سفّاحُ "المهازل" السورية الذي ذهبَ مع الريح
28.11.2024
عبير نصر
سفّاحُ "المهازل" السورية الذي ذهبَ مع الريح
عبير نصر
العربي الجديد
الاربعاء 27/11/2024
قد يبدو الحديثُ المكرور عن حصاد القهر السوري مضيعةً للوقت، فمن الجليّ أنّ عاماً آخر يمضي في سورية ومملكة "الأسد وحرقنا البلد" لا تزال مكاناً مُشاعاً لممارسة "الهَبَل" السياسي بكل صنوفه وتلاوينه. إذ أثبت نظام الأسد، وخلال خمسة عقود دامية، أنّ للمهازل السياسية قوة مادية مدمّرة بالفعل، عزّزت الحضور الطاغي لحكم العائلة في فضاء الاستبداد الرمزي، وأدارت بحرفيةٍ مدهشةٍ دفّة السيطرة الغامضة على حياة السوريين. فالواقع تطوّر، وماكينة الرعب لم تعد مقتصرة على إنتاج السجون والخطابات والتماثيل والمسيّرات. على أيّة حال، لم يكن الطغيان في سورية مجرّد سلوك وظيفي، بل حالة سيكولوجية تمثل الدافع الدينامي الداخلي للنظام الحاكم نفسه، الذي لن تجد لتركيبته مثيلاً حتّى في أكثر العوالم إمعاناً في الخيال والفانتازيا. ولنجزم يقيناً أنّ الكارثة السورية بدأت منذ اعتنق نظامُ الأسد عقيدةَ "الألوهية المقدسة" في الحكم، تحت مسمّى "حلّك يا الله حلّك... يقعد حافظ محلّك" في زمن الأب، ومسمّى "الله.. سورية.. بشار وبس" في زمن الابن، الذي غالباً ما كانت منزلقاته التعبيرية "الناعمة" نوعاً من الاعتراف الفجّ بعدوانيّته المتطرّفة، تُغني تفسير الواقع الراهن الذي يمثّل في تأزمه هيستريا السقوط الأخير.
خذ مثالاً زلّة لسان بشار الأسد الشهيرة في خطابه أمام مجلس الشعب، عندما وصف المواطن السوري بذي الدخل "المعدوم" وليس "المحدود". قد يبدو هَزَراً مارقاً لكنه خطير الدلالات والمعاني، اتّخذ منحىً هزلياً كارثياً عندما سارع أحد مطبّلِي النظام، المدعو خالد العبود، إلى تفسير الزلّة المثيرة للتوجّس، استناداً إلى نظريته العجيبة التي أسماها "العمود الحاد"، مبرهناً من خلالها أنّ "أفكار الأسد العميقة تحتاج إلى مزيد من التأصيل والمساكنة..!".
ولمّا كان المُشتَهى واحداً لدى جميع الطغاة، فدائرة الاستبداد لا تملّ أبداً من تكرار نفسها، إلا أنّ الحالة السورية فريدة، لأنها تغصّ بالمهازل المُعلَنة والمفارقات الأليمة التي أوجدت بيئةً مضلّلة، تمثّل فنّاً مخاتلاً من المقاومة الالتفافية لنظامٍ متهالكٍ يعتبر حكم سورية شأناً عائلياً خاصاً.
الكلام الأيديولوجي المعسول فات زمانُه، وتحوّلت طلاّت الأسد إلى فقرة كوميدية وفسحة للتنفيس والشماتة بنظامه البائد ورموزه
وفق هذا التصوّر، تشكّل التراجيديا السورية مرحلةً متقدّمة من الاعتلال السياسي لحكم "الأبد"، وبأشد معايير التلاعب درامية. وعليه، يتطلّب تعقيد المفارقات الهزلية قراءة موضوعية متأنية تخدم سؤالَ البحث الأساسي عن أسباب هذا "التهريج المُستدام"، الذي حوّل سورية من مملكةٍ موغلةٍ في الصمت إلى بؤرة نشطة للصراعات والمخدّرات والاغتيالات، ولم يكن هذا كلّه كافياً لاقتناع قادة العالم بأنَّ نظام الأسد مجرّد نكتةٍ سخيفة، تعكس لا معقولية ذهنيّته المنفصمة وتفاهتها المثيرة للضحك، إذ لا يمكن لعاقلٍ على الإطلاق أن يصدّق، مثلاً، أنّ هذا النظام الذي يحصي حتّى أنفاس السوريين، اكتشف متأخراً، وبالمصادفة المحضة، حيازة عضوين بارزين في مجلس الشعب السوري الجنسية التركية، وهي البلد المعادي لسيادته ووجوده بحسب تصنيفه، (أحدهما محمد حمشو صديق وشريك ماهر الأسد)، رغم سيطرة الأجهزة الأمنية على أدقّ تفاصيل الحياة السورية، فكيف تفوتُهم فائتة؟
بالتساوق مع ما تقدّم، لا يوجد شيء يمكن قراءته اليوم بعيداً عن هذا المنظور، فالطرائف القادمة من كبد المعاناة السورية هي لبّ القصّة أساساً. وفي كلّ مهزلة هناك دائماً نقطة انطلاق يتكثّف حولها الجوهر اللاأخلاقي لنظامٍ ذي رأس متبلّد وجسم هَرِم، فمن شعار "التركيع والتجويع" انتقل بسلاسةٍ مريبةٍ إلى استراتيجية "قتل آمال السوريين بقوّة المهازل".
في كلّ مهزلة هناك دائماً نقطة انطلاق يتكثّف حولها الجوهر اللاأخلاقي لنظامٍ ذي رأس متبلّد وجسم هَرِم
والأمثلة كثيرة في السياق، لعلّ أبرزها "صمت" بشار الأسد في القمّة العربية الثالثة والثلاثين في المنامة، والذي كان "مدوّياً"، برّرته وكالة الأنباء الرسمية أنه تأكيد على ثبات الرؤية السورية تجاه مستجدّات المنطقة، واليوم يصدمنا بصوته المدوّي في القمة العربية الإسلامية غير العادية في نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في الرياض. وللمفارقة، جاء حضوره باهتاً إلى درجة ممضة رغم خطابه الرنان، وفيه أكد أنّ الأولوية للمقاومة ولإيقاف المجازر في فلسطين ولبنان، بينما لم يأتِ على ذكر مآسي السوريين وآلامهم. ورغم هذه "العنترية الاستعراضية" لم يُعر أحدٌ خطابَ بشار الأسد أيّة أهمية تُذكر، فالكلام الأيديولوجي المعسول فات زمانُه، لتتحوّل طلاّته إلى فقرة كوميدية وفسحة للتنفيس والشماتة بنظامه البائد ورموزه. والدليل أنّ الاهتمام انصبّ على مقطع فيديو تضمّن مشادّة بينه وبين رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي على هامش القمة، تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي، رغم ما تردّد أنّ الفيديو أنتج عن طريق التزييف والذكاء الاصطناعي، إلا أنه نال اهتماماً واسعاً فاقَ خطاب الأسد الذي تجرّأ، وللمفارقة أيضاً، على وصف الإسرائيليين بـ"قطعانٍ مستوطنين أقرب إلى الهمجية". هل نسي أنّ إسرائيل نفسها هي الضامنة لبقائه حتّى اللحظة، من باب التخوف من قدوم بديلٍ أسوأ، فكيف يغدو هو الأسوأ؟
ولتناول البعد الأكثر قتامة لزمن المفارقات الأسدية، علينا النظر مليّاً إلى المعنى في كلّ حدثٍ يمرّ في سورية، خاصة إذا كان "عادياً"، والتمعّن في أكثر الأمكنة ميلاً إلى الإفضاء بما تخفيه، فمآلات الأزمة المستعصية أوضَحت على نحوٍ لا يترك مجالاً للشك أنّ المآسي السورية تبرز من الهوامش الأكثر ضعفاً وإهمالاً، أما الغاية المبيّتة لهذا "الهَزَل" و"الهَزَر" اليومي فكانت تنميط أنساقٍ من سلوك السوريين "السلبي" من دون وعي منهم، ما أسّس تدريجياً للغةٍ حياتية مسمومة، اختلطت فيها كلّ المعاني والمبادئ. ومن هنا تُخلق الهزائم التاريخية الأليمة، فيتحوّل الذئاب إلى خرفان، ويصحّ العكس، وتتحول الأشواك إلى ورود والساحرات إلى ملائكة.
الطغاة يشبهون مع الوقت ضحاياهم، كما يشبهون مهازلهم
أدلّ الأمثلة هنا: تحوّل أسماء الأسد في محنتها المَرَضية الثانية من سيدة الجحيم السوري إلى "الياسمينة الرقيقة" التي تثير التعاطف، وتحوّلت لونا الشبل إلى "القدّيسة الحسناء" بعد مقتلها في حادث سير، وهي التي سخرت من آلام السوريين بانضوائها النَشِط، سياسياً وإعلامياً، في دعم نظامٍ مجرم. على التوازي جرى اغتيال علي مملوك "سياسياً" بعد تعيينه مستشاراً أمنياً للأسد، وهو رجل الظلّ وعرّاب الصفقات السريّة، وتمّ أيضاً إعفاء فيصل المقداد من منصبه، وزيراً للخارجية السورية والمغتربين، وتسميته نائباً لرئيس الجمهورية، في خطوةٍ اعتبرت إيعازاً بتجميده. صُفّيا رغم أنهما من أوفى رجالات النظام! أضف إلى ما سبق مفارقة أخرى، اعتقال الناشط بشار برهوم، الموالي الشرس للنظام، لاعتباره إيران العدو "الأول" لبلاده وليس إسرائيل.
يستيقظ السوريون المتعبون كلّ يوم لمواجهة كُبرى المفارقات والمهازل العجائبية، فلا شيء يمكن تجاهله، ولا واقعة عادية خالية من المعنى، وأشدّ الحوادث "هرجاً ومرجاً" أكثرها خطورة. بالطبع، هي وسيلة النظام الخبيثة للتعمية على حقيقة ما يجري في سورية، التي يحكمها كائن سايكوباتي لم يفعل شيئاً يُذكر سوى "عصرنة" استبداد أبيه، وجعله أكثر إثارة ودموية.
نافل القول... عام آخر يمرّ، والمشهد المأساوي، الذي ورثه الابن وعضّ عليه بالنواجذ متفاخراً، يزداد سوداوية وتأزّماً، لكن هذا لا ينبغي أن يُضلّلنا عن حقيقة أنّ الطغاة يشبهون مع الوقت ضحاياهم، كما يشبهون مهازلهم. وعليه، سيتحوّل بشّار الأسد يوماً ما إلى ذكرى طاغية بملامح مهرّج، سيتذكّره السوريون دائماً على أنه سفّاح "المهازل" الذي ذهب مع الريح، ولم يعد.