أكثر السلطات هشاشة هي تلك التي ترى في الخارج سندًا، لا عاملًا مساعدًا، وفي الداخل جمهورًا يجب ضبطه لا التفاهم معه.
الشرعية الوحيدة التي تدوم - رغم كل العواصف - هي الشرعية التي تُمنح من الناس، لا التي تُمنح باسمهم. هي التي تنشأ من الاعتراف الشعبي، لا من شهادات حسن سلوك سياسية تصدرها السفارات والمنظمات. هي التي تُبنى على عقد غير مكتوب مع الشعب، لا على تفاهم مكتوب مع المانحين.
وأية سلطة تُعوّل على الخارج أكثر مما تبني في الداخل، سرعان ما تجد نفسها واقفة على أرض رخوة، ولو بدت ثابتة. فلا شيء يديم الحكم مثل القبول الوطني، ولا شيء يُفقده هيبته مثل الارتهان لمعادلات لا علاقة لها بالإرادة المحلية.
من يحكم اليوم باسم "الضرورة"، عليه أن يختار: إما أن يكون أول من يمهّد لحكم نابع من الناس، أو أن يكون آخر نسخة محسّنة من نظام اعتقد أن الزمن يمكن كسره بالقوة.
وفي النهاية، ما تبقى من الوطن هو ما يُبنى في الظل، من ثقة، وعدالة، وشراكة، وما يُهدَم منه، هو ما يُفرض في الضوء، من ادعاء، وتفرّد، واحتكار.