سوريا : المحاسبة كوسيلة للتعافي!
08.01.2025
عبدالوهاب عزاوي
سوريا : المحاسبة كوسيلة للتعافي!
عبدالوهاب عزاوي
القدس العربي
الثلاثاء 7/1/2025
بعد سقوط الديكتاتور باتت المحاسبة مطلباً أساسياً في المجتمع ولعلها أهم جزء في المصالحة المجتمعية، كيلا تتحول المصالحة إلى طمس لحقوق الضحايا، والهدف هنا لا يقتصر على العدالة فقط، وإنما تمثل المحاسبة فرصة لتجنب إعادة نفس الأخطاء في المستقبل، وقد تكون الطريق الذي يعلّم الأجيال القادمة قيم المواطنة والحرية والديمقراطية وحرمة الدم السوري. المحاسبة في سياقها التاريخي تمتلك طيفاً واسعاً يبدأ في الانتقام المشتهى لتبريد قلوب مكلومة كما حصل في الثورة الفرنسية الذي أدى لاحقاً إلى إعدام بعض قياداتها، وصولاً إلى اعتبارها فرصة هائلة لتكريس حقوق الإنسان كمفهوم متجذر في المجتمع. وهنا يبرز سؤال مهم ما هو شكل المحاسبة المطلوبة في سوريا؟ ولعل قراءة تجارب الآخرين تسهم في الإجابة وتقديم تصور أولي عن آلية تنفيذها، ولعل أهم تلك التجارب هو ما حدث في رواندا بعد نهاية الحرب الأهلية الأكثر دموية في التاريخ الحديث حيث قتل 800 ألف إنسان أغلبهم من التوتسي على يد الهوتو في حدود المئة يوم، هناك اختلافات واضحة عن الشرط السوري في شكل الحرب الأهلية وعدم وجود طوائف أو اختلافات في الأديان وشكل التدخل الخارجي وعادات المجتمع، ولكن الجوهر يظل ذاته. فكرة المحاسبة كانت مركزية بعد انتصار التوتسي على الهوتو، وتم تقدير الحاجة إلى قرن كامل لإنهاء المحاكمات للمجرمين من الهوتو بالشكل التقليدي للمحاكمات مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدد سكان رواندا بحدود العشرة ملايين نسمة في وقتها. مئة عام لن يبقى الجميع فيها أحياء، زمن يفوق المنطق والقدرة على التطبيق، مما أدى إلى ابتداع حلول أخرى لاستثمار المحاسبة كوسيلة لتعافي المجتمع لا دخوله في دوامة جديدة من العنف. هل كان الحل في رواندا في إعدامات عشوائية؟ أو نفي وتهجير من البلاد؟ أو اللجوء لمحاكمات بيروقراطية تذكرنا بالمحاكمات الماراثونية لسلوبودان ميلوسوفيتش مثلاً والتي استمرت أربع سنوات مات فيها أو انتحر قبل الوصول إلى النطق بالحكم، محاكمات تبدو غير منطقية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عناصر المخابرات في سوريا وحدهم يصل حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى 120 ألف عنصر. أم البديل هو محاكمات عسكرية صورية كالتي أنشأها نظام الأسد لإعدام السجناء في السجون تقوم بإطلاق الأحكام قبل ذكر اسم المتهم؟ ولعل السؤال الأهم في التجربة الرواندية كان، ما هو شكل العقوبات التي يريد المجتمع إطلاقها؟ إعدامات أم سجن مؤبد أم خيارات استثمار القدرة البشرية لهؤلاء المجرمين في إعمار البلاد، وهنا يأتي الخيار الأهم الذي اتخذته رواندا لتحويل هذه الكتلة البشرية إلى عمالة تفيد المجتمع مع برامج إعادة تأهيل وإصلاح، والبداية في إنشاء محاكم المجتمع المحلي “الجاكاكا” التي قسمت المتهمين لمجرمين من القيادات محكوم عليهم بالمؤبد بسبب إلغاء الحكم بالإعدام في رواندا، وصولاً للمتهمين الأقل شاناً عبر مكاشفات علنية واعترافات تتيح للمجتمع المشاركة بعيداً عن التشفي والانتقام ثم إيجاد طيف من الأحكام بالسجن لفترات غير طويلة مع خدمة مجتمعية أو غرامات مع خدمة مجتمعية بشرط قبول الضحايا بالاعتذارات العلنية.
في سوريا نواجه نفس الأسئلة مع صعوبات إضافية بسبب التمايز الطائفي والقومي، مع خطر دائم لعودة الحرب الأهلية وتدخل دولي يشجع على التقسيم الطائفي
تم إنشاء ما يقارب 11000 محكمة لتبت فيما يزيد عن مليون قضية خارج النظام القضائي التقليدي، هذه المحاكم كانت فرصة للتعافي والشفاء في المجتمع، والأهم إنها تمت في توافق مجتمعي في إطار المصالحة لا الانتقام، المصالحة التي تضمن التذكر ومواجهة الضحايا بالمجرمين أمام المجتمع كله، تلك النظرة التي ستدخل في أرواح الجميع ليتذكروا هول ما حدث، المصالحة هنا تضمن عدم النسيان. في رواندا حصل ما يقارب 15000 حالة اغتصاب حسب التقارير مع العديد من حالات الحمل، هذا لم يكسر النساء بل دفعهن للمشاركة بكثافة في إعادة الإعمار وصولاً إلى أكثر من نصف مقاعد مجلس النواب في بلد شهد نهضة اقتصادية سريعة في وقت قصير نسبياً. في سوريا نواجه نفس الأسئلة مع صعوبات إضافية بسبب التمايز الطائفي والقومي، مع خطر دائم لعودة الحرب الأهلية وتدخل دولي يشجع على التقسيم الطائفي كما حصل في العراق ولبنان. في سوريا وبسبب إزمان الصراع وتدخل جيوش خارجية فيه تغدو المصالحة أكثر صعوبة وأكثر إلحاحاً. هل سندخل في حربٍ أهلية بين الأكراد والعرب إرضاءً لتركيا؟ هل ستحصل حرب بين السنة والعلويين بدعم إيراني عراقي شيعي؟ هل سندخل في حكم ديني يقسم الناس لطوائف ودرجات؟ هل سيكون الانتقام أساس المحاسبة وباب تشكيل مظلوميات جديدة للعودة إلى العنف. نحن أمام فرصة تاريخية لبناء بلد لكل مواطنيه خارج التقسيمات العمودية للمجتمع، هل يمكننا أن نتخيل ولو مجازاً عشرات الآلاف من المجرمين يعملون على إزالة الأنقاض من المدن المهدمة، ويعيدون بناء بيوت الناس التي قتلوا وهجروا أبناءها؟! متذكرين أن ألمانيا احتاجت لما يقارب عقداً من الزمن للانتهاء من إزالة الأنقاض بعد الحرب العالمية الثانية على يد “نساء الأنقاض” كما تمت تسميتهن آنذاك. هل هو حلمٌ بعيد المنال أن تكون المحاسبة وسيلة للتعافي؟!