الرئيسة \  تقارير  \  أزمة المشهد السوري.. عوامل ذاتية أم أدوار خارجية

أزمة المشهد السوري.. عوامل ذاتية أم أدوار خارجية

13.08.2025
حسن النيفي



أزمة المشهد السوري.. عوامل ذاتية أم أدوار خارجية
حسن النيفي
سوريا تي في
الثلاثاء 12/8/2025
فيما يزداد المشهد السوري توتّرًا وتزداد المواجهات تعقيدًا، تظهر شريحة واسعة من السوريين ـ وربما تكون هي الشريحة الأوسع ـ تحت وطأة شعورين متباينين، يحاول كلٌّ منهما محو الآخر.
يحيل الأول إلى محاولة مُجهِدة للاحتفاظ بحالة من الزهو والنشوة وُلدت عارمةً يوم الثامن من كانون الأول للعام 2024، وقد صمد هذا الشعور في وعي السوريين طوال الأشهر الماضية على الرغم من معالم الشحّ المادي واستمرار مشاهد الخراب الاقتصادي في البلاد، ولعله استمدّ مقوّمات صموده طوال الفترة الماضية من أمل كبير بالتعافي، حرص السوريون على استحضاره بقوة شديدة. في حين يحيل الشعور الثاني إلى حالة من الانكسار الوجداني وخيبة الرجاء، ليس مبعثها استمرار التردّي الحياتي وضنك العيش المستمر منذ أربع عشرة سنة، وإنما مخاوف وجودية بدأت تتعزّز مع ضراوة الحرب الطائفية والمواجهات العرقية والجهوية التي تشهدها البلاد. وما يزيد من درجة هذا الخوف أن أسبابه لا تكمن في خلاف عرضي حول مكاسب آنية أو تضارب في مصالح مادية يمكن حلّها بالمزيد من الحوارات والتنازلات المتبادلة، بل لعلّه يكمن في بنية تفكير الأطراف المتنازعة، إذ ينطلق كل طرف من فكرة راسخة لديه لا تقبل المهادنة، بل إن إيمانه المطلق بصوابيتها يجعل منها الموجّه الأساسي لمواقفه وسلوكه، ومن هذا التضاد في ماهية الأفكار وآلياتها معًا، تكتسي المواجهة طابعًا وجوديًا يتجاوز المصالح النفعية المباشرة أو الآنية.
 قد عمدت السلطة الجديدة إلى الاحتفاظ بخطاب سياسي حاولت تصديره منذ وصولها إلى السلطة، ذلك الخطاب الذي يؤكّد على عدم احتكار النصر أو اختزاله بكيانها العسكري الذي أجهز على نظام الأسد.
ثلاثة كيانات متنابذة تتموضع على الجغرافيا السورية، وجميعها تمتلك القوة العسكرية، تتمثل الأولى بالحكومة المركزية في دمشق، والتي تمثل الدولة السورية، وتستمدّ مشروعيتها من منجز ثوري تجسّد بالإطاحة بنظام الأسد، ومن ثم الشروع في بناء الدولة واستعادة السيادة السورية التي ينبغي أن تكون على كامل الجغرافيا السورية. وقد حظيت هذه الحكومة بإقبال دولي وإقليمي واحتضان عربي كبير، فضلًا عن قبول من طيف واسع من السوريين في داخل البلاد وخارجها. وقد عمدت السلطة الجديدة إلى الاحتفاظ بخطاب سياسي حاولت تصديره منذ وصولها إلى السلطة، ذلك الخطاب الذي يؤكّد على عدم احتكار النصر أو اختزاله بكيانها العسكري الذي أجهز على نظام الأسد، وكذلك يؤكّد على مفهوم الشراكة الوطنية وأحقية جميع السوريين في المساهمة بإدارة الدولة وصناعة القرار وتحديد ملامح الدولة المنشودة، مُعلنةً في الوقت ذاته تنكّرها لمقولة "من يحرر يقرر"، باعتبار أن سقوط الأسد لم يكن نتيجة لانقلاب عسكري بالمعنى التقليدي، بل كان نتيجة لسيرورة نضالية طوال 14 سنة أسهم فيها جميع السوريين. إلّا أن هذا الخطاب، الذي واجهه الجمهور العام بارتياح حسن، سرعان ما بات ينزاح شيئًا فشيئًا تزامنًا مع جملة من الوقائع تبدأ من الاستحواذ على معظم مفاصل الدولة السيادية والإدارية، وكذلك موازاة مع إخفاق واضح في إدارة الأزمات الطائفية والعرقية التي تعصف بالبلاد سواء في مدن الساحل أو مناطق سيطرة قسد أو السويداء. وحيال ما أفرزه الواقع الإداري والميداني من أحداث، سارعت الحكومة إلى إيجاد تبريرات أخرى لنهجها الذي تصرّ على اتباعه، وذلك من خلال تصريحات جانبية للعديد من المسؤولين، إذ تؤكّد تلك التصريحات أن القوة التي حررت البلاد وأسقطت الأسد من حقها أن تتولّى توجيه البوصلة وتستحوذ على السلطة، وهذا ليس بدعةً بل شأن كل الحركات الثورية التحررية حين تتمكّن من الإطاحة بالأنظمة القائمة. في حين يرى كثيرون أن النصر الذي تدّعي الحكومة حيازته هو منجز سوري بامتياز باعتباره ثمرةً لتضحيات عموم السوريين.
أمّا في الضفة الأخرى المواجهة للحكومة، فتبدو قسد التي تبسط سيطرتها على ثلاث محافظات سورية (الرقة ودير الزور والحسكة) وتحتفظ بعتاد عسكري ثقيل وهائل، وكذلك تجنّد في صفوفها عشرات الآلاف من المقاتلين، فضلًا عن إنشائها لكيان إداري واسع يتولّى إدارة نفوذها. ولعلّ هذا التجذّر في المساحات الواسعة، فضلًا عن فائض القوة، أوجد لديها دوافع قوية لتجاوز الحيثيات الأساسية التي وفّرت عوامل نشوئها، أعني الدور الوظيفي المتمثل بمحاربة تنظيم داعش، بالتنسيق مع التحالف الدولي، وباتت تُحيل عوامل بقائها إلى مرجعية مزدوجة لا تخلو من الاضطراب، فهي تارة تدّعي تمثيلها لما تسميه "شعوب شرق سوريا" استنادًا إلى أيديولوجيا "أخوّة الشعوب" وفقًا لأوجلان، وتارة أخرى تدّعي تمثيلها للكرد السوريين. ولعلّ هذا الاضطراب بين نزعتين متناقضتين (أممية – قومية)، والذي لم يكن مقنعًا لقسم كبير من حاضنتها أو مجمل سكان المناطق التي تخضع لسيطرتها، قد دفع بحزب الاتحاد الديمقراطي ـ الموجّه الأساسي لسياسات قسد ـ إلى الاعتماد على الاحتفاظ بالقوة العسكرية والتمسك بالأرض، سعيًا لتحقيق مقوّمات كيان إن لم يحظَ باستقلالية تامة في الوقت الحاضر، فيمكن أن يكون نواةً مستقبلية للكيان المنشود.
 إن أية مقاربة للمشهد السوري الراهن لا تستقيم من دون ربطها بالأدوار الخارجية للدول المحيطة، وخاصة في ظل التدخل الإسرائيلي المعلن في الشأن السوري ميدانيًا وسياسيًا.
أمّا ثالث أطراف المواجهة، فهي مجموعة فصائل عسكرية تدين بولائها لزعيم ديني (حكمت الهجري) الذي يطرح نفسه ممثلًا للطائفة الدرزية في سوريا. عُرف الهجري بموقفه المهادن لنظام الأسد على مدى سنوات من عمر الثورة السورية، وذلك على خلاف شخصيات وقادة دروز كان موقفهم أكثر وضوحًا في مناهضة النظام الأسدي. ولكن ظهور الهجري في مظاهرات ساحة الكرامة منذ شهر آب 2023 أعاد له بعضًا من الاعتبار في أعين جمهور الثورة من السوريين. ولكن منذ سقوط الأسد (8 – 12 – 2024) لم يُخفِ الهجري تحفظه، بل مناهضته للحكومة الجديدة في دمشق، وذلك على الرغم من محاولات الحكومة المتتالية لاحتواء مطالبه بغيةَ اندماج السويداء في جسم الدولة السورية. وواقع الحال أن غموض مطالب الهجري وارتفاع وتيرة مواقفه المناهضة للحكم الجديد أثار كثيراً من التوجسات لدى السوريين، بل عزّز القناعة بأن محافظة السويداء، ممثّلة بالطائفة الدرزية، لن تكون جزءًا من الدولة السورية كما كانت قبل 2011، بل تطالب بخصوصية ما، لا أحد يعلم بالضبط معالمها أو حدودها الحقيقية.
بالعودة إلى الأطراف الثلاثة، وبالأخص إلى منهج كلٍّ منها في التفكير، نجد أننا حيال ثلاثة أنماط متنابذة، كل واحد منها طارد للآخر، ولعل هذا ما يفسّر جانبًا من فشل الحوارات السابقة فيما بينها. إذ لا يمكن لمبدأ "الغلبة" الذي تنطلق منه الحكومة الجديدة، والذي يجعل صاحبه يتعاطى مع الجميع بمنطق "عقلية المنتصر"، أن يكون منهجًا مفيدًا في عملية احتواء الآخر، باعتباره منهجًا لا يمكنه استبعاد مفهوم "القسر أو الإكراه" في جانب كبير منه، إذ ثمة يد واحدة تتحكّم بتوجيه البوصلة، وامتداد يد أخرى يؤدي إلى ارتجاف البوصلة واضطرابها وفقًا لمنطق الغلبة. في حين أن ادعاء قسد بموافقتها على الاندماج في الدولة السورية الجديدة لا يخفي ـ من جهة أخرى ـ قناعتها الراسخة بأنها كيان موازٍ للحكومة، وند حقيقي لها، وحوارها أو مسارها التفاوضي مع الحكومة لن يكون من أجل الحصول على حقوق أو مطالب يقرّها الدستور والقوانين، بل هي تفاوض انطلاقًا من مبدأ "تقاسم الدولة السورية". ولعل هذا ما يفسّر إصرار قسد على التمسك بمسألتين وعدم التخلي عنهما: البنية العسكرية التي لا ينبغي تفكيكها، واستمرار السيطرة والنفوذ على كامل الجغرافيا التي تتموضع فيها. ولا يذهب الشيخ الهجري بعيدًا عن ذلك حين يحدد ارتباطه بالدولة السورية بقدر ما يحتاجه من خدمات وموارد وميزانية، وسوى ذلك فلا ينبغي للدولة أن تتدخل فيه. ربما بدت سوريا إزاء مشهد كهذا أقرب ما تكون إلى عقار، كل يطالب باقتطاع جزء منه ويقول للآخرين: هذه حصتي أفعل بها ما أشاء.
وأخيرًا، ثمة من يعترض بالقول: إن أية مقاربة للمشهد السوري الراهن لا تستقيم من دون ربطها بالأدوار الخارجية للدول المحيطة، وخاصة في ظل التدخل الإسرائيلي المعلن في الشأن السوري ميدانيًا وسياسيًا. وأقول: هذا صحيح، إذ قبل أن يسقط نظام الأسد، تواترت تصريحات نتنياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر بأننا سنقسّم سوريا إلى دولة كردية وثانية درزية وثالثة علوية، وسلوك إسرائيل حيال سوريا بعد هروب بشار الأسد يؤكّد المسعى الإسرائيلي ولا ينفيه. ولكن، مهما ارتفعت درجة تأثير العوامل الخارجية على ما يجري في سوريا، فإنها لا يمكن لها تجسيد أجنداتها كما تريد من دون استنادها إلى حوامل داخلية تتجلى بكيفية تعاطي أصحاب الأرض مع بعضهم بعضاً أولًا، ومع الأجندات الخارجية ثانيًا.