الرئيسة \  تقارير  \  انتخاب أم اصطفاء في سورية؟

انتخاب أم اصطفاء في سورية؟

04.10.2025
أحمد طعمة



انتخاب أم اصطفاء في سورية؟
أحمد طعمة
العربي الجديد 02 أكتوبر 2025
عكست صيغة مرسوم إجراء انتخابات برلمانية وتشكيل لجنة لذلك، والتحضيرات وخطوات اللجنة العملية في طرق تنفيذ هذا الاستحقاق المصيري، وجود خطّة مضمرة لإخراج برلمان وفق شروط السلطة ومعاييرها، وتصوّراتها لطبيعة النظام السياسي المنشود. ولعلّ أول ما يلحظه المرء عندما ينظر في القرارات والإجراءات المتعلّقة بالعملية الانتخابية لمجلس الشعب في سورية أنها عملية اصطفاء وليست انتخاباً، تعاني خللاً بنيوياً عميقاً، ولا تحقّق الحدّ الأدنى من المعايير الدولية لمشاركة سياسية، تبدأ بالسماح بتشكيل الأحزاب والمنظّمات المدنية والأهلية العاملة بحرية في الهمّ السياسي والشأن العام، مقدّمةً برامجها المتنوعة لتشكيل الرأي العام، وهذا ما يضمن طرح الآراء النقدية بفاعلية، ويجعل الشعب يتعرّف إلى الكفاءات وأصحاب الآراء الحكيمة، ثمّ ينتخبها لتكون ممثّلة له في مجلس نيابي يعبّر عن تنوّع الشعب السوري وغناه بالطاقات الكبيرة التي حُبست ستين عاماً ونيّفاً من حكم غشوم ظلوم، أفقد الحياة معناها لدى السوريين... هذا كلّه لن تحقّقه الانتخابات المزمع إجراؤها في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
بدأ الاصطفاء منذ اللحظة التي اختيرت فيها اللجنة العليا للانتخابات، فأكثر أعضاء اللجنة ليست لديهم خبرة في إدارة عملية انتخابية، ومعظمهم موالون للسلطة سمّاعون لها ولا يعصون لها أمراً. وإذا أضفنا إلى ذلك احتمال انضمامهم إلى عضوية مجلس الشعب ضمن قائمة الثلث المُعيَّن من الرئيس، كما تفيد تلميحات، ما يثير أسئلة بشأن حياديَّتهم، وهذا ما يتعارض مع مبدأ نزاهة الانتخابات. اصطفت هذه اللجنة العليا أعضاءَ اللجان الفرعية بناءً على ترشيحات من المحافظين وقادة الشرطة والهيئات السياسية الموالية للسلطة في المحافظات السورية، وقليل لا يُذكر من ترشيحاتٍ جاءت من شخصيات اعتبارية في المجتمع، ولكنّ أحداً منهم لم يتولَّ رئاسةَ لجنة فرعية في أيّ منطقة، صغرت أو كبرت، في أرجاء الوطن، وهذا خلل خطير شاب العملية برمّتها.
بعد اصطفاء اللجان الفرعية من اللجنة العليا، تسلّمت هذه اللجان طلبات الترشيح من المواطنين الذين ظنّوا أن لديهم فرصةً كي يكونوا أعضاءً في مجلس الشعب، وكذلك طلبات الترشيح المُقدّمة من السلطات في المحافظات، ثمّ تخيّرت اللجان الفرعية منهم مُصطفَين لملء مقاعد أعضاء الهيئة الناخبة بمعدّل 50 اسماً لكل مقعد نيابي، وبشروط تمنع من الناحية العملية أيَّ مُعارِض أو شخص لا ترغب السلطة في وصوله إلى الهيئة الناخبة، لا بل إن مُرشَّحين كثيرين قدّموا شهادات جامعية في فئة الكفاءات لم تُعادَل وفق الشروط المتعارف عليها في سورية تاريخياً، وهي ليست شروطاً سهلةً، إذ لم تكن تقبل أيّ شهادة جامعية ما لم تكن رسمية من إحدى جامعات البلاد أو شهادة جامعية أجنبية خضعت لفحص المعادلة. وما حصل أن شهادات قُدِّمت ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا خللٌ آخر في العملية الانتخابية. ثمّ، ما الضمانات ألا يُوجّه كثير من أعضاء الهيئة الناخبة باتجاه التصويت لأشخاص بأعيانهم كي يفوزوا بعضوية مجلس الشعب؟ وهذا خللٌ خطيرٌ آخر يشوب العملية برمّتها. ثمّ لماذا تقتصر الدعاية والحملة الانتخابية ضمن أعضاء الهيئة الناخبة؟ لقد منع التداول العام للبرامج السياسية ما يحرم المجتمع المتعطّش إلى السياسة من النقاش الحرّ حول المُرشَّحين، والضغط على أعضاء الهيئة الناخبة لاختيار الأفضل، فتصبح الانتخابات "كولسةً" تشبه التي كانت تجري في انتخابات الائتلاف الوطني لقوى المعارضة. كما أن الاشتراط بإلزام المُرشَّح بالتصويت لثلاثة أسماء عن كل مقعد نيابي سيؤدّي إلى شطب كثيرين أسماء مُرشَّحين أقوياء، خشية المنافسة، ما يؤدّي إلى خسارتهم أصواتاً كثيرة يمكن أن تكون لهم لو أن التصويت لخمسة مثلاً.
الإجراءات المتعلّقة بانتخابات مجلس الشعب السوري لا تحقّق الحدّ الأدنى من المعايير الدولية لمشاركة سياسية
ستفجّر الانتخابات بهذه الطريقة مشكلةً بين شيوخ القبائل والعشائر بعد ظهور نتائج العملية الاصطفائية، إذ ينظُر شيوخ القبائل والعشائر إلى اختيار شيخ بعينه مكان شيخ على أنه تفضيل له غير مقبول في العرف العشائري، وقد كانت لنا تجربة مرّة في أثناء تشكيل مجلس القبائل والعشائر الخاص بالثورة السورية عام 2018، إذ رفض معظم الشيوخ الذين لم يجر اختيارهم في القيادة تسمية قيادة المجلس باسم مجلس الشيوخ، لقناعتهم أن اختيار ممثّل عنهم، من دون أن يكون شيخهم فعلاً، يعني تفضيله وترسيخه شيخاً أبدياً عليهم، وهذا ما لا يرضونه، وإذا أضيفت إمكانية أن يكون لأصحاب النفوذ وشيوخ المال حظوظٌ أكبر من شيوخ القبائل والعشائر في الوصول إلى المجلس فسيزداد الطين بلّة. كم نحن في غنىً عن مثل هذا الذي يزيد من الانقسامات العمودية والأفقية التي يعانيها مجتمعنا!
تمثيل المرأة المتدنّي والمهجّرين وذوي الإعاقات والناجين والناجيات من الاعتقال، صيغ بعبارة "ما أمكن"، وبطريقة إرشادية يجعله غير ملزم، وكلّنا يعرف أنه من دون الإلزام في قضايا كهذه لا تحبّذ مجتمعاتنا إعطاءهم شيئاً. تذكّر هذه الانتخابات بانتخابات إيران، حيث يجبر الراغبون في الترشّح لمجلس الشورى الإسلامي على تقديم طلبات ترشيحهم إلى مجمّع تشخيص مصلحة النظام، المُرسِّخ للثيوقراطية، وهذا المُجمَّع يصطفي منهم من يرونه من الأخيار. وقد أُبعدت شخصيات إيرانية بارزة من هذا المجمّع لمجرّد أنها لم تحظَ بمباركة مرشد الثورة الإسلامية، بل إن كثيرين من كبار القوم من المفكّرين الإيرانيين، المُوجِّهين للرأي العام، لم يتقدّموا أصلاً بطلبات ترشيح، لقناعتهم بأن لا أمل لهم في الوصول إلى مجلس الشورى. وهذا ما يحصل حالياً في سورية، إذ إن متقدّمين كثيرين استُبعدوا من القوائم النهائية للترشيح لعضوية الهيئة الناخبة من دون الإفصاح عن المعايير التي استُبعدوا على أساسها، وهذا يمسّ مبدأ الشفافية، فضلاً عن أن عدداً معتبراً من زعماء سورية الحقيقيين لم يتقدّموا بطلبات ترشيحهم، لقناعتهم أن وصولهم إلى مجلس الشعب دونه خرط القتاد.
أمام خيبة الأمل التي سيصاب بها كثيرون بعد صدور النتائج النهائية، كاشفةً أن معظم أعضاء مجلس الشعب ممَّن اصطُفوا، قال بعضهم: ربّما كان الأقلّ ضرراً أن يُعيّن جميع الأعضاء تعييناً من الرئيس، وعلى الوجه الأبيض، أسوة بالأنظمة الملكية، ومن دون هذه الإجراءات المسبّبةِ ما لا تُحمد عقباه، التي ستكون نتيجتها عدم وجود حتى ما تُسمّى "الجبهة الوطنية التقدّمية" ولو ديكوراً. إذا أضفنا إلى ما سبق حقّ الرئيس وفق الإعلان الدستوري بتعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ما يعطيه صلاحيات قانونية فوق صلاحياته التنفيذية، تجعله ذا تأثير مباشر في تشكيل المجلس، فما بالكم بإعطائه صلاحية تسمية بدلاء من أيّ نائب يخسر مقعده بسبب الوفاة أو الاستقالة أو إسقاط العضوية، وربّما يضاف إلى ذلك تسميته النواب الذين يفترض أن يمثّلوا محافظات لن تجري فيها انتخابات مثل السويداء والحسكة والرقة، فعندها ستتشكّل أغلبية نيابية كبرى يضمن ولاءهم، وهذا عين ما يسمّى اللون الواحد، مُقوِّضاً مبدأ التعدّدية.
استُبعد متقدّمون من قوائم الترشيح النهائية لعضوية الهيئة الناخبة من دون إفصاح عن المعايير التي استُبعدوا على أساسها
هنا لا بد من طرح السؤال الجوهري: ألا تعبر هذه الصيغة من الإجراءات، والطريقة التي شُكّلت بها لجنة الانتخابات واللجان الفرعية عن طبيعة العقد الاجتماعي الذي تنوي السلطة السورية تثبيته في البلاد، وإسقاطه على المجتمع، بما في ذلك شكل (وطبيعة) النظام السياسي الذي يعكس توجّهاتها لترسيخ واقع سياسي ومؤسّسي في البلاد لا يتّسم بالتشاركية والتعدّدية؟... تريد السلطة أن تحدّد من يحكم ومن يُقصى ومن يُقرَّب، وأن تكون هي من يخطّط ومن يملك التصوّر الأوحد ومن يقرّر كيف تتخذ القرارات وكيف توزّع الموارد، وأن تكون هي من يصدر المراسيم من دون اعتداد بالمجتمع وقواه السياسية، ومن دون التفاتٍ إلى اعتراضات بعض مكوّناته ونخبه السياسية... وسيؤدّي هذا كلّه إلى انعدام الثقة بين السلطة ومكوّنات وقوى سياسية سورية وازنة، ويجعل قرارات السلطة موضع شكّ مسبق، ما سينعكس سلباً على البنية السياسية فتصبح هشّة، ويجعل العقد الاجتماعي منقوصاً. ألم يكن الأولى اتخاذ طريق غير الذي سُلك لبناء المؤسّسات، ومنها المؤسّسة التشريعية، باعتبار أن المؤسّسات ليست قوالب جاهزة أو مسبقة الصنع، إنها أجسامٌ حيّةٌ ومتحرّكة ومتفاعلة مع فعّالية المجتمع ودوره، تعبّر عن مكانته وحيويته وتوازن القوى داخله، واحتياجاته. من هنا، ألم يكن الأمثل البدء بانتخابات البلدية لتدريب الناس على الديمقراطية والعمل على تحسين واقعهم المحلّي أولاً، والمشاركة الفاعلة في المؤسّسات، لتكون المؤسّسات شاملةً تمنح المواطن العادي الثقة والاطمئنان، وتدفعه إلى المشاركة في الشأن العام، وهذا أساس الاستقرار والازدهار، قبل الذهاب إلى انتخاباتٍ برلمانيةٍ تسبّب إضاعة البوصلة عند المواطن وتفقده معرفة أولوياته.
تقوم مؤسّسات ما بعد الحروب والصراعات، خصوصاً الكبرى منها، عادة على تسوية سياسية، وتحقيق الاستقرار والاستمرارية، مرهونان بطبيعة هذه التسوية ومدى شمولها، وهو ما لم يحصل في سورية الجديدة، إذ لم تتم أيّ تسوية سياسية حقيقية، بل ما كان أقرب إلى تسوية زبائنية هشّة، تركّز السلطة في يد نخبة ضيقة، وهو ما عكسته القرارات والمراسيم، بدءاً بقرارات مؤتمر النصر، مروراً بمؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري والتعيينات في المؤسّسات الإدارية والأمنية والاقتصادية، وصولاً إلى مرسوم تشكيل لجنة للانتخابات الاصطفائية، وكلّها تقوم على الولاءات الشخصية أكثر من اعتمادها على المهنية والكفاءة، فكيف نذهب إلى انتخابات مجلس الشعب قبل إنجاز تسوية عادلة يقبلها الشعب السوري بالرضا؟
نجدّد المطالبة بإعادة النظر في الإعلان الدستوري المُؤسِّس لهذا العقد الاجتماعي، فهو الذي شرعن انتخاباتٍ كهذه، ونصّ على إجراءاتها. كما أن هذا الإعلان هو الذي نصّ على تسمية المجلس باسم مجلس الشعب، وما تخلّفه هذه التسمية من مرارة في النفس، لأنها تذكّرنا بإرث نظام جبّار عتيد لم يكن يعترف يوماً بشيء اسمه الشعب. حقيقةً، نستغرب كيف أبقت السلطة على التسمية رغم إرثها البغيض، بحجّة المحافظة على تقاليد الدولة، رغم أنها تستطيع فعل ذلك، وقد فعلت في حالات أخرى. الأولى تسميته بالمجلس النيابي أو مجلس النواب لكي يكون تعبيراً عن تمثيل حقيقي للشعب، أو المجلس التشريعي، أو أيّ تسمية أخرى غير مجلس الشعب احتراماً للثورة التي قامت ضدّ مجلس الدمى وقائدهم "الخالد". كما أننا لا نحبّذ تسميته بمجلس الشورى أسوة بمجلس إدلب، كي لا ندخل مرّة أخرى بالجدل الفقهي حول أن الشورى ملزمة أم معلّمة، بل نريد أن يكون المجلس مجلساً تشريعياً تُسنّ فيه القوانين التي تخدم الشعب وتنمّيه سياسياً ليحمل المسؤولية تجاه شعب عظيم أسقط واحداً من أطغى الطغاة.
لم تتم أيّ تسوية سياسية حقيقية في سورية، بل ما كان أقرب إلى تسوية زبائنية، تركّز السلطة في يد نخبة ضيّقة
قامت الثورة السورية المباركة من أجل أن نخلي بين الناس وبين إرادتهم الحرّة الواعية لتحقيق أهدافهم في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والسلطة ملزمة بتربية الشعب ليجيد حكم نفسه مستعينةً بالمفكّرين وأصحاب الروح الرسالية، لا أن تُقصيهم، وتترك المجلس خلواً من الشخصيات الكبيرة القادرة على التأثير ورسم الدرب. السلطة النجيبة هي من تسعى إلى أن تبني دولةً برلمانها منبثق حقيقةً من الشعب، وحكومةً تعمل ليل نهار لخدمة المواطن، بدلاً من الخيار اللجامي الذي يقيّد الشعب ولا يجعله ينظر إلا في اتجاه واحد لا يحيد عنه يَمنة أو يَسرة. لا يمكن تحقيق انتخابات حرّة ونزيهة يصل بموجبها أصحاب الكفاءات إلى قبّة البرلمان إلا من خلال تنافس قائم على حياة حزبية ديمقراطية حقيقية تُعرض فيها الآراء على الناس فيتخيّرون أفضل البرامج ويصوّتون عليها على مبدأ "أنا أقول، وأنت تقول، وللناس عقول". ليس صحيحاً أن يقال إن الأجواء غير مناسبة، ولا تزال أجزاء من الوطن لم تحرّر، وإن الشعب غير جاهز لتبنّي الديمقراطية، فالشعب من دون خوض التجربة والتعلّم منها لن يتعلّم، وعدم تعليمه ترسيخ للدكتاتورية لا نريد لبلدنا العظيم أن يقع تحت رحمتها مرّة أخرى.
إذا كان الاصطفاء النهائي في المجلس سيكون على أساس الولاء من دون الكفاءة، فإن الأعضاء لن يستطيعوا القيام بواجبهم في تعديل القوانين الجائرة التي خلّفها نظام الإبادة، ولا اقتراح أفكار إبداعية تحسّن من الواقع السياسي في البلاد، إلا إذا كان المطلوب منهم أن يبصموا كما بصم السابقون، ونحن نربأ بإخوتنا في السلطة أن يفعلوا ذلك، والأوْلى بهم أن يأتوا بالخبراء والعقلاء حقّاً، حتى لو عارضوا، وصولاً إلى تسويات داخلية يمكن الوصول إليها. المهمّ ألا نعود إلى الدكتاتورية التي تلوّعنا بها من قبل، وكل بديل عنها، ولو كان متعباً، خير منها.
نحن شديدو الحرص على الجمع بين المظهر والجوهر. ومن هنا حرصنا على سلامة الإجراءات ليكون المظهر سليماً، وشديدو الحرص على المضمون الديمقراطي سلامةً للجوهر، فنحظى ببرلمان يفخر أعضاؤه بأنهم كانوا الجيل التشريعي الأول بعد التحرير.