ديمومة “الثورية” وتآكل الدولة: سوريا نموذجا
10.05.2025
مصطفى الخليل
ديمومة “الثورية” وتآكل الدولة: سوريا نموذجا
مصطفى الخليل
القدس العربي
الخميس 8/5/2025
لا شيء أكثر إثارة للأسى من أن ترى شعبا يثور من أجل الحرية، ثم يتعثر عند عتبة الدولة، متخبطا عند العبور من الهدم إلى البناء. في سوريا، كما في غيرها، انطلقت الثورة محمولة على وعد أخلاقي نبيل، العدالة والكرامة وإنهاء الاستبداد. غير أن هذا الوعد، الذي بدا في لحظة ما قريبا من التحقق، تهاوى تدريجيا تحت وطأة الشعارات المطلقة، وغياب رؤية انتقالية تنطلق من حاجات المجتمع بأسره، لا من تصورات الفئة الثورية وحدها.
مع نهاية عام 2024، سقط نظام بشار الأسد أخيرا، تحت وطأة ضغوط متراكمة لم تكن كلها داخلية، بل ساهمت فيها عوامل إقليمية ودولية، ومع أن كثيرين احتفلوا بذلك السقوط، بوصفه انتصارا تاريخيا، إلا أن من عاش التجربة عن كثب يعرف أن إسقاط النظام لم يكن سوى نصف المعركة، بل ربما أقل. السقوط كشف، لا محالة، عن خواء عميق في البنية البديلة؛ حيث لم تكن هناك دولة تنتظر في الظل، بل كانت هناك حالة ثورية متورمة بلا مشروع تأسيسي واضح المعالم.
فمع تفكك النظام، لم تنهض سلطة بديلة جامعة، بل تناثرت الأرض السورية إلى سلطات محلية متنافسة، وحكومات ظل، وأمراء حرب، ولكل طرف “ثورته” الخاصة، التي يدّعي أنها الأحق بالبقاء. هنا، وقعت سوريا في ما يشبه الحالة الفرنسية عقب ثورة 1789، حين سقط الملك لويس السادس عشر، لكن الثورة لم تنتهِ، بل تحولت إلى دوامة من التصفيات الدموية والصراعات الداخلية، في ما سُمّي لاحقا بـ”عهد الإرهاب”. كان من المفترض أن تولد الجمهورية من رحم الثورة، فإذا بها تلد الإمبراطور نابليون، الذي أعاد إنتاج السلطة المطلقة بثوب جديد. المفارقة أن التاريخ قدّم لنا أكثر من درس واضح؛ روسيا بعد 1917، الصومال بعد 1991، ليبيا بعد 2011… في كل مرة يُهدم النظام، لكن الدولة لا تُبنى، فيسود الفشل، ويعلو صوت السلاح فوق صوت القانون. يتكرر المشهد ذاته كأنه لعنة لا تُغتفر: تسقط الأنظمة، لكن لا تقوم جمهوريات.
في كل مرة يُهدم النظام، لكن الدولة لا تُبنى، فيسود الفشل، ويعلو صوت السلاح فوق صوت القانون. يتكرر المشهد ذاته كأنه لعنة لا تُغتفر: تسقط الأنظمة، لكن لا تقوم جمهوريات
هذا الفراغ التاريخي، الذي لا يشبه لحظة سقوط أنظمة أخرى في المنطقة، يُمثّل اليوم التحدي الأكبر للسوريين، ولأيّ مشروع وطني جامع. فقد تبيّن أن إسقاط النظام، على ما فيه من رمزية، لا يعني تلقائيا ولادة الدولة. فاللحظة الثورية التي وُلدت عام 2011 بقيت عالقة في الزمن، من دون أن تتحول إلى لحظة تأسيسية لعقد اجتماعي جديد ينهض بالدولة والمجتمع. وقد أدرك فلاسفة ومفكرون هذه الدينامية القاتلة مبكرا، إدموند بيرك، في نقده الشهير للثورة الفرنسية، حذّر من الثورة التي تطيح بالمؤسسات، من دون أن تُقيم على أنقاضها مؤسسات بديلة راسخة، حنة أرندت بدورها ميّزت بين “التحرر من الطغيان” و”القدرة على تأسيس نظام جديد”، مؤكدة أن الثورة لا تكتمل إلا حين تنتهي بوضع دستور وعقد اجتماعي جديد، أما ألكسيس دو توكفيل، فكان أكثر واقعية حين قال، إن الفشل في الانتقال السريع إلى مؤسسات بديلة سيقود حتما إلى الراديكالية، ومنها إلى الفوضى، ثم إلى ظهور سلطوية جديدة تسدّ الفراغ. ومع كل التحذيرات التي طرحتها تجارب التاريخ، يبدو أن بعض الثورات ـ وفي مقدمتها السورية ـ مصمّمة على إعادة إنتاج المأساة ذاتها، من دون استخلاص العبر. فبدل أن تتحول الثورة إلى لحظة تأسيسية لبناء دولة جديدة، استحكمت فيها الحالة الثورية، كأنها هدفٌ نهائي لا وسيلة انتقال، فالمنصات التي برزت في المشهد، بعد سقوط الأسد، واصلت خطابها بلغة الغضب والتجييش، رافضة التحول إلى مشروع سياسي يُفضي إلى استقرار وحكم رشيد، متذرعة بالخوف من “التفريط بالثوابت”. وهكذا، بقيت الشعارات معلقة، فيما تراجعت تطلعات الناس إلى أبسط مقومات الحياة: الأمن، الخبز، والكهرباء.
إن الإصرار على البقاء في الحالة الثورية هو ما يُفرغ الثورة من مضمونها النبيل، فالثورة، في جوهرها، هي وسيلة لا غاية.. هي شرارة تفتح الباب أمام مشروع تأسيسي، فإذا بقيت مشتعلة بلا اتجاه، فإنها تحرق الأخضر واليابس، وتقتل ما قامت لأجله. اليوم، وبينما تحاول الحكومة السورية الجديدة لملمة الأشلاء، وبناء مؤسسات الدولة، تقف على حافة مفترق طرق حساس، أيّ انزلاق جديد إلى منطق الثورة الدائمة قد يُعيد البلاد إلى المربع الأول، ويُجهض كل ما تحقق، فلا يكفي سقوط النظام إذا لم يسقط معه منطق “الرفض لكل شيء”، وإذا لم يحلّ مكانه منطق بناء عقلاني، يحترم التعددية، ويؤسس لعقد اجتماعي جامع.
لا تنبع دعوة نقد التجربة السورية من رغبة في تبرئة الاستبداد، أو تبييض صفحة الماضي، بل من حاجة ملحّة إلى تفكيك سردية اختزالية طالما حصرت الثورة في لحظة السقوط، متناسية أن التحدي الأكبر يبدأ في اليوم التالي، ذلك اليوم الذي لا يُدار بالشعارات ولا بالغضب، بل بعقل سياسي هادئ قادر على التأسيس لا الهدم فقط، فالثورة، في جوهرها، ليست مجرّد فعل رفض، بل مشروع بناء، يتطلب تصورا واضحا للدولة، لا اجترارا دائما للحظةِ الغضب. من لا يعي هذه الحقيقة، يغامر بإعادة إنتاج الكارثة بأسماء وشعارات جديدة، فهل نمتلك، أخيرا، شجاعة الاعتراف والبدء من جديد؟