الرئيسة \
تقارير \ سوريا وإسرائيل .. بين شهوة القوة وخيانة الضرورة
سوريا وإسرائيل .. بين شهوة القوة وخيانة الضرورة
09.03.2025
أحمد عزام
سوريا وإسرائيل .. بين شهوة القوة وخيانة الضرورة
أحمد عزام
سوريا تي في
السبت 8/3/2025
ما أسهل أن نتخيل إسرائيل وهي تعترض على ولادة سوريا جديدة، كأنها صاحبة الحق الحصري في رسم خرائط المنطقة وتقسيم مصائر الشعوب! في الحقيقة، لا يحتاج الأمر إلى خيال كبير، فالدولة العبرية لم تتعلم فن الحرب فحسب، بل أتقنت كذلك فن إبقاء أعدائها في حالة حرب دائمة.
والآن، إذ تهمّ سوريا الجديدة بأن تقوم من تحت الركام، تجد نفسها في مرمى الأطماع الإسرائيلية، لا لشيء سوى أن إسرائيل تعتقد أن الشرق الأوسط يجب أن يبقى خاضعًا لقانونها وحدها، وأن أي محاولة لمنافستها، ولو بمجرد النهوض، هي عمل عدائي يستحق العقاب.
ولأن إسرائيل تعتقد أن القانون الوحيد المسموح به في المنطقة هو "الجمود الخاضع لسلطتها"، فإنها تسارع إلى إعلان موقفها كأنها الوصيّ الشرعي على مستقبل سوريا، "لن نسمح للجيش السوري الجديد بالاقتراب من الجنوب!"تقولها وكأنها تصدر مرسومًا كونيًا، ثم تتابع هوايتها المفضلة: القصف بين الحين والآخر، فلا هي تشنّ حربًا مباشرة، ولا هي تسمح للسوريين بأن يبنوا بلادهم بسلام. لماذا؟ لأن القاعدة الذهبية في السياسة الإسرائيلية واضحة: لا تدع جارك ينهض، فإن نهض، فاجعله يعرج، فإن مشى، اقطع ساقه، ثم عاتبه على عدم قدرته على الركض.
ولكن، لنكن صريحين! إسرائيل لا تخشى جيشًا سوريًا جديدًا، فهي تمتلك ما يكفي من القوة لضمان تفوقها العسكري لعقود. إنما ما يخيفها حقًا هو سوريا المستقرة، سوريا القادرة على إعادة لملمة شتاتها وإقامة دولة مركزية قوية. إن هذا السيناريو، الذي قد يبدو بديهيًا لأي عاقل، يمثل كابوسًا استراتيجيًا لتل أبيب، لأنه سيعيد رسم قواعد اللعبة في المنطقة، وسيحرمها من ذريعة "الاضطرار" للتدخل المستمر في الشأن السوري وسيعني أيضاً نهاية عصر الفوضى المجانية الذي استغلته لعقود بذريعة منع تمدد المقاومة. إن إسرائيل، وبكل بساطة، لا تحب الجيران الأقوياء.
هنا يأتي دور إسرائيل، لا كدور عسكري محتوم وحسب، بل أيضاً كعقل مدبّر يجيد استغلال الضعف البشري عند البعض لضمان أن يبقى الجنوب السوري خارج سيطرة دمشق لأطول فترة ممكنة.
ولكن إسرائيل ليست وحدها في هذا المسرح العبثي. ففي الجنوب السوري، حيث تعيش درعا والسويداء على حافة التمرد الدائم، يبدو أن هناك قوى محلية لا تحتاج إلى كثير من الإقناع لكي تلعب دورها في هذا المشهد. بعض هذه الفصائل، التي لم تعتد طاعة دمشق منذ سنوات، تجد نفسها أمام معضلة وجودية: هل تسلم سلاحها لحكومة مركزية جديدة قد تفرض عليها سيادة القانون، أم تستمر في حالة اللادولة التي توفر لها امتيازات سلطوية؟
وهنا يأتي دور إسرائيل، لا كدور عسكري محتوم وحسب، بل أيضاً كعقل مدبّر يجيد استغلال الضعف البشري عند البعض لضمان أن يبقى الجنوب السوري خارج سيطرة دمشق لأطول فترة ممكنة. فكما علمنا التاريخ، لا يحتاج "الانتهازي" إلى أكثر من وهم القوة كي يبيع بلاده. وإسرائيل، بكل ما تمتلك من إمكانيات تجيد توزيع هذا الوهم بسخاء.
إنها معادلة قديمة قدم التاريخ: الفصائل التي تخشى فقدان امتيازاتها تبحث عن حماية خارجية، وإسرائيل التي تخشى استقرار سوريا تقدم تلك الحماية. إنها ليست خيانة مجردة بقدر ما هي استثمار انتهازي. فحين يُوضع السلاح في يد ميليشيا تخشى زوال نفوذها، يصبح الخوف أقوى من الولاء، ويصبح الانفصال أكثر جاذبية من الوحدة.
إن سوريا الجديدة بكل مكوناتها التي هزمت أعتى دكتاتورية عرفها التاريخ الحديث، ومهما بدت هذه الـ "سوريا" هشة في بدايتها، ستتعلم كيف تميز بين أبنائها الحقيقيين والانتهازيين.
يعلم شعب السويداء –أبناء الكرامة حقاً لا مجازاً- أن الأمن لن يأتي من قبل إسرائيل بل من وحدة السوريين أنفسهم، ويعلمون أكثر من ذلك أن بنيامين نتياهو صاحب الأطماع الاستعمارية الاستشراقية المتأصلة والذي لم تجف يداه من دم الفلسطينيين في غزة بعد لن يصبح فجأة مسؤول منظمة خيرية معنية بحقوق الإنسان والطوائف. ولكن هذه المعرفة لا تكفي إذ يجب على الشعب السوري في السويداء ودرعا معاً مواجهة بعض الفصائل العسكرية التي تبدو حتى الآن "متواطئة" ويجب أن يتطور الموقف الشعبي إلى احتجاجات يومية لدى كل أبناء ووجهاء المحافظة والذي يرفض أي محاولة لعزل السويداء نفسياً -قبل سياسياً- عن محيطها السوري.
أما بالنسبة للقيادة السورية الجديدة فإن الاكتفاء بالبيانات المنددة الخجولة أو إرسال برقيات بحبر أكثر سواداً لن يجعل إسرائيل تشعر بجدية الموقف السوري الجديد، ولن تنجو كل محاولات بناء الدولة إن لم تفكر الحكومة السورية الجديدة منذ الآن بتغيير أولوياتها من خلال الإصرار على تقوية الدفاعات وبناء تحالفات عسكرية عاجلة وإعادة ترتيب الوضع الداخلي ومهما اجتهدت القيادة السورية في إرسال التطمينات تلو التطمينات في أنها لن تكون مصدر قلق لجيرانها، يبقى المبدأ الإسرائيلي كما هو: "نحن نضرب لأننا نستطيع". وقد أثبت التاريخ أن إسرائيل تصنع الذرائع بنفسها بالتالي هي ليست بحاجة إلى ذريعة، وحين تزداد وتيرة التطمينات المرسلة من قبل القيادة السورية فهذا بالنسبة لإسرائيل ضعف يجب استغلاله فالعدوان هو استراتيجية ثابتة لدى احتلال يدافع دائماً عن حقه في حماية كل قطعة أرض يحتلها وهي سياسة "الدونم دونم" التي لا تنتهي عند حد معين، بالتالي فالأمن بالنسبة لسوريا لن يأتي من التطمينات بل من القوة: إذ أنه في السياسة كما في الغابة، فالحمل الذي يظن بأنه يمكنه إقناع الذئب بعدم افتراسه، لا يفهم قواعد اللعبة.
إن سوريا الجديدة بكل مكوناتها التي هزمت أعتى دكتاتورية عرفها التاريخ الحديث، ومهما بدت هذه الـ "سوريا" هشة في بدايتها، ستتعلم كيف تميز بين أبنائها الحقيقيين والانتهازيين. وستدرك أن من يعرض عليها خدعة "الأمان والسلطة" اليوم، إنما يزرع فيه فتيل انفجار الغد. أما إسرائيل، التي اعتادت أن تلعب دور القاضي والجلاد في المنطقة، فقد تجد نفسها أمام مفاجأة لم تحسب حسابها: سوريا لم تمت، و هي أيضاً لم تخرج من تحت الركام كي تعود إليه.