الرئيسة \  تقارير  \  تطبيع سورية وإسرائيل ... الرحى تعرك السلام دائماً

تطبيع سورية وإسرائيل ... الرحى تعرك السلام دائماً

09.07.2025
سنان ساتيك



تطبيع سورية وإسرائيل ... الرحى تعرك السلام دائماً
سنان ساتيك
العربي الجديد
الثلاثاء 8/7/2025
بعد ثلاث سنوات تقريباً من صعود حافظ الأسد إلى رئاسة سورية وتخطيطه أن يكون الحاكم الأوحد إلى الأبد، ارتأى أن تعزيز ذلك لا بد أن يكون عبر إسرائيل، يتخذها جسراً للعبور عليه محققاً غاياته، فكانت حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 التي اقتات عليها الأسد حتى نهاية حكمه، مستعيداً أجزاء من هضبة الجولان المحتلة ومدينة القنيطرة، فبنى عقيدة بقي يرفل بها حتى وفاته في العام 2000، وبأنه محرر البلاد، ومردداً بأنه يريد استعادة الجولان المحتل بالكامل.
غرق حافظ الأسد في ثمانينيات القرن الماضي في صراعاته الداخلية مع جماعة الإخوان المسلمين، والعائلية مع شقيقه رفعت. وعندما استتب الأمر له حوّل أنظاره نحو لبنان، ودخل في حروبه الداخلية حتى استطاع فرض الوصاية السورية عليه. في تلك الفترة عاشت سورية عزلة دولية، وحصاراً اقتصادياً ضيّق الحياة على الناس وصارت المعيشة قاسية مضنية.
الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، رئيس المخاطر والمتاعب لحافظ الأسد وعدوه "الأيديولوجي-السياسي"، الموجود على حدوده الشرقية، أنقذه من عزلته الدولية ووضعه الهش، بعد غزوه الكويت في العام 1990. جاءت الفرصة بقدميها إلى حافظ الأسد الذي لا يضيّع لحظات كهذه، ويجيد التعامل مع اللحظات البراغماتية والتوازنات الدولية، فسرعان ما انخرط في التحالف الدولي لإخراج العراق من الكويت، ساعياً إلى إعادة إدماجه في المنظومة العالمية، تحديداً الأميركية. وهو ما كان عندما وصل إلى البيت الأبيض الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (1994) الذي بنى علاقة وثيقة مع الأسد، وسعى جاهداً إلى عقد سلام بين سورية وإسرائيل إتماماً لاتفاقي أوسلو عام 1993 ووادي عربة عام 1994.
مفاوضات شاقة بين سورية وإسرائيل
انخرطت دمشق في مفاوضات شاقة مع الإسرائيليين برعاية كلينتون، الذي خال أن السلام السوري الإسرائيلي سيطفئ نار المنطقة، حتى حصلت سورية على ما يعرف بـ"وديعة رابين" التي تعهد فيها رئيس وزراء الاحتلال الراحل إسحق رابين، بالانسحاب الكامل من الجولان والاتفاق مع الجانب السوري على تفاصيل أمنية وسياسية واقتصادية. فقد كان رابين يمنّي نفسه بإنجاز سلام مع سورية، يكمل به مشروعه في السلام مع "دول الطوق"، ويختتم به حياته السياسية، لكن اغتياله عام 1995 عطّل المفاوضات آنياً، إلى أن عادت في أواخر عهد حافظ الأسد، المريض والذي يهيئ الأجواء لتسليم ابنه بشار الرئاسة، بإصرار من كلينتون فكانت مفاوضات شيبردزتاون التي لم تصل إلى المرجو، بسبب الاختلاف على جزئيات حول بحيرة طبرية ومصادر المياه، وتنكر إسرائيل لـ"وديعة رابين"، فحاول كلينتون إعطاءها الأمل بلقاء الأسد في جنيف قبل وفاته في 10 يونيو/ حزيران 2000 بثلاثة أشهر.
أدرك الأسد الأب أن السلام مع إسرائيل القطعة المفقودة التي ستوفر له ضمان حكمه وتوريث ابنه
عقب استيعاب المنطقة عموماً، وسورية خصوصاً، تداعيات الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وسقوط نظام الرئيس صدام حسين، بدأ الطرفان السوري والإسرائيلي يتبادلان التصريحات عن استئناف المفاوضات من دون شروط. لكنها كانت تصطدم في سياقات مُجاورة توقفها في مكانها، كاغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري (2005) وحرب يوليو/ تموز (2006) والعدوان على غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008 والذي استمر 21 يوماً. ويقال إنه كان السبب في تراجع الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد عن لقاء مسؤولين إسرائيليين في تركيا بوساطة من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.
بقي السلام مع إسرائيل في عهد الأسدين كشعرة معاوية التي لا يريد الطرفان أن يقطعاها. الأسد الأب أدرك أنها القطعة المفقودة التي ستوفر له ضمان حكمه وتوريث ابنه، والأسد الابن جعلها عملاً يتقدم ويتأخر فيه بحسب المقتضيات والظروف الدولية، يرمي بها وقتما تتطلب مصلحته الشخصية، أو يسحبها عندما يوقن أن أوضاعه غير مهيأة ولا تتوفر له الظروف المنشودة.
توغل إسرائيل في جنوب سورية
اليوم، تتوغل إسرائيل في جنوب سورية، وتصل في مرات كثيرة إلى أماكن تبعد عن دمشق عشرات الكيلومترات فقط، تحتل أراضيَ وتثبت فيها نقاط ارتكاز وتدمر بيوت الأهالي وتعتقلهم وتقتلهم، محاولة تهجيرهم كي تتمكن من توسيع المنطقة العازلة بعد تخليها عن اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، مطالبة بأن يكون الجنوب السوري خالياً من السلاح ومن وجود الجيش السوري، عقب تدميرها القدرات العسكرية جميعها. وما تزال مستمرة في تحطيم البنى التحتية للقواعد التي ظل النظام السابق يبنيها 51 عاماً ليحاربها بها، فقد كان يكوّم الأسلحة ويقتطع من ميزانية الدولة ويفقر الشعب لـ"الدفاع عن البلاد ومهاجمة إسرائيل" التي عاشت هدوءاً على الجبهة مع سورية بعد حرب 1973، فذاك السلاح المخزن منذ عشرات السنين وجد طريقه للاستخدام ضد الشعب الذي خرج إلى الشوارع ربيع عام 2011.
ما انفك الرئيس السوري أحمد الشرع يدلي بتصريحات، منذ إسقاط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، بأن سورية لن تشكل تهديداً لأحد من جيرانها، فالقوة العسكرية مدمَّرة، والبلاد منهكة بلا موارد، حتى اعترف للمرة الأولى في 7 مايو/ أيار الماضي، رداً على مراسلة تلفزيون العربي، في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس، بأن بلاده تخوض محادثات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء بهدف تهدئة الأوضاع. وأضاف، في ردّه على سؤال المراسلة: "استقرار سورية يعني استقرار المنطقة وأوروبا والعالم أجمع"، مبيناً أن على إسرائيل "وقف تدخّلها في سورية". إذاً حمّل كثر الشرع ما لا يريد، فهو منذ وصوله إلى دمشق لم يدعِ المقاومة، ولن يكون خط الدفاع الأول ضد إسرائيل، وبأنه لن يستقر على الحدود يحاربها، فلا قدرات عسكرية متاحة ولا جيش مهيأ لذلك.
تتخذ السلطة السورية الحالية خطاباً سياسياً واقعياً براغماتياً، مستغنية عن الشعارات الثورية الرنانة. تتجه تحليلات عديدة إلى أن دمشق تسارع إلى تقديم تنازلات لتل أبيب أولاً وخلفها واشنطن، مبررة ذلك بأنه تجلى في رفع العقوبات الاقتصادية الذي تحقق سريعاً، وتواتر التصريحات الأميركية والإسرائيلية في الآونة الأخيرة بأنه يجب على سورية وإسرائيل الوصول إلى اتفاقية سلام. وتشير التحليلات إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يستنسخ تجربة بيل كلينتون في دفعه عملية السلام في الشرق الأوسط، ولا سيما أن ترامب بدأ ذلك في ولايته الأولى (2017-2021) بإدخال دول عربية عديدة في "اتفاقيات أبراهام" (التطبيع) كونه قادراً على التنفيذ، ويجعل الأقوال أفعالاً، وسعيه نحو جائزة نوبل للسلام واضح متجلٍّ، فهو ليس مهذاراً كما الشائع، بتغريدة يوقف حرباً ويشعل أخرى ويلقي أوامره على الملأ وما عليهم سوى التنفيذ.
ترداد التطبيع والسلام مع إسرائيل يجعل السوريين يألفونه ويتعايشون معه
الوقائع الحالية تظهر أن سورية تحث خطاها نحو التطبيع مع إسرائيل، فشاع أن التواصل أمسى مباشراً بتسريبات تأتي من هنا وهناك، والقيادة السورية لا تنفيها. إنها صامتة عن شرح ما ترمي إليه. ففي أواخر مايو الماضي، اكتفى قائد الأمن الداخلي في محافظة السويداء العميد أحمد الدالاتي بنفي مشاركته في مفاوضات مع إسرائيل، وقال إن هذه الادعاءات "تفتقد إلى الدقة والمصداقية". كان هذا النفي شخصياً، أي أن الدالاتي لم يشارك فيها، ولكن لم ينفها عموماً عن غيره، خصوصاً أن الشرع أكد وجود مشاورات في بدايات الشهر ذاته. أما في يونيو الماضي، فلم يمر يوم من دون ذكر لمحادثات ومشاورات سورية إسرائيلية، حتى أبدت إسرائيل، أواخر الشهر الماضي، "اهتمامها" بالتطبيع مع سورية ولبنان.
أي ثمن للسلام... وبأي آليات؟
بأي ثمن سيكون ذلك، وبأي آليات؟ يتردد إسرائيلياً أن أي سلام سيكون بلا الجولان، وسورية ترد بأن السلام لن يكون إلا بعودته. انطلقت المشاورات السورية الإسرائيلية عبر قنوات عدة، أذربيجانية وإماراتية وتركية، حتى شاع أن الاجتماعات صارت مباشرة بين الطرفين على مستوى رفيع، بحسب تسريبات إعلامية، وبأن الاتفاق سيكون قبل نهاية العام الحالي، لكن مصدراً رسمياً في الحكومة السورية علّق على تلك الأنباء لقناة "الإخبارية السورية"، في 2 يوليو/ تموز الحالي، بأن "التصريحات المتعلقة بتوقيع اتفاقية سلام مع الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الراهن سابقة لأوانها". وأشار المصدر إلى أنه "لا يمكن الحديث عن احتمالية التفاوض حول اتفاقيات جديدة إلا بعد التزام الاحتلال الكامل باتفاقية فك الاشتباك لعام 1974 وانسحابه من المناطق التي توغل فيها".
يبقى الكلام والكلام المضاد اختباراً وضغطاً من كل طرف على الآخر، لكن الواضح أن المناقشات محتدمة بين الضفتين، بإشراف عربي ودولي. أما السوريون فهم منهكون، بيوتهم خراب، متأزمون اقتصادياً، رأيهم الجمعي تفتت، فكأنهم يرون أن رحى الحرب تعرك السلام دائماً. يبتغي السوريون هنا صوتاً موحداً جامعاً يمسك بيدهم ويرسم لهم معالم يهتدون بها ويسيرون وفقها. إن ترداد التطبيع والسلام مع إسرائيل يجعل السوريين يألفونه ويتعايشون معه كأنه أمر واقع خِيط لهم وهم غير مسؤولين عنه، مكررين "بدنا نعيش"، إذ لا يريدون أن يكون تمكين الحكم واستمراريته بحرب يعيشون عليها سنوات أو اتفاق سلام يحسبون أنه النهاية.