وجهة نظر :
ثلاثة عوامل أدت إلى انتصار العلمانية في الغرب
زهير سالم*
"الدين" أو "الإيمان" بمعناه الواسع الفضفاض، والذي يعني أن يؤمن الإنسان بقوة عليا- مهما كان تصوره لها- يأوي إليها ويرجوها وينتظر منها، وتقيه من كل مخاوفه؛ أمر فطري، مغروس في صميم الكينونة البشرية. ولم يؤرخ علم الأنثربولوجيا لأي تجمع بشري، في كل الأطوار التي رُصدت، عاشت بغير هذا الإيمان، الذي هو كما قلنا جزء من كينونة الإنسان. فلا تجمع بشري، ولا حضارة إنسانية، رُصدت على مدار التاريخ المحفور أو المكتوب؛ بلا اعتقاد ديني غيبي يشكل سلوة الإنسان وطمأنينة نفسه.
والعيش بعيدا عن هذه الكينونة، سواء في ضيق الالحاد الخانق، أو في فضاء اللاأدرية المضطرب، يجعل الإنسان مترددا خائفا قلقا متشائما قاسيا كما الإنسان الغربي في هذا العصر المريب..
يتساءل الكثيرون: كيف استطاع الإنسان الغربي، أن يتجرد من دينه؟؟ وكيف ينمو ويتطور ويبدع، في ظل حالة التصحر الإنساني، منذ انتشار الالحاد أو اللاأدرية في الغرب.. ؟؟!!
ويظن كثيرون أن الإنسان الغربي بعيش حالة من الرضا، والرفاه النفسي، كما يعيش الرفاه التقني والاقتصادي. وفي الحقيقة لكي تتأكد من صحة هذا أدعوك إلى أمرين؛ الأول أن تعيد قراءة دواوين الشعراء ولا سيما المفكر المجنون نيتشة، الذي أعلن "موت الإله" وظل يندب عليه!!
ويردد أن الله قهرنا بالضمير الذي زرعه بين ظهرانينا..فما يزال بعذبنا على غرورنا…
ثم أدعوك إلى مراجعة إحصاءات حالات الأمراض النفسية وفي مقدمتها الاكتئاب والجنوح إلى إدمان السكر والمخدرات؛ وفي نهايتها إحصاء حالات الانتحار..
من المكابرة الزعم أن الإنسان يعيش سعيدا بعيدا عن الإيمان..
وسؤالي في عنوان هذا المقال: كيف نجح دعاة العلمانية بكل جفائها وقسوتها أن يقنعوا الإنسان الأوربي، أن هذه الصحراء القاحلة الموحشة أندى من العيش في ظلال الله!!
ومهما قلنا عن حقيقة أو طبيعة الإيمان المسيحي، واضطراب عقيدة التثليث والأقانيم، فإن كل ذلك وأكثر منه يظل أقل سوء من حالة الخواء.
ثلاثة عوامل أساسية جعلت الشعوب الأوربية ترى كل هذا الجحيم أهون شرا من العيش في ظل الإيمان الكنسي بكل ما سامته الكنيسة للإنسان..
العامل الأول: تحالف الكنيسة مع الاستبداد، على المستوى السياسي.
والعامل الثاني: تحالف الكنيسة مع الاقطاع على الطبقات الأقل حظا على المستوى الاقتصادي.
والعامل الثالث؛ تبني الكنيسة مخلفات القرون من التصورات الكونية، وإضفاء القداسة عليها، ومواجهة الكشوفات العلمية بها، وفرضها على عصر التنوير ، بكل اكتشافاته بعد اعتماد المنهج العلمي التجريبي.
قد لا يدرك الكثير من شباب الإسلام، أن اللعبة الكبرى اليوم تدور عليهم، بعد أن حصّن الإسلام مواقعه، وعزز قيمه على مستوى العقيدة والشريعة ومنهج الحياة، على المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والنظرية السياسية.
فالإسلام الذي أبت طبيعته الدينية المدنية المتحررة من طبقة الكهنوت- وهذا ما نقصده عندما نقول دولة مدنية ومجتمع مدني وإنسان مدني، فالإسلام لم يدعُ الفرد المسلم عندما يريد أن يتوب إلى "اعتراف" وأعطاه الحق في أن يطرق باب خالقه وحيدا. والإسلام المدني اعترف في صفوف الملتزمين به المصطفين الأخيار الوارثين للكتاب بثلاث مستويات من المسلمين ففيهم السابق بالخيرات، وفيهم المقتصد، وفيهم الظالم لنفسه.. وكلهم معترف به وموقر في المجتمع المسلم، بل قد يكون المسلم ظالما لنفسه في أمر أو في شعبة من شعب الإيمان، أو في شعيرة من شعائر الإسلام؛ وسابق في الخيرات أو مقتصد في أخرى أو وفي أخريات. وقاعدة الإسلام الربانية في أعمال العباد: إن الحسنات يذهبن السيئات، وليس كما هي قواعد البشر، حتى عند بعض المسلمين للأسف إن السيئات يذهبن الحسنات.
آمنا عمرا مديدا أن الإسلام ليس فيه طبقة كهنوت، ولا كهنة ولا رجال دين، وحاربنا تحت العنوان، وناصرناه ودافعنا عنه؛ ولكننا اليوم إذ تضطرب أعيننا أمام ما نتابع في مشهد الدول المسلمة، والمجتمعات المسلمة، والجماهير المصنعة بقوة الضخ الإعلامي الرهيب؛ نجد أنفسنا أمام المشهد الغربي نفسه في القرن السادس عشر والسابع عشر..
مشهد يدمر فيه الإسلام باسم الإسلام وعلى يد المسلمين أو أيدي أدعياء الإسلام…
فعلى صعيد تحالف طبقة من المحسوبين على الفقه الإسلامي انظر حول كراسي الحكام الفاسدين المفسدين، تجد في كل قطر مجموعة من هؤلاء الكهنة الطبالين، يحفون بعروش الظالمين، ويسبحون بحمدهم ليل نهار، ويدافعون عن إثمهم وفجورهم وظلمهم وقسوتهم وتجاوزهم..
فإذا أبصرت هذا تذكر العنوان الأول "تحالف الكنيسة مع قصور المستبدين في الغرب" وفي فرنسة الكاثوليكية حيث كان لويس الرابع عشر يعلن أنا الدولة..
ثم انظر بالطريقة نفسها، إلى تحالف طبقة أخرى من هؤلاء المذكورين بالعلم والدين، مع الطبقة الموسرة في المجتمع المسلم.
أنا راض جدا عن كل ما حصل من تطور في نظام الصيرفة الإسلامية، وقد نشأ ذلك التطور الجميل السامق والعميق من تحالف نخب علمية فقهية مع الرجال الموسرين؛ ولكن السؤال الذي يظل يلح على العقل والقلب، لماذا لم يحصل ما يوازي ذلك على الصعد الفكرية والتعليمية والمجتمعية؟؟!!
وبدلا من أن نتقدم نحو أساليب التعليم الأكثر حداثة وتطورا، تردُّ أجيالنا المسلمة إلى أساليب التعليم النمطية ونتباهى بها!!
وعلى المستوى الثالث لماذا ما زلنا نفجع بمن يعبث بالناس بالحديث عن رضاع الكبير، وزواج الصغيرة، ووكالة الجد في تزويج حفيديه وهما يحبوان "بهي لبهية"، وإمضاء ذاك النكاح!!
لماذا ما نزال نفجع بأحاديث لرجال معممين تحدثنا على الهواء المكين؛ أن الأرض لا تدور قول مؤسس على كتاب الله، وأن من زعم أن الأرض كريّة؛ فقد وتغ، ويشهر كل ذلك باسم القرآن والفقه والشريعة..!!
التتبعات المنهجية العلمية لجحود ما أصبح من المسلمات العليمة تطول، وأنا لا أتحدث عن نظريات، بل عن بدهيات ومسلمات، وأتصور غاليلو غاليلة قد جثا على ركبتيه في القرن السابع عشر وقد أوقدت له النار، وهو يعترف يخطيئته يوم اكتشف أن الأرض تدور، يعلن توبة، ويسحب الحقيقة العلمية، ويتعهد أنه لا يعود إلى مثل هذه الهرطقة أبدا..
وذاك العارض أمطر الغرب كافة بما حكيت لكم عنه من اللاأدرية والكفر…هذه تجربة مستعادة، تحت نفس الظروف، لتنتج النتائج نفسها.
إن استنبات التطرف والمتطرفين من كل الطبقات بين ظهراني المسلمين؛ إنما المقصود منه أن يشرد جمهور الأمة عن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة..
فإذا شرد الكثير تمكن العدو من القليل…
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا
اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد..
لندن: ١٥/ ذو الحجة/ ١٤٤٥
٢١/ ٦/ ٢٠٢٤
____________
*مدير مركز الشرق العربي