الوطنية السّورية في 2025
10.09.2025
رانيا مصطفى
الوطنية السّورية في 2025
رانيا مصطفى
العربي الجديد
الثلاثاء 9/9/2025
- المشاركة السورية في المؤشر العربي 2025: لأول مرة، تشارك سوريا في المؤشر العربي 2025، مما يوفر بيانات موثوقة لفهم المجتمع السوري، خاصة في ظل غياب وسائل فعالة لقياس رأي الشارع.
- الهوية الوطنية والموقف من دولة الاحتلال: السوريون يحددون هويتهم من خلال الثقافة المشتركة، مع تفضيل فصل الدين عن السياسة. 88% يرون أن السياسات الإسرائيلية تهدد الاستقرار، و69% يعتبرون القضية الفلسطينية قضية عربية.
- التحديات السياسية والاقتصادية: السوريون يواجهون تحديات في بناء دولة مستقلة، مع رغبة في عدالة انتقالية. هناك مخاوف من السياسات الاقتصادية الحالية وتعزيز طبقة أوليغارشية جديدة، مع تهديدات من إسرائيل وإيران وروسيا والولايات المتحدة.
هذه الخدمة تجريبية
لأول مرّة، تحضُر سورية ضمن أضخم مشروع مسحيٍّ في العالم العربي، مشهودٌ بمهنيَّته العالية، وهو المؤشّر العربي 2025، الصَّادر أخيراً عن المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات بالتعاون مع المركز العربي للدراسات السورية. وتأتي أهمّيَّتُه في هذه المرحلة المصيريّة من حياة السوريين بإمكانية الاستئناس به من السُّلطات الجديدة والنخب السورية والباحثين على السواء، في غياب القدرة على قياس رأي الشارع، والاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي مقياساً؛ وهي التي تبيَّن في نتائج المؤشِّر أنَّها لا تعكس الواقع، بوجود 52% من المستجيبين لا يستخدمونها إطلاقاً أو نادراً، ونسبة معتبرة يستخدمونها بشكل متوسّط (12% عدة مرات في الشهر و12% مرة أسبوعياً أو أكثر)، ونسبة 13.3% فقط يتابعون المؤثرين السياسيين، مقابل اهتمامات أخرى اجتماعية ورياضية وصحية وتسوق وغيرها.
تُظهِر النتائج أن هناك وعياً مقبولاً تجاه بناء الدولة على أساس المواطنة والحقوق المتساوية
حسب المؤشّر، يحدّد السّوريّون المستجيبون عوامل تشكيل هويّتهم الوطنية، بالثقافة المشتركة واللغة العربية والأرض الواحدة وعاداتٌ وتقاليدٌ وتاريخ مشترك، وتنوّع مذهبي وديني، ويرى بعضهم في الإسلام هوية عليا للسوريين (8%)، ويعتبر آخرون الانتماء إلى العالم العربي فوق كلِّ المشتركات (7%). لن نغوصَ في جدالٍ حول تاريخ تشكّل الهوية الوطنية السورية، وإن تشكّلت أم لا، فسورية الحالية نتاج تقسيماتٍ استعمارية قسريَّة، مطلع القرن الماضي، واعتبرَتْها إيديولوجية حزب البعث "قُطراً" في وطن عربي كبير، فيما اقتضى انزياح نظام الأسد الأب التدريجي نحو اقتصاد ليبرالي، ثمَّ ترسيخُ هذا التحوّل إلى اقتصاد نيوليبرالي في بداية حكم الأسد الابن، أن تصبح سورية في أدبيات "البعث" وخطاب الحكومة دولةً/ وطناً، كمصلحة فئويَّة تخصُّ كلاً من الطبقة البورجوازية المستفيدة والمنظومة العسكريَّة والأمنية الحاكمة، لمراكمة الثَّروات في ما عُرف برأسمالية المحاسيب، إلى جانب تسكين الجبهات مع العدو الإسرائيلي، والتخلّي عن المطالبة بالجولان السوري المحتل بتوافق غير رسمي؛ وبذلك تمَّ تفريغُ المسألة الوطنية من مضمونها، وترسيخُ الهويات ما قبل الوطنية، وإيقاف التطوّر الطبيعي للمجتمع عبر نظام تسلُّطي قمعي.
الموقف من دولة الاحتلال
في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المستمرّة في الأراضي السورية، والتَّوغلِ في الجنوب، والادّعاء بحماية السوريين الدروز من مجازر في منتصف يوليو/ تموز الماضي، وفي ظل التواصل العلني المستمرِّ والرفيع المستوى بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، بغرض التوصُّل إلى اتفاقات لا يُستَبعَد أن يكون التّطبيع منها، يقدّم الاستطلاع الجديد نتائج مهمّة حول الموقف الشعبي من دولة الاحتلال. فيستشعر السوريون الخارجون من تحت ركام الحرب المشكلات التي تحول دون بناء دولة جديدة على أسس وطنية، ومنها خطر التقسيم (10%)، ثم الانقسامات الطائفية والإثنية والقبلية (9%)، والنسبة نفسها يرون الفقر أخطر المشكلات، فيما يرى 8% مشكلة الفصائل، ولا يضع سوى 6% منهم التوغّلات الإسرائيلية الجديدة في رأس المشكلات. لكنّ 88% يعتبرون أن السياسات الإسرائيلية تهدِّد الاستقرار في سورية. ولا يتجاوز مجموع من يعارضون إسرائيل فقط لأنها تحتل الجولان أو لأنها توسَّعت في الأشهر الأخيرة الـ2.8%، بينما يعتبرها 22.3% دولةً استعمارية استيطانية، و17.3% توسّعية، و8.3% عنصرية. وهذا يتفق مع أن 69% يعتبرون القضية الفلسطينية قضية العرب، مقابل 15% فقط يعتبرونها خاصة بالفلسطينيين، ويرفض أكثر من 90% من المستجيبين في دول عربية، ومنها سورية، الاعترافَ بإسرائيل. ويتابع 74% من المستجيبين السوريين الأخبار في غزّة، و70% لا يوافقون على اتفاقٍ مع إسرائيل بدون الجولان، وتتقارب نسبة المعارضين (39%) والموافقين (38%) على اتفاقٍ فقط لإعادة الالتزام بخطّ الهدنة لعام 1974. ويؤكد 48%، وبدرجة أقل 26%، أن إسرائيل تدعم فئات سورية لتغذية النزاعات.
الحياة السياسية ونظام الحكم ومؤسّسات الدولة
تُظهِر النتائج أن هناك وعياً مقبولاً تجاه بناء الدولة على أساس المواطنة والحقوق المتساوية إلى جانب تحييد الدين عن الدولة؛ إذ يؤيّد 62% من المستجيبين تياراتٍ وطنية بلا إيديولوجيا، بينما 54% يؤيدون التيارات الإسلامية، و48% القومية العروبية، و38% العلمانية، و37% الليبرالية المدنية. والغالب أن لدى السوريين أفكاراً مشوَّشة حول معظم هذه التيارات، بدليل أن أكثر من ربع المستجيبين لم يقدَّموا جواباً عن هذه الأسئلة. لكن اللافت أن 57% يفضّلون فصلَ الدين عن السياسة، و60% يفضِّلون نظاماً ديمقراطياً، و61% يميلون إلى التعدّدية الديمقراطية، و42% يفضلون دولة مدنية مقابل 22% للدولة الدينية. ويستشعر المستجيبون خطورة انتشار خطاب الطائفية (70%) والتمييز على أساس المذهب والدين (66%)، والتمييز بين المحافظات (57%) وبين الريف والمدينة (46). يرفض 67% تخوين معارضي السلطة، وهناك 66% لا يفرِّقون في التعامل مع الآخرين على أساس الديانة والمذهب والطائفة، وهذا يُسقط الادّعاءات أن السوريون يفضُّلون التَّقسيم والفيدرالية على أساس الهويات ما قبل الوطنية.
الجزء المتعلِّق بسورية من الاستطلاع جرى ما بين يوليو وأغسطس 2025؛ إذ إن المزاج السوري العام يتغيّر كل يوم
يتطلّب تعزيز الوطنية السورية بناء مؤسّسات الدولة وتوجّهها السياسي والاقتصادي على أسس وطنية مستقلة عن أي إرادات إقليمية ودولية. لم يتطرّق الاستطلاع بشكل كافٍ إلى أهمية بناء مؤسّسة عسكرية مستقلة عن التدخلات الخارجية، وقادرة على الدفاع عن الوطن وتحرير الأرض، وقد دمّرت قوات الاحتلال الإسرائيلي، بعد سقوط نظام الأسد، كلَّ مقدَّرات الجيش السوري، واكتفى المؤشر بسؤالٍ حول حلّ الفصائل؛ إذ يعتقد 44.2% أن أداء الحكومة جيّد في هذا الملف؛ ولكن قرابة نصف المستجيبين يشيدون بأدائها حول المحافظة على وحدة الأراضي ومكافحة الإرهاب والتطرّف والخطاب الطائفي. يميل غالبية المستجيبين إلى تطبيق عدالة انتقالية كاملة، حيث وافق 61% على أن تشمل كل من تورّط بجرائم ضدّ الإنسانية من النظام والفصائل، مقابل 25% فقط يريدون محاسبة نظام الأسد فقط، ويرى 44% أن نظام الأسد اعتمد على الولاء بغض النظر عن الطائفة، مقابل 35% قالوا إنه اعتمد على طوائف محدّدة. أمّا الثقة بمؤسّسات الدولة الجديدة من أمن عام وحكومة ووزارة الدفاع والمحافظين المعيَّنين فهي أكثر من النصف بقليل. ولا يرى سوى 47% أن الحكومة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من المواطنين، و31% يرونها تحابي فئات أخرى، وهي نسبة غير قليلة وتتعارض مع مبدأ المواطنة واستقلالية القضاء.
يرى 78% أن إسرائيل أكبر مهدِّد، تليها إيران (74%)، وروسيا (54%)، والولايات المتحدة (50%)،
كما لم يتطرَّق الاستطلاع إلى سؤال السوريين المستجيبين حول السياسات الاقتصادية المتبعة، وهي ذات ملمح نيوليبرالي، وهل تحقق السيادة الاقتصادية، وحول مخاوفهم من أنَّ تدفُّق الاستثمارات سيصبّ في مصلحة طبقة أوليغارشية جديدة، بدلاً من تفضيل سياسات تنموية أكثر عدالة تحقق النهوض لكلّ المناطق السورية. التهديدات الخارجية بعد سنوات من التدخلات الخارجية في سورية، وبناء قواعد عسكرية أميركية وتركية وروسية، شكلاً من الاحتلال، وتوغّلٍ إسرائيلي جديد، تبدو مهمّة بناء مؤسسات وطنية مستقلة غاية في الصعوبة. وفي سؤال حول السياسات الراهنة لبعض القوى الدولية والإقليمية التي تهدِّدُ أمن المنطقة، يرى 78% أن إسرائيل أكبر مهدِّد، تليها إيران (74%)، وروسيا (54%)، والولايات المتحدة (50%)، ولا يرى سوى 25% من المستجيبين أن تركيا تهدد أمن البلاد رغم أنَّها تحتلُّ جزءاً من الشريط الحدودي الشمالي وتقيم قواعدها العسكرية، وتسعى إلى إنشاء قواعد جديدة في الداخل؛ وتجدر ملاحظة أن 40% رفضوا الإجابة عن هذا السؤال. وأخيراً، من المهمّ القول إنّ الجزء المتعلِّق بسورية من الاستطلاع جرى ما بين يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2025؛ إذ إنَّ المزاج السوري العام يتغيّر كلَّ يومٍ، مع دخول البلاد في حالة ديناميكية مستمرَّة منذ صباح الثامن من ديسمبر، ولا توجُّهات عامَّة ثابتة في رأي السوريين تجاه مجمل القضايا السياسية والاجتماعية والحقوقية التي فُتحَت كلُّها دفعة واحدة بعد سقوط نظام الأسد. ففي الأشهر الأولى بعد السقوط، كان اهتمام السوريين بالشأن العام في أقصاه، بينما تراجع لحظة إعداد "المؤشّر"، بسبب تغييب أيِّ دورٍ للشعب الذي يفاجأ بالقرارات المصيرية. ولا تُعتَبر حريَّة التعبير الفردية، التي بلغت 6 من 10، حسب الاستبيان، كافيةً للتأثير في القرارات، بغياب أو تغييب أيِّ دورٍ حقيقي للقنوات الديمقراطية من أحزاب ونقابات وغيرها. وفي ظل خطاب التحريض الطائفي والمذهبي والعرقي، الذي يملأ المساحات الافتراضيَّة والقنوات الرسمية، بدا من الواضح أنَّ هناك عزوفاً لدى السوريين عن المشاركة في الحياة السياسية، حيث تُفتقَدُ الحوارات البنَّاءة التي تدعم تطور الوعي الجمعي السوري، في سياق تشكيل هوية وطنية جامعة.