الرئيسة \  تقارير  \  سورية الانتقالية والتحدّيات المتشابكة

سورية الانتقالية والتحدّيات المتشابكة

05.02.2025
طارق عزيزة



سورية الانتقالية والتحدّيات المتشابكة
طارق عزيزة
العربي الجديد
الثلاثاء 4/2/2025
بعد أقلّ من شهرين على هروب الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وانهيار نظامه، بدأت المرحلة الانتقالية في سورية رسمياً، بإعلان إدارة العمليات العسكرية إلغاء دستور 2012، وحلّ مجلس الشعب والجيش وأجهزة الأمن والمخابرات، وتنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً بصلاحياتش واسعة غير محدّدة.
أثارت الطريقة التي اتُّخِذت بها هذه الإجراءات جدلاً واسعاً في أوساط السوريين، بين معترضين على صحّتها من الناحيتين القانونية والشكلية، ومرحبّين بها على أساس "الشرعية الثورية"، وما بينهما من الذين يثير شكوكهم تاريخ الشخصيات التي تصدّرت المشهد، وخلفياتهم الأيديولوجية، وما ظهر من استئثار الفصائل العسكرية، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام بالقرار، بعيداً عن أيّ شكل من المشاركة أو التشاور الجدّي مع هيئات المعارضة السورية المختلفة.
وبصرف النظر عن ملابسات ما سبق، والموقف منه، الحقيقة التي على الجميع التعامل معها أنّ رحلة وضع أسس الدولة السورية ما بعد زمن الخراب الأسدي المديد انطلقت، وستكون الأشهر المقبلة حاسمةً وبالغةَ الخطورة، لأنّ ما تحمله من أحداث وقرارات تحدّد الوجهة التي ستمضي فيها البلاد، أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ومهما كانت الاعتراضات والتحفّظات على أحمد الشرع، والقوى العسكرية التي نصّبته رئيساً، أو من هؤلاء على بقية الأطراف السياسية السورية، لا يمكن بغير نهج تشاركي جادّ وفاعل التعامل مع التحدّيات المهولة للتركة الثقيلة، والكوارث، التي خلّفها الأسد الهارب.
لا يمكن بغير نهج تشاركي جادّ وفاعل التعامل مع التحدّيات المهولة للتركة الثقيلة، والكوارث، التي خلّفها الأسد الهارب
يصعب حصر الملفّات والأولويات التي على قيادة المرحلة الانتقالية معالجتها. ثمّة خطوات سياسية وتشريعية تعهّد بها الشرع في خطابه للشعب السوري، من تشكيل لجنة تُعيّن مجلساً تشريعياً مصغّراً، وأخرى تحضيرية مهمتها الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني، وصولاً إلى إصدار إعلان دستوري مؤقّت. وفي الأثناء، ما زال ملايين اللاجئين والنازحين السوريين عاجزين عن العودة إلى قراهم وبلداتهم وأحيائهم المهدّمة، وعشرات ألوف العائلات تنتظر الكشف عن مصير ذويها المفقودين في سجون ومعتقلات النظام البائد، ومحاسبة المسؤولين عما جرى لهم. ومع الفراغ الدستوري الحاصل، من غير الواضح ما ستكون عليه أحوال الحرّيات الشخصية والعامّة، وحرّية الإعلام والرأي والتعبير، في ظلّ غياب أيّ إشارة إلى الديمقراطية والتعدّدية السياسية في خطاب الشرع. ولا يمكن إغفال مخاطر الخطوات العدوانية التوسّعية لقوات الاحتلال الإسرائيلي بعد 8 ديسمبر (2024).
ومع ذلك، تبدو مسألتا الأمن والاقتصاد الهاجسَ المؤرّق الأكثر إلحاحاً لدى السوريين كافّة. ينقسم الملف الأمني إلى شقّين: أوّلهما عسكري مرتبط بمعالجة الحالة القائمة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، بصورة تجنّب البلاد المنهكة مغبّة الانزلاق في دوامة عنف جديدة هي في غنىً عنها، وبنجاح عملية حلّ الفصائل ودمج عناصرها وقياداتها ضمن مؤسّسة عسكرية وطنية، وهي مسألة أعقد من مجرّد قرارات وإجراءات تنظيمية وهيكلية. فالفصائل العسكرية، وإن انتمى معظمها إلى الطيف الإسلامي عموماً، ليست على منهج واحد في مرجعياتها، ولا في درجة الاعتدال أو التشدّد، كما أنّ ظروف تشكّلها وعملها خلال الثورة والحرب تختلف، بمثل اختلاف ارتباطاتها بهذه أو تلك من الجهات الخارجية الراعية والداعمة. وهناك آلاف الضبّاط والعسكريين المنشقّين خارج فصائل المعارضة، لم يتّضح بعد كيف ستُعالَج أوضاعهم. وفوق هذا، ما هو مصير عناصر الجيش والشرطة السابقين ممّن أجروا التسويات أصولاً، ولم يشاركوا في جرائم وانتهاكات ضدّ الشعب السوري؟
يرتبط الشقّ الثاني من الملف الأمني بالأمان المجتمعي، ويتفرّع منه جانب جنائي عادي، مناطه حماية الأفراد والممتلكات العامّة والخاصّة من الاعتداءات والسرقات، وهذا يتطلّب الإسراع في سدّ الفراغ الأمني الناجم عن حلّ أجهزة الشرطة السابقة. والجانب الأكثر صعوبةً يتعلّق بمساعي السلم الأهلي، لمنع ارتكاب جرائم وانتهاكات وممارسات خارج القانون بدافع الانتقام، وهذا لا يتحقّق من دون شروع السلطة الجديدة بمسار واضح للعدالة الانتقالية، يضمن محاسبة المتورّطين في جرائم بحقّ السوريين، وفق مسار قضائي يؤسّس لسيادة القانون، بالتكامل مع بقية إجراءات العدالة الانتقالية، كجبر الضرر وإحياء الذكرى والمصالحة.
يتطلّب التعامل مع المسائل المعقّدة خبراتٍ عسكريةً وسياسيةً وقانونيةً واقتصاديةً كبيرةً، كمّاً ونوعاً
لا يقلّ الملف الاقتصادي تشابكاً وتعقيداً، ويمكن تقسيمه بين مستويَين أساسَين، الأول إسعافي مباشر موضوعه تحسين الأوضاع المعيشية، من خلال العمل على زيادة الأجور، وتوفير السلع والخدمات الأساسية بأسعار تتناسب مع الدخل. والمستوى الآخر أكثر شمولاً وتفصيلاً، يركّز على تأهيل البنى التحتية وتأمين المواد اللازمة لتحريك عجلة الإنتاج في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية. من المتوقّع أنّ المساعدات العربية والقرارات الأوروبية الأخيرة في شأن رفع العقوبات عن سورية ستساعد الحكومةَ في تجاوز التحدّيات العاجلة للمستوى الأول، وتساهم في تسريع البدء بالشقّ الثاني، الذي يندرج ضمن خطط إعادة الإعمار.
يتطلّب التعامل مع هذه المسائل المعقّدة خبراتٍ عسكريةً وسياسيةً وقانونيةً واقتصاديةً كبيرةً، كمّاً ونوعاً، ولن يكون بمقدور السلطة الانتقالية توفير الأطر اللازمة لها إذا اكتفت بمعايير الولاء والمصلحة الحزبية والفئوية. هذا يعني ألا تبقى دعوة الشرع جميعَ السوريين للمساهمة في بناء المستقبل شعاراً خطابياً، وتُترجَم عملياً من خلال هياكل حكم سياسية وإدارية تشاركية، تكون عماد دولة حديثة، تليق بتضحيات الشعب السوري وتطلّعاته.