الرئيسة \  تقارير  \  حكومة التكنوقراط في سوريا ما بعد الثورة : فرصة أم تحدٍّ؟

حكومة التكنوقراط في سوريا ما بعد الثورة : فرصة أم تحدٍّ؟

05.02.2025
نبراس إبراهيم



حكومة التكنوقراط في سوريا ما بعد الثورة : فرصة أم تحدٍّ؟
نبراس إبراهيم
سوريا تي في
الثلاثاء 4/2/2025
تتطلب المرحلة المقبلة في سوريا نموذجًا حكوميًا قادرًا على تجاوز تداعيات أكثر من أربعة عشر عامًا من الدمار والتشرذم السياسي والاقتصادي الذي خلفه النظام متعمدا. في هذا السياق، تبرز حكومة التكنوقراط كخيار استراتيجي يُمكن أن يعيد بناء الدولة، عبر إدارة تعتمد على الكفاءة والخبرة بعيدًا عن الاستقطابات الأيديولوجية. فهل يمكن لهذا النموذج أن يكون مفتاح الخلاص لسوريا في مرحلة بناء سوريا جديدة بعد انتصار الثورة التي قدم فيها السوريون الكثير؟ وما المعايير والمهام التي ينبغي أن تضطلع بها حكومة تكنوقراط حقيقية؟
لطالما لجأت الدول التي خرجت من نزاعات مدمرة إلى حكومات تكنوقراط لإدارة المرحلة الانتقالية، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والعراق عقب 2003، وإيطاليا خلال أزماتها الاقتصادية. هذه الحكومات، التي تعتمد على متخصصين غير مسيّسين، نجحت في إعادة ضبط مسار الدولة وإطلاق عجلة التنمية. في الحالة السورية، حيث تسببت الحرب في انهيار البنية التحتية، وانقسام المجتمع، وتراجع الاقتصاد إلى مستويات غير مسبوقة، تصبح الحاجة إلى حكومة تكنوقراطية أكثر إلحاحًا، لتكون بمنزلة جسر بين الفوضى والاستقرار.
ينبغي أن تتمتع الحكومة التكنوقراطية السورية بعدة خصائص أساسية، أبرزها الاستقلالية في القرار بحيث تكون غير خاضعة لأي تيار سياسي أو عسكري لضمان حيادها وفعاليتها في إدارة المرحلة الانتقالية. كما يجب اختيار شخصيات ذات خبرة عملية في قطاعات الاقتصاد والإدارة والقانون والإعمار، دون محاصصة حزبية أو طائفية. إضافة إلى ذلك، لا بد من منحها صلاحيات تنفيذية حقيقية بعيدًا عن التجاذبات السياسية التي قد تعطل عملها، مع ضمان تمثيل متوازن لجميع المكونات الاجتماعية والمناطقية، بما يعزز الوحدة الوطنية.
تقع على عاتق هذه الحكومة مهام جوهرية لإعادة بناء الدولة السورية، بدءًا من إعادة الإعمار وإنقاذ البنية التحتية عبر وضع خطة شاملة تعتمد على الأولويات والتمويل المتاح، وإعادة تشغيل المرافق الأساسية مثل الطاقة والمياه والمواصلات، والاستفادة من الشراكات الدولية دون المساس بالسيادة الوطنية. أما على الصعيد الاقتصادي، فيجب أن تعمل الحكومة على تحفيز الإنتاج المحلي، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وضبط الأسواق، وتعزيز قيمة العملة الوطنية، وإصلاح النظام المصرفي، فضلًا عن مكافحة الفساد والاحتكارات التي تعيق التعافي الاقتصادي.
فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية وإعادة اللحمة المجتمعية، يتوجب على الحكومة تبني سياسات عدالة انتقالية عادلة، ومعالجة آثار النزاع، وإعادة دمج النازحين واللاجئين ضمن برامج مستدامة، وإشراك المجتمع المدني في بناء عقد اجتماعي جديد. كما أن إصلاح مؤسسات الدولة يُعد ضرورة ملحة، بدءًا من إعادة هيكلة القضاء لضمان استقلاليته، وإصلاح الأجهزة الأمنية وفق معايير حقوق الإنسان، والتحضير لانتخابات شفافة تكرّس التعددية والديمقراطية.
يتطلب تشكيل حكومة تكنوقراط سورية فعالة آلية اختيار شفافة عبر لجنة مستقلة محلية ودولية لضمان النزاهة وعدم فرض شخصيات جدلية، إضافة إلى إطار قانوني يحمي استقلالها عبر منحها تفويضًا خاصًا يمكّنها من تنفيذ مهامها دون عوائق سياسية. كذلك، تحتاج هذه الحكومة إلى دعم إقليمي ودولي لمنع التدخلات الخارجية التي قد تُحبط جهودها، مع ضرورة تحديد جدول زمني واضح لعملها بحيث تكون حكومة انتقالية تمهد لتأسيس نظام ديمقراطي مستدام.
إن تشكيل حكومة تكنوقراط في سوريا ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية لا غنى عنها في مرحلة ما بعد النزاع، والدمار الممنهج الذي خلفه النظام البائد خلال فترة الثورة، وحتى العقود التي حكم فيها البلد. فالإدارة القائمة على الكفاءة لا يمكنها فقط إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل أيضًا وضع أسس جديدة للحكم الرشيد. لكن نجاح هذا النموذج يتوقف على التزام وطني ودولي بدعمه، وضمان استقلال قراراته بعيدًا عن الحسابات الضيقة. فهل يمكن للسوريين تجاوز خلافاتهم، وتوحيد جهودهم خلف مشروع إنقاذ وطني؟ الإجابة ستحدد مستقبل البلاد لعقود قادمة.