زهير سالم*
من الرواية الشفهية إلى التدوين.. فالتصنيف والتبويب.. قرنان تقريبا
تذكر: أن الأناجيل الأربعة : متى – ومرقس – ولوقا – ويوحنا لم تضم وتعتمد كنسيا ككتب مقدسة إلا في مطلع القرن الرابع للميلاد...
وتذكر بالمقابل أن القرآن الكريم دُون في حياة الرسول الكريم، وجمع الجمعة الأولى في عهد سيدنا أبي بكر، أي بعد وفاة رسول الله بنحو عام بمرجعية مزدوجة تجمع المدون إلى المحفوظ، ثم جُمع المسلمون عليه في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه..
وها أنا أفيدك من خلال هذا البحث الموثق أن السنة النبوية الشريفة، دونت تقريبا خلال مائة عام تقريبا ، وصنفت وبوبت خلال مائتي عام من وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ليكون جوابك حاضرا فترد على الناعقين بما يستحقون..
سنسير معا برفق، ونحن ندخل حديقة منظمة، وليس غابة مشتجرة. نسير في طريق رحلة علمية منهجية لاختبار "صحة نسبة قول إلى قائله" القول هو الحديث الشريف، والقائل هو سيدنا رسول الله، والباحثون عن الحقيقة هم طبقة من الرجال نسميهم "المحدثون" والرجال موضع البحث هم "الرواة".
ومعيار الدقة والحفظ في هذه الجولة هو معيار زمني محض، وهو يعزز المعايير الأخرى ولا يلغيها..
في غضون مائتي عام تقريبا من وفاة الرسول الكريم كانت جمهرة كتب السنة الصحاح والسنن والمسانيد، قد صنفت، ضبط بالعموم، حتى لا يخرج علي قولي خارج.
كانت الطبقة الأولى من الرواة هم صحابة رسول الله. وسواء جاء الحديث مرفوعا عن طريق واحد منهم، أو مرسلا بأن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وزمن، فإنه سيمر عبر هذه الطبقة من الرواة الذين قال الله تعالى فيهم (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) والحديث عن مكانة الصحابة ودورهم في رواية الحديث الشريف، ومكثريهم ومقليهم، سيكون له مقال خاص.، إن شاء الله.
ثم مرّت عملية تصنيف الحديث النبوي الشريف عموما بثلاث مراحل..
الأولى: مرحلة الرواية الشفهية:
وتشمل هذه المرحلة عموما عهد الصحابة، وسائر عهد التابعين. وكان المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أولا النهي أن يكتب عنه شيء غير القرآن "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"- صحيح مسلم- ولكن تضافرت الروايات، بعدُ أن هذا النهي كان وقتيا، وأن هذاالحديث منسوخ. وأن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب. وأنه كانت عنده صحيفة اسمها الصادقة، ولا يذهبن بنا الظن من قولنا صحيفة أنها كانت صفحة واحدة. وإنما نكاد نقول إنها كتاب، جمع فيها سيدنا عبد الله كثيرا من الأحاديث عن سيدنا رسول الله قدرها بعضهم بنحو ألف حديث. وأنها كان لها صندوق خاص يحفظها ويكرمها فيه. وكانت قرة عينه من حياته رضي الله عنه.
ومع ذلك فقد ظل المسلمون في الصدر الأول مترديين في تدوين العلم والأحاديث الشريفة، وظلوا مختلفين في ذلك. حتى حُسم الأمر وانتقل الناس من عهد الرواية الشفهية إلى عهد التدوين. ومن عهد التدوين إلى عهد التصنيف.
في عهد الصحابة رضوان الله عنهم، كان الصحابي رضي الله عنه يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حدوث واقعة، أو سؤال عن فتيا، أو مناسبة يحتاج فيها الناس إلى رأي شرعي.
ثم بدأت تتشكل في عهد التابعين وتابعيهم طبقة من المسلمين نذرت وقتها وجهدها، لحفظ السنة وتتبع الأحاديث الشريفة، من أفواه الرواة، وحفظها والعناية بها، كما نذرت وقتها وجهدها وتفكيرها لوضع أسس عامة للفقه الإسلامي. في العهد الأول كان بعض هؤلاء يمتلكون ناصية الرؤية الشرعية المتكاملة ، فهم يمتلكون قواعد الاستنباط من النصوص وفقه هذه العملية ،كما يمتلكون العلم بالقرآن نصوصه وتفسيره، والعلم بالسنة مع إحاطة شبه تامة، وهم يعيشون في عصر ما تزال فيه نصوص الشريعة غضة على لسان رواتها. وهؤلاء الذين سميناهم الأئمّة المجتهدين. بينما تفرغ فريق آخر من المسلمين – جزاهم الله خيرا- إلى تتبع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وجمعه، ولقاء من رواه، والأخذ عنه، وحرصهم على أن تكون مروياتهم أقرب ما يمكن من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما زاد هذا الأمر صعوبة تفرق جيل الصحابة في البلاد حرصا على الدعوة ونشر الإسلام بين الناس.
وفي هذا السياق سنسمع مصطلحين مهمين "الرحلة في طلب العلم" ثم فيما بعد، "السند العالي" .
وبلغ من عناية هذا الفريق من المتطوعين لحمل السنة الشريفة، أنهم إذا سمعوا أن في مصر من الأمصار راوية يروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم يشدون الرحال إليه فقط ليسمعوا منه ما عنده من روايات ويوثقوها. ولنتذكر أن السفر كان على الراحلة ، وفي الضح والقر والريح. بل كان أحدهم إذا تأتى له سماع الحديث في مصره، وعلم أن راوي الحديث الذي في مصره، قد رواه عن راوٍ آخر ما يزال حيا ولو في بلد بعيد، آثر أن يسافر إلى المصدر الأعلى، ليكون أقرب درجة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، محتسبا الأجر في رحلة قد تمتد أحيانا من البصرة أو الكوفة أو دمشق إلى اليمن، وينشد صاحبها جذلا مسرورا:
لابد من صنعا وإن طال السفر.
كان بعض هؤلاء الرواة يعتمد على ذاكرته وحفظه، وكانت ذاكرة الناس في تلك العصور أكثر قدرة وقوة. ومنهم من بدأ يعتمد على التدوين، يكتب ما يسمع من شيخه، فيما يشبه ما نسميه اليوم المذكرات الشخصية. فيكتب مروياته بسندها وطريقة سماعها عن الشيخ الذي يروي عنه بطريقة غاية في الإتقان، ثم إذا صار إلى حيث الأداء أي حيث يتحول التلميذ المتلقي إلى شيخٍ مؤدٍ كان يقرأ مروياته على الناس من كتاب، غير معتمد على الذاكرة..
وسيستمر الأمر على هذا الحال عقودا من الزمان قبل أن تظهر، فعقد بعد عقد تتكاثر المدونات الشخصية للرواة، التي تبقى شخصية، قبل أن تتحول إلى مصنفات علمية معتبرة، توضع بين أيدي كافة الناس.
لا أستطيع أن أحدد ما هو أول مصنف حديثي خرج للناس في صيغة كتاب منفصلا عن صاحبه. فقد ذكرت بعض العناوين لبعض التابعين وتابعيهم ولكن ليس لها وجود في أيدي الناس اليوم.
ولعل "الموطأ" للإمام مالك رحمه الله هو الأشهر في السابق بالظهور. وبه سنكون قد دخلنا عصر التصنيف الفعلي.
سأذكر لكم الآن بعض التواريخ المهمة . هي مهمة لأنها ستساعدنا على تحديد المسافة الزمنية التي استغرقها تصنيف الحديث الشريف وتقديمه للناس. موطأ الإمام مالك مثلا تم تصنيفه بالمشورة من أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي ( 136- 158 ) بطريقة وسطية نستطيع أن نؤكد أن موطأ الإمام مالك تم تصنيفه في منتصف القرن الثاني حوالي 150 هجرية، يجب أن نلحظ أنه كلما قرب المصنف من عهد الصحابة، قلت احتمالية الخطأ أو الخلل فيه. فقط بالاعتبار الزمني، فإذا أضفنا إلى الاعتبار الزمني، الضوابط الأخرى للتأكد من صحة المروي وثقنا أن رحلة الحديث الشريف إلينا ظلت محفوظة مأمونة، وأن لا معنى لما يقوله المشككون والمزيفون. في فترة زمنية محددة بقرنين من الزمان تقريبا، كانت مرويات الحديث الشريف قد جمعت ودونت وصنفت وبوبت، في مرحلة كانت الأمة فيها تعيش قرون الخيرية الأولى: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
كشاهد إثبات لكلامي أعلاه، وأن الحديث الشريف ظل محفوظا محاطا بالصون، رغم كثرة المحاولات سأضع بين أيديكم مرة أخرى سنوات وفاة الأئمة الستة الذين تعتبر مصنفاتهم جمهرة الأحاديث النبوي مع ما تقدم عليها من موطأ الإمام مالك فتأمل:
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري 194 - 256
الإمام مسلم بن الحجاج القشيري: 206 –261
الإمام محمد بن عيسى الترمذي: 209 – 279
الإمام محمد بن شعيب النسائي: 215 – 303
الإمام أبو دواد سليمان بن الأشعث الأزدي: 202 – 275
الإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني: 209 – 273
وأضيف مسند الإمام أحمد بن حنبل: 164 - 241
وفي الفترة نفسها تقريبا تم تصنيف أكثر المرويات الشريفة، بعد غربلتها ونخلها، كل إمام حسب طريقته ومنهجه أو كما يقولون حسب "شرطه" في مقدمة كتابه..
خلال قرنين من انتقال الرسول الكريم كانت الأحاديث النبوية قد جمعت ودونت وصنفت وبوبت – حسب أبواب الفقه- أو مناهج مصنفيها، ووضعت غضة طرية نقية بين أيدي المسلمين، وطلاب العلم منهم خاصة..
وسأختم بفكرة أخيرة مهمة هي الأخرى في تأكيد الثقة فيما روى لنا أئمة الحديث عن سيدنا رسول الله: كم كان بين مصنفي الحديث الذين نتحدث عنهم من رجال؟؟
في مصطلح المحدثين هناك عنوان لمرويات اسمها "الثلاثيات" فيكون بين المصنف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ثلاثة رواة. وفي مسند الإمام أحمد وكتب الصحاح نسبة واضحة من هذه المرويات. وأقصى ما وصل إليه سند البخاري رحمه الله تعالى تسعة رواة. وسائر صحيح البخاري يدور بين الأربعة والخمسة رواة، يكون الصحابي دائما واحدا منهم...
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا..
لندن: 9/ رمضان/ 1443
10/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي