الرئيسة \  تقارير  \  مجزرة صيدنايا 2023 : سجن الأسد تحوّل إلى مصنع للموت الجماعي

مجزرة صيدنايا 2023 : سجن الأسد تحوّل إلى مصنع للموت الجماعي

12.07.2025
المدن



مجزرة صيدنايا 2023 : سجن الأسد تحوّل إلى مصنع للموت الجماعي
المدن
الخميس 10/7/2025
داخل "السجن العسكري الأول" المعروف باسم صيدنايا، قرب العاصمة السورية، ارتكبت واحدة من أفظع الجرائم الممنهجة في القرن الحادي والعشرين، وفقاً لتحقيق موسع أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال". السجن، الذي مثّل على مدار سنوات رمزاً للرعب في عهد بشار الأسد، تحول إلى مسرح إعدامات جماعية روتينية، وبلغت ذروتها في آذار/ مارس 2023، عندما أُعدم قرابة 600 معتقل في ثلاثة أيام، في واحدة من أكبر المجازر الصامتة في تاريخ الصراع السوري.
ثلاث ليالٍ من الإبادة
وكانت الإعدامات تُنفذ بشكل شهري تقريباً، كطقس من طقوس الترهيب الجماعي، لكن في منتصف آذار/مارس 2023، انقلب النمط إلى مجزرة جماعية منظمة، بحسب شهادات ستة معتقلين سابقين تم تضمينها في تحقيق "وول ستريت جورنال".
وقال عبد المنعم القايد، المقاتل السابق الذي سلم نفسه معتقداً أنه سيخضع للعفو: "جمعوا 600 شخص وقتلوهم في ثلاثة أيام، 200 شخص كل ليلة، كانوا يلفون الحبل حول الرقبة، ثم يسحبون الطاولة، واحداً تلو الآخر، كنا نسمع صوت الكشط والاختناق، ثم الصمت".
كانت قوائم الإعدام تُقرأ على مسامع المعتقلين في الزنازين، وكان الذين تُذكر أسماؤهم يُقتادون إلى ما يُعرف بـ"الطابق السفلي"، حيث صممت غرفة الإعدام لاستيعاب عشرات في وقت واحد، في كثير من الأحيان، كان المعتقلون الآخرون يميّزون الليلة الدامية من وقع الخطوات، وصوت الطاولات التي تُسحب، والأنين الخافت يختنق في الهواء. "أنتَ لا ترى، لكنك تسمع... وتنتظر. الرعب ليس في الموت، بل في الانتظار"، كما روى أحد الشهود.
 توثيق إداري شبيه بالنازية
لم يكن القتل في صيدنايا عشوائياً، بل كان ثمرة نظام إداري منهجي ومُفصّل، يعكس بيروقراطية دولة لا تسعى فقط إلى القتل، بل إلى أرشفته، حيث كان المعتقلون يُحوّلون من فروع الأمن السياسي والعسكري والمخابرات الجوية، إلى صيدنايا، بموجب وثائق رسمية. وتصدر المحكمة الميدانية العسكرية، وهي هيئة استثنائية لا تتبع أي قانون مدني، أحكاماً بالإعدام بناءً على "اعترافات" انتُزعت تحت التعذيب.
ثم بعد تنفيذ الإعدام، كانت شهادات الوفاة تُصدّر باسم الدولة، وغالباً ما تحمل أسباباً مزوّرة مثل "سكتة قلبية" أو "هبوط مفاجئ في الدورة الدموية".
وفي هذا السياق، قال ستيفن راب، السفير الأميركي السابق لقضايا جرائم الحرب: "إنها واحدة من أسوأ الفظائع في القرن 21، منظومة بيروقراطية للقتل تُذكّرنا بالنازيين والاتحاد السوفيتي، من حيث التوثيق ودور الدولة الكامل في إدارة الموت".
وبحسب شهادات مسؤولين سابقين وأخرين فرّوا خارج البلاد، لـ"وول ستريت جورنال"، فإن أرشيف صيدنايا يتضمن آلاف الأسماء والوثائق التي لا تزال بيد جهات أمنية.
بوابة إلى حبل المشنقة
من بين من لقوا حتفهم في المجزرة، عشرات المقاتلين والمدنيين الذين سلّموا أنفسهم طوعاً بموجب عفو حكومي أعلن عنه عام 2018، بضمانات روسية. كان محمد عبد الرحمن إبراهيم، مدرّس رياضيات انشق عن الجيش بعد رفضه المشاركة في قصف مناطق مدنية، أحد الذين سلموا أنفسهم للاستفادة من قانون العفو.
في عام 2018، وبعد ضغوط من عائلته وخوفه من البقاء في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، قرر تسليم نفسه إلى الشرطة العسكرية في دمشق، مُستنداً إلى وثيقة العفو. لكن ما إن دخل حتى صفعه ضابط الأمن وقال له: "تبّاً لك… من أعطاك هذا الورق؟".
نُقل بعدها إلى فرع المخابرات الجوية، حيث تعرض لتعذيب شديد، ثم أجبر على توقيع وثيقة لم يُسمح له بقراءتها، وقال إبراهيم: "ربما وقعت على أمر إعدامي بنفسي. لا أعلم، قال لي الضابط: لن ترى الشمس مجدداً".
اقتيد بعدها معصوب العينين إلى سجن صيدنايا، حيث أمضى خمس سنوات تحت التعذيب، وظل ينتظر تنفيذ الإعدام حتى سقوط النظام.
المجزرة الأخيرة
وقعت مجزرة آذار/مارس 2023، بينما كان نظام الأسد يعيش مرحلة من العودة السياسية الإقليمية، بعدما بدأت بعض الدول العربية بإعادة فتح قنوات التواصل مع بشار الأسد. كان ذلك بعد سنوات من تأطير الثورة كفوضى، ووصف المعارضة بالإرهاب.
كان الأسد يُحضر للعودة إلى مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، وكان بحاجة إلى "تنظيف" الملفات الخطرة، حيث تشير شهادات معتقلين ومسؤولين سابقين إلى أن المجزرة نفّذت كـ"مجزرة ختامية"، تهدف إلى التخلص من أكبر عدد من المعتقلين المعارضين للنظام قبل أي انفتاح سياسي.
وبعد تنفيذ المجزرة، أصدر الأسد قرارات ذات طابع "إصلاحي"، منها إلغاء المحكمة الميدانية العسكرية، وتخفيف أحكام الإعدام لبعض المعتقلين، والسماح بإطلاق سراح مشروط لبعض الحالات، لكن خبراء وحقوقيين يرون أن هذه الإجراءات لم تكن سوى محاولة لتبييض الجريمة بعد وقوعها.
توثيق ممنهج وتعذيب "احتفالي"
لم يكن الموت هو العذاب الوحيد في صيدنايا، بل كان السجن مصمّماً لإذلال المعتقل قبل قتله. ووثّقت الصحيفة الأميركية 21 شهادة مباشرة لمعتقلين سابقين، وصفوا جميعاً ما يُعرف باسم "حفلة الاستقبال عند الوصول، حيث يتم تجريد المعتقل من ملابسه بالكامل، ثم يُضرب حتى الإغماء، ويُحبس مع آخرين في زنزانة معتمة باردة، مليئة بمياه الصرف، في كثير من الحالات، مات المعتقلون خلال أول 24 ساعة.
وقال بشار محمد جاموس، أحد المعتقلين الذين أُفرج عنهم لاحقاً، إنه فقد ساقه بسبب الضرب المبرح الذي تلقاه عند وصوله، أما محمود عمر وردة، فقال إن زميله بسام رحمن تُرك دون ماء لمدة 17 يوماً، ما اضطره إلى شرب مياه المرحاض، ليموت بعدها بأيام متأثراً بالتهاب معوي حاد.
وأضاف وردة "بدأنا 25 شخصاً في الزنزانة، لم يبقَ سوى 8، الباقون ماتوا أمامنا، إما من الجوع، أو الضرب، أو القهر". وكان السجناء يُمنعون من الكلام، حتى الهمس، وممنوعون من النظر في أعين الحراس، وممنوعون من استخدام الأحذية أو الأغطية أو حتى المرحاض في بعض الأحيان، كان السجن أشبه بمُختبر لإلغاء الإنسان من نفسه. وفق وصف "وول ستريت جورنال".
 طريق الجثث
بعد كل ليلة من الإعدامات الجماعية، كانت أجساد المعتقلين تُحمّل بصمت إلى شاحنات تبريد صناعية تقف في ساحة خلفية من سجن صيدنايا، وتغادر قبيل الفجر. لم تكن هذه الشاحنات تنقل الغذاء أو الإمدادات، بل كانت "المرحلة الأخيرة من خطة الإبادة"، كما وصفها شهود في التحقيق.
و تتوجه الشاحنات إلى مقبرتين سريتين على أطراف دمشق: نجها جنوب العاصمة، والقطيفة إلى شمالها. هناك، كانت تنتظر فرق دفن خاصة من موظفين مدنيين أُجبروا على التعاون مع الأجهزة الأمنية.
وقال محمد نافع، موظف بلدي سابق من دمشق، إنه طُلب منه في صيف 2011 تأمين "عمال دفن" لمقبرة نجها، لم يُخبرهم أحد بهوية الجثث، لكنه تلقى لاحقاً قوائم مرقمة من ضباط المخابرات الجوية، تحدد عدد الجثث ووجهتها. كثير منها كان يحمل علامات تعذيب واضحة، وبعضها ما تزال حبال المشنقة تتدلى من أعناقها.
وأشار نافع "لم يُسمح لنا بطرح أي سؤال، ذات ليلة، أحضروا شاحنة فيها أكثر من 30 جثة، أغلبها عارية، وبعضها مكبلة اليدين. أدركت أنهم ماتوا تحت التعذيب، لا شك".
على مدى أسابيع، تكررت الشحنات، وازدادت الأعداد. بعد أن امتلأت مساحة نجها، أُرسل نافع إلى موقع جديد قرب بلدة القطيفة، حيث تم حفر مقبرة جماعية ضخمة بجانب قواعد عسكرية سورية وروسية.
وأكّد يوسف عبيد، سائق الجرافة في الموقع، أن وتيرة الدفن كانت ثلاث شاحنات أسبوعياً على الأقل، محمّلة بعشرات وربما مئات الجثث، وأضاف "كنا نرى أجساداً عليها آثار الشنق، وأخرى عليها كدمات غائرة في الرأس والظهر. بعضها كان في أكياس بلاستيكية، والبعض الآخر ملقى عارياً. لم نكن نعرف أسماءهم، فقط أرقام على أذرعهم أو ملابسهم".
تحليل صور أقمار صناعية أجراه المركز الألماني للفضاء الجوي (DLR) لصالح محكمة ألمانية، كشف أن مقبرة القطيفة شهدت توسعاً تدريجياً بين عامي 2014 و2019، من 19 ألف متر مربع إلى أكثر من 40 ألفاً، بطول حفريات يصل إلى 120 متراً وعرض بين 3 و5 أمتار، وأكدت الصور وجود شاحنات اتصالات عسكرية روسية مهجورة في أطراف الموقع، ما يشير إلى دور لوجستي روسي محتمل، وفق الصحيفة الأميركية.
انكشاف الفظائع
وفي ساعات الفجر الأولى من 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ومع دخول الثوار إلى أطراف العاصمة دمشق، انسحبت الحراسات الأمنية من سجن صيدنايا فجأة. ومع بزوغ الضوء، اقتحمت مجموعات من الثوار السجن، وكشفت ما وراء الجدران التي حجبت الحقيقة لسنوات.
كان المشهد أشبه بخروج من الجحيم، زنزانات مفتوحة بأبواب محطمة، وأغطية متعفنة، ملابس ممزقة، أغلال صدئة، ودماء جافة على الجدران، ووثائق رسمية متناثرة تحتوي على أوامر نقل، سجلات إعدام، شهادات وفاة.
من بين من زاروا السجن بعد تحريره، محمد عبد الرحمن إبراهيم، مدرس الرياضيات السابق الذي قضى خمس سنوات فيه. عاد إلى زنزانته القديمة، مشى في الممر، ثم توقّف وقال: "أسمع الصراخ. أسمع صوت الضرب. كأن كل المشاهد تحدث أمامي الآن".
وبعد صمت طويل، أضاف "في الأيام الأولى بعد خروجي، كنت أخشى النوم. كنت أظن أن كل شيء حلم… وأنني سأستيقظ داخل الزنزانة مجدداً، اليوم فقط عرفت أنني خرجت فعلاً".
وعود العدالة
على مدى سنوات، نشرت منظمات مثل العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، والشبكة السورية لحقوق الإنسان، عشرات التقارير التي توثق فظائع صيدنايا بالتفصيل. كما قدمت لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا تقارير إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ومع ذلك، لم يتحرك المجتمع الدولي لوقف الإعدامات أو فرض محاسبة جدية على النظام.
اليوم، ومع تغير موازين القوى في سوريا وسقوط النظام، أعلنت الحكومة الانتقالية نيّتها تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في جرائم الحرب. وسمحت بدخول فرق أممية ومحققين مستقلين إلى منشآت مثل صيدنايا، ونجها، والقطيفة، لكنها لم تحسم شكل المحاسبة: هل ستكون محلية، أم عبر محكمة مختلطة، أم دولية؟، ولم تعلن موقفها من تسليم ضباط سابقين إلى العدالة الدولية، وتخشى عائلات المفقودين من أن تكون الخطوات رمزية أو جزئية، خصوصاً في ظل حساسية بعض الفصائل المعارضة من فتح ملفاتهم أيضاً.
سؤال بلا إجابة
ورغم انهيار النظام، لا يزال مصير عشرات الآلاف مجهولاً. وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تم تسجيل أكثر من 160 ألف حالة اختفاء قسري منذ 2011، تتحمل قوات النظام مسؤولية النسبة الساحقة منها. وتُركت آلاف العائلات معلقة بين الأمل والحزن، لا تعرف إن كان أبناؤها أحياء أو مدفونين في خنادق سرّية.
وقالت دينا كاش، زوجة المعتقل المفقود عمار درعا، الذي اعتُقل عام 2013: "نعلم أنه كان في صيدنايا، ووجدنا اسمه لاحقاً في وثيقة داخل فرع أمني. لكننا لم نتسلم جثته، ولا نعلم متى أو كيف مات. نقول: الله يرحمه… ثم نصمت، ونضيف: سواء كان حياً أو ميتاً. لأننا ببساطة لا نعرف".