الرئيسة \  تقارير  \  سوريا .. صراع الإرادات وأفق المآلات

سوريا .. صراع الإرادات وأفق المآلات

08.05.2025
مصطفى إبراهيم المصطفى



سوريا .. صراع الإرادات وأفق المآلات
مصطفى إبراهيم المصطفى
سوريا تي في
الاربعاء 7/5/2025
ما إن تراجع زخم الاحتفالات الهستيرية للشعب السوري التي كانت بحجم الحدث حتى بدأت بوادر الاختلاف بينهم تطفو على السطح، ورويدا رويدا بدأ الخلاف يتحول إلى صراع اتخذ منحى تصاعديا وتجلى بعدة أشكال؛ تراوحت بين العصيان والمماطلة والعنف الدامي الذي رافق أحداث الساحل ومناطق أخرى في ريف دمشق، وفي أحسن الأحوال اتخذ الصراع طابع التذمر الخفي والمعلن، لكن العنوان العريض الذي تجتمع تحت سقفه كل أشكال الصراع هذه هو انعدام الثقة.
وهكذا، بين عشية وضحاها انقلبت مشاعر الفرح عند السوريين إلى مشاعر يختلط فيها الشك والقهر والتوجس والخوف والغضب والتشاؤم والتفاؤل الحذر. وباختصار شديد: انحسرت موجة الأفراح عن بيئة سمتها الأساسية هي عدم اليقين، فماذا يريد السوريون؟ وإلى أين يمكن أن يصلون؟
ترجع القصة السورية إلى زمن الاستعمار الفرنسي الذي غادر البلاد قبل أن تصبح فكرة الدولة الحديثة التي قد استوطنت في ثقافة السوريين. لذلك، لم يدم هذا الأنموذج طويلا ليسقط ويحل محله الحكم الجبري القائم على الغلبة، والأكثر تماشيا مع ثقافة الشرق. ورغم ذلك، لا يمكن القول إن ما أحدثه الاستعمار الفرنسي في تركيبة الدولة السورية قد زال، فالاستعمار الفرنسي كان قد أدخل الكثير من أبناء الطوائف السورية التي يسمونها الأقليات في مؤسسات الدولة وخصوصا الجيش، وهذا الأمر بمعنى من المعاني هو تمثيل لهذه الطوائف ضمن مؤسسات الدولة السيادية، والحديث هنا عبارة عن وصف للحالة يتحاشى أحكام القيمة (سلبي – إيجابي). هذا التمثيل بقي مستمرا في ظل حكم العسكر، بل تعاظم نفوذ بعض هؤلاء لدرجة أنهم أصبحوا المتحكم بمفاصل الدولة – إلى حد ما - من خلف الستار، ولعل هذه الحالة هي الأمثل لأبناء الأقليات، وربما هي الحالة التي أصبحت مطلبا للأقليات اليوم، إذ يمكن الاستخلاص من ثنايا ما تتفوه به بعض النخب الأقلوية أن الحل المقبول للعيش المشترك؛ هو العودة بسوريا إلى عهد ما قبل حافظ الأسد، وإلا فنظام سياسي مهلهل وضعيف.
الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية، وأنظمة الطغيان ليست في نفس المرتبة من القسوة والتعسف.
حافظ الأسد خرب كل شيء
دفع الشعور بفائض القوة مع الاستهتار بقوة الأغلبية حافظ الأسد إلى نسف تلك المعادلة، والقفز مباشرة إلى سدة الحكم، واستبدال الواجهة في رأس الهرم بواجهات أخرى أقل شأنا (وزارات – رؤساء برلمان). وكان حافظ الأسد قد استفاد من خبرات الانقلابيين الذين سبقوه، فتلافى كل أخطائهم وقبض على السلطة بأسلوب "ستاليتي" تصعب زحزحته، إلا أنه بعد الجرائم التي ارتكبها نظامه أثناء الثمانينيات كشر عن أنيابه كزعيم مجرم يقود نظاما طائفيا مقيتا، وهكذا بعد أن ورط طائفته بارتكاب المجازر وضعهم أمام معادلة: إما أن نحكم للأبد أو نباد. ومن حينها بدأ نظام الأسد العمل على هذا الأساس. وتحت وطأة ما يمكن أن نسميه بفوبيا الأكثرية كان نظام الأسد مضطرا لحرب استباقية على الشعب؛ لم يترك فيها أسلوبا من أساليب الإرهاب وكسر الإرادة إلا واستخدمه. لكن الأسوأ من ذلك كله؛ أنه لجأ لأساليب الاستعمار معتمدا استراتيجية "فرق تسد" بأسلوب فيه المزيد من المبالغة، ويعتقد أن الشروخ والضغينة التي اصطنعها نظام الأسد بين السوريين على مدى سنوات حكمه أصبحت اليوم عائقا أساسيا أمام إمكانية تلاقي السوريين من جديد، أو إعادة بناء الثقة المفقودة فيما بينهم.
(ملاحظة: القول بأن نظام الأسد كان طائفيا لا يعني أبدا أن كل طائفته كانت متورطة بالجرائم التي ارتكبها الأب والابن)
خنق الثورات المضادة
في مقابل "فوبيا الأكثرية" التي كان النظام السوري البائد يعاني منها، يخطئ من يعتقد أن "فوبيا الأقلية" لدى الأكثرية أقل حدة؛ لكنها بكل تأكيد لا يمكن أن تترجم بنفس الطريقة من الإجرام، فالأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية، وأنظمة الطغيان ليست في نفس المرتبة من القسوة والتعسف، وربما أصبح من المؤكد لدى أغلبية السوريين أن أسوأ أشكال الاستبداد بالسلطة هو ذاك الشكل المرتبط باستبداد الأقلية. ترجمت هذه الفوبيا بردود فعل حادة تجاه أي تحرك يندرج في إطار الثورة المضادة، وعلى مستوى القيادة؛ يذكر الإعلامي أحمد منصور في حديثه عن الرئيس أحمد الشرع وقيادة هيئة تحرير الشام (قبل الوصول إلى السلطة) ما مفاده أن القيادة درست الثورات المضادة بتعمق شديد، ووضعت الحلول لإغلاق الأبواب والنوافذ في وجه أي شكل من أشكال الثورة المضادة، وعلى ما يبدو؛ فإن هذه الإجراءات طبقت – بالفعل - بعد سقوط نظام الإجرام. وهو ما ولد شعورا لدى الأقليات - لأول مرة في تاريخ سوريا المعاصر - أنها فقدت مراكزها المؤثرة في مفاصل الدولة، خصوصا بعد الإعلان عن تسريح الجيش وتسريح العاملين في المؤسسات الأمنية، وهذا بدوره أدى إلى شعور بالاختناق ترجم بردود أفعال يغلب عليها الطابع الانفعالي.
قد ينخدع المراقب عن بعد ويعتقد أن جميع السوريين منخرطون في موقعة صراع الإرادات هذه، لكن الحقيقة غير ذلك، فمن دون أدنى شك هناك أغلبية ساحقة مشغولة بصراع من نوع آخر؛ صراع مع لقمة العيش.
ملامح التوافق السوري
هناك طرفة قديمة تقول: "ما الجمل سوى حصان سباق صممته لجنة". والنقطة الجادة خلف هذه الطرفة هي أن الجماعات – نتيجة لتشتت السلطة فيها، أو توزع القوة بين أعضائها – تضطر إلى إجراء تسويات بغرض الوصول إلى موقف يجمع عليه الجميع.
من هنا، يستطيع المراقب بتمعن أن يستنتج أن السوريين فيما لو اجتمعوا لإنتاج نظام توافقي، وفي ظل الرؤى المتباينة وهواجس فقدان الثقة بالآخر، لن يستطيعوا إلا إنتاج نظام سياسي يقتبس معظم ملامحه من النظامين العراقي واللبناني؛ فالمطالب توحي بذلك، وتشابه الثقافات مع تشابه التركيبة السكانية توحي بذلك. وفي هذا الصدد يقول أحد السوريين: لست متفائلا أبدا. سبق لي أن سمعت لبنانيين وعراقيين يغبطون الشعوب العربية الأخرى على أنظمتها، إلا أنني لم يسبق لي أن سمعت أو شاهدت مواطنا عربيا واحدا يغبط شعوب هاتين الدولتين على أنظمتهما السياسية المهلهلة، ولا أعتقد أننا في ظل هذه البيئة قادرون على إنتاج ما هو أفضل. بمعنى آخر، هناك من يتخوف أن يصمم السوريون – بالتوافق - جملا معتقدين أنه حصان سباق.
قد ينخدع المراقب عن بعد ويعتقد أن جميع السوريين منخرطون في موقعة صراع الإرادات هذه، لكن الحقيقة غير ذلك، فمن دون أدنى شك هناك أغلبية ساحقة مشغولة بصراع من نوع آخر؛ صراع مع لقمة العيش؛ مطلبهم الوحيد فيما لو سألتهم هو الأمن والاستقرار ولقمة العيش؛ فهؤلاء نتيجة فقرهم المدقع يرهبون محيطهم ولا تراودهم رغبة في التغيير.
في كتابه أصول النظام السياسي ينقل هنتغتون عن والترليبمان قوله: "ما من حاجة – بالنسبة إلى الذين يعيشون جماعات – أشد إلحاحا من أن يكونوا محكومين: بحكم ذاتي إذا أمكن، بحكم جيد إذا كانوا محظوظين، لكن أن يكونوا محكومين على أي حال".
والأبلغ من ذلك... هو تعليق هنتغتون على هذه المقولة، حيث قال: "كتب السيد ليبمان هذه الكلمات في لحظة يأس من الولايات المتحدة". فاليأس من إصلاح السلطة السياسية – أو صلاحها – هو الذي يدفع الناس إلى قبول أي نوع من السلطة ولو كانت استبدادية جائرة.