الرئيسة \
تقارير \ "الكبتاغون" ... سلاح جوال في "مناطق النفوذ" السورية
"الكبتاغون" ... سلاح جوال في "مناطق النفوذ" السورية
31.10.2024
هارون الأسود
"الكبتاغون" ... سلاح جوال في "مناطق النفوذ" السورية
هارون الأسود
نون بوست
الأربعاء 30/10/2024
في أوائل هذا العام، مُنح جندي سوري متمركز غرب دمشق، عاصمة سوريا، إجازة قصيرة للنظر في اقتراح خاص من ضابط الجيش الحائز على أوسمة رفيعة تزين صدره. وفي مقابلة مع "المجلة"، كشف الجندي أنه كان أمام خيار صعب: إما قضاء فترة عمله في مزرعة زعيمه كمزارع، وإما في واحد من الخطوط الأمامية الساخنة كي يواجه الفصائل المتمردة شمالي سوريا حيث قُتل أو اختفى معظم الجنود في سوريا التي مزقتها الحرب.
منذ سنوات، يدفع الجنود السوريون الرشاوى ويعتمدون على المحسوبيات لتيسير خدمتهم الإلزامية، التي تمتد لسنوات في حالات الحرب والأوقات الحرجة. والجندي الذي أعطي الخيار ينحدر من عائلة مزارعين، لذلك وجد في هذا العرض، كما أخبر "المجلة" ما وصفه بـ"الفرصة الذهبية".
غير أنه سرعان ما اكتشف أن المزرعة مخصصة لزراعة الحشيش، وتضم ورشة تسمى محليا "المكبس"، تنتج عددا لا يحصى يوميا من الحبوب من المخدر السوري القوي المثير للجدل (الكبتاغون). إنها تجارة مربحة على مدار العام، فالكثير من مصانع شبكة "الكبتاغون" التي تديرها السلطات السورية، تنتشر في البلاد وتزود ورش العمل الفرعية للتعبئة، وتمول العصابات، وتسيِّر عمليات التهريب عبر الحدود.
وقد قدرت وزارة الخارجية البريطانية العام الماضي عائدات هذه التجارة بمبلغ 57 مليار دولار، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف تجارة الكارتيلات المكسيكية مجتمعة. وصرحت الوزارة في بيان لها بأن "الإتجار بالمخدرات هو شريان الحياة الاقتصادية لنظام الأسد... على حساب الشعب السوري الذي ما زال يواجه الفقر المدقع والقمع على يد النظام".
بإزاء ذلك، تقول الأمم المتحدة إن أكثر من 16.7 مليون سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، من بينهم سبعة ملايين ما زالوا نازحين من منازلهم، كما تؤكد أن أكثر من نصف السكان بحاجة إلى مساعدات غذائية، بعد حرب طاحنة منذ ثلاثة عشر عاما في البلاد.
تجارة "الكبتاغون" ناجحة للغاية في الشرق الأوسط حيث قام الكيميائيون والعلماء في مناطق الحكومة، بالعمل على تصميم تركيبة هذا المخدر بدقة متناهية لجذب السكان ذوي الأغلبية المسلمة
بعد حصاد الحشيش، يقسم كل كيلوغرام منه إلى سبع قطع معبأة، يتراوح سعر كل قطعة محليا بين 100 ألف إلى 300 ألف ليرة سورية حسب نوعها، في حين تباع حبة "الكبتاغون" الواحدة بسعر يتراوح بين 1500 إلى 2000 ليرة سورية (كل دولار أميركي يعادل حوالي 15 ألف ليرة سورية).
الناشطة لبنى الباسط المقيمة في مدينة السويداء الخاضعة لسيطرة الحكومة، قالت لـ"المجلة": "هذا الرقم أرخص من ثمن قطعة بسكويت للأطفال، وهو حقا يجذب المراهقين، ويدمر المجتمع بأكمله، كما يؤدي إلى عدم الاستقرار الأمني خاصة في سوريا والأردن"
وأضافت: "بعد أساليب الاستطلاع المتقدمة والغارات الجوية الأردنية الأخيرة على مهربي المخدرات في سوريا، غيرت العصابات أساليبها لتمويه بضائعها في الصيف وتهريبها في ظروف جوية معينة في الشتاء".
سوق هائلة
تعتبر تجارة "الكبتاغون" تجارة ناجحة للغاية في الشرق الأوسط حيث قام الكيميائيون والعلماء في مناطق الحكومة، بالعمل على تصميم تركيبة هذا المخدر بدقة متناهية لجذب السكان ذوي الأغلبية المسلمة، ذلك أن الكحول محرم دينيا والحشيش يرضي بعض المدخنين فقط.
لهذا السبب، كان المدمنون قبل عقدين يقومون برشوة الصيادلة للحصول على أدوية خطيرة دون وصفات طبية. وكمثال على ذلك هناك دواء مخصص لتزويد المسنين بالطاقة، اعتاد المدمنون استخدامه بكميات كبيرة للوصول إلى الشعور بقوة غير محدودة لعدة أيام.
ولتجنب العجز عن النوم، كان المدمنون يستخدمون بشكل مماثل دواء يعمل كمرخٍ عضلي للمرضى الذين يعانون من اضطرابات في العضلات. ومع ذلك، كانت الجرعة الزائدة قاتلة. وتفاوت التركيز بين المخدرات يترك المدمنين إما في حالة من النشاط أو النعاس لعدة أيام.
في هذه الأثناء، كانت الاحتجاجات السورية في عام 2011 تصل إلى ذروتها الملحمية، وبينما كانت تتطور إلى حرب مهلكة، بدأ "الكبتاغون" في الظهور تدريجيا في الأسواق، محطما كل العقبات التي كانت تواجه المخدرات التقليدية.
هرب فلول مقاتلي المعارضة إلى المناطق الخاضعة للسيطرة التركية شمالي حلب، ليؤسسوا "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، والذي ما زال يطلق على أفراده في إدلب حتى اليوم اسم "المدمنين"
وفي الحال وجد "الكبتاغون" تربة خصبة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في محيط دمشق، التي كانت قد حُرمت من الرعاية الطبية بسبب حصار النظام لها وتعرضها للقصف اليومي من قبل قوات الحكومة. وهناك كان لـ"الكبتاغون" فعالية كبيرة في القضاء على آلام جرحى الثوار والمدنيين خلال المعارك الضارية.
وكلما ازدادت شراسة المقاتلين، زاد الطلب على "الكبتاغون" خاصة بعد سماح بعض رجال الدين المحليين باستخدامه في حالات معينة مثل سد النقص بين المقاتلين ومساعدة المتمردين المتبقين على القتال حتى النهاية.
وهكذا، تفجر الطلب على "الكبتاغون" في جميع أنحاء البلاد، وفقد ضباط الجيش السوري والمخابرات السيطرة، بعد أن كانوا ينشرون ذلك المخدر بشكل منهجي ومدروس بهدف تدمير المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ليكتشفوا أن "الكبتاغون" والحرب يمثلان فرصة استثنائية تدر أرباحا مذهلة وتوسع ثرواتهم.
الأمر المثير للسخرية أن هذه التجارة ترافقت مع ازدهار منتجات الحلويات، ذلك أن مدمن "الكبتاغون" يملك مزاجا خاصا ويعشق أي شيء ذي مذاق حلو ليتناوله مع الحبوب بهدف زيادة التأثير والوصول إلى الشعور بالنشوة. فالسكر يمنح المدمنين طاقة إضافية تساعدهم على البقاء بكامل نشاطهم دون نوم لعدة أيام.
لكن الاستخدام على المدى الطويل جعل الثوار، الذين كانوا على بعد كيلومترات فقط من قصر الأسد، مصابين بجنون الارتياب وغير عقلانيين ومتشككين، وباع عدد كبير منهم أسلحتهم لشراء "الكبتاغون"، في حين أن الكثير من المدنيين الذين أدمنوا "الكبتاغون" كي يتجاهلوا واقع نقص الغذاء، عملوا كمخبرين للحصول على المخدر.
كان "الكبتاغون" سلاحا فعالا بيد النظام استخدمه لتدمير المجتمع والتحريض على الاشتباكات الداخلية بين المتمردين والجماعات المسلحة التي كانت تعدم وتقطع رؤوس المتمردين وتجار المخدرات المدنيين بشكل مروع في الساحات العامة.
لاقت هذه الأعمال الوحشية ترحيبا كبيرا من قبل السكان المحليين في بعض المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ومنحت الدعم العام للجماعات الإرهابية مثل فرع "القاعدة" السابق "النصرة" لتفكيك العشرات من فصائل المتمردين المعتدلين وتقطيع أوصالهم كي تتمكن في نهاية المطاف من السيطرة على محافظة إدلب في شمال سوريا عام 2019.
تجارة "الجهاديين"
أدت هذه الظروف إلى انتشار المخدر في مناطق جديدة، حيث هرب فلول مقاتلي المعارضة إلى المناطق الخاضعة للسيطرة التركية شمالي حلب، ليؤسسوا هناك "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، والذي ما زال يطلق على أفراده في إدلب حتى اليوم اسم "المدمنين".
وفي محاولات يائسة لتقييد المخدر في مناطقها، أقامت "النصرة" المعروفة حاليا باسم "هيئة تحرير الشام" حواجز بين مناطقها والمناطق التي يسيطر عليها "الجيش الوطني السوري"، لكن "الكبتاغون" وجد طريقه إلى إدلب عن طريق التهريب من المناطق التي يسيطر عليها الأسد.
أما بالنسبة لتنظيم "داعش" فقد كانت المعادلة مختلفة، حيث أعلن بعض قادته أنه مسموح بتجارة المخدرات بهدف تدمير الأعداء، ولهذا السبب تسرب مخدر النظام السوري، الذي أصبح مصدرا بالغ الأهمية لتمويل الإرهابيين، إلى السكان المحليين واستمر في التدفق إلى الأسواق في غرب سوريا، على الرغم من أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة هزم تنظيم "داعش" عام 2019.
وفي السياق، نشرت قناة "العربية" قبل أشهر تقريرا يظهر انتشار المخدر على نطاق واسع في مدينة الرقة، العاصمة السابقة لتنظيم "داعش"، وأظهر التقرير أيضا كيف تبيع نساء المدينة أنفسهن للحصول على المخدر.
أحد سكان المدينة الذي رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية قال لـ"المجلة": "المخدرات موجودة في الأسواق المحلية بين الناس، وهي تؤثر على المجتمع بأسره، ومن بينهم الأطفال. كما أن النساء في المنطقة لا يعملن مثل الرجال، الأمر الذي يدفعهن لتقديم خدمات مشينة للحصول على المخدرات".
وأضاف: "نسمع كل يوم عن جريمة جديدة. فهذه التجارة تزيد من حدة العنف حيث يتحول معظم المدمنين المفلسين إلى تجار للحصول على المخدرات بسعر أقل"، قائلا إن جميع مدن شرق سوريا تعاني من المخدرات وليس الرقة فحسب، ويحمِّل أهالي تلك المناطق السلطة المحلية و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) مسؤولية حماية المنطقة، ذلك أن جميع المخدرات تأتي من معابرها التجارية مع مناطق سيطرة الأسد.
وأضاف قائلا: "كما ندعو السلطة المحلية إلى رفع مستوى الوعي، لأن لدينا مركزا واحدا لعلاج المدمنين لا غير، لكن السكان المحليين يعتبرون أنه من العار أن يفضحوا أقاربهم المدمنين، لذلك يلجؤون إلى إرسال أطفالهم أو نسائهم لتلقي العلاج خارج سوريا وإبعادهم عن مخدرات الأسد".
معضلة العلاج
إن علاج المدمنين مهمة معقدة أيضا في شمال غربي سوريا الخاضع للسيطرة التركية، إذ تشير وسائل الإعلام المحلية بشكل دائم إلى مصادرة شحنات المخدرات القادمة من مناطق سيطرة الأسد.
قيصر السيد مدير الهلال الأخضر السوري، قال لـ"المجلة": "إن المخدرات لها تأثير عميق على المجتمع، حيث تزداد الكميات في الأسواق بسبب العجز عن السيطرة على الحدود بين منطقتنا ومناطق النظام"، نذكر أن الهلال الأخضر السوري هو مركز طبي لعلاج المدمنين في مدينة أعزاز.
وأضاف: "إنها تسبب جرائم خطيرة في المجتمع، هنا مدمن قتل شقيقه وزوجته وأولاده، وهناك آخر قتل والده، بينما انتحرت فتاة مدمنة. ومن الصعوبة بمكان تقدير نسبة المدمنين في هذا المجتمع الذي يعاني من الحرب والفوضى الأمنية والكثير من الأزمات".
الكبتاغون وصل للأسف إلى طبقة العمال، الذين يستخدمون هذه الحبوب للعمل بنشاط أكبر وكسب المزيد من المال كي يتمكنوا من إعالة أسرهم
وتابع السيد قائلا: "بالنسبة للنظام السوري، تعتبر المنطقة سوقا وممرا لعبور المخدرات، ومعضلتنا هي أنه على الرغم من انتشار المخدرات بشكل كبير، فإننا المركز الطبي الوحيد لعلاج المدمنين ولا نملك التمويل الكافي لمواصلة أعمالنا".
أما الناشطة المقيمة في السويداء، لبنى الباسط، فترى أن مستوى المخدرات في مناطق النظام، أكثر إثارة للقلق لأنها مصدر المخدرات، وتضيف قائلة: "لا توجد مراكز طبية لعلاج المدمنين ويخشى الناس أن يتعرض أبناؤهم للاعتقال إذا طلبوا العلاج في دمشق".
وأضافت الباسط: "حتى إن الكبتاغون وصل للأسف إلى طبقة العمال، الذين يستخدمون هذه الحبوب للعمل بنشاط أكبر وكسب المزيد من المال كي يتمكنوا من إعالة أسرهم".
وقبل أشهر، انبثقت مجموعة أهلية في محافظة درعا التي يسيطر عليها النظام والتي تقع غرب السويداء، أعطت لنفسها الحق في شن حملة لمكافحة المخدرات، وصادرت ثم دمرت كمية من المخدرات التي عُثر عليها في السوق المحلية، ما أدى إلى وقوع اشتباكات مع عصابات يُزعم أنها مدعومة من النظام.
وقالت الباسط: "تجار المخدرات تابعون للنظام السوري وأجهزته الأمنية، وأبرزهم عناصر راجي فلحوط".
كان فلحوط قد وُصف في العقوبات التي فرضتها كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تجار المخدرات في سوريا، بأنه زعيم ميليشيا في السويداء يستخدم مقر ميليشياته لتسهيل إنتاج "الكبتاغون".
وبذلك، باتت هذه المخدرات سلاحا جوالا في "مناطق النفوذ" السورية المختلفة. أما بالنسبة للجندي فقد قبل العرض وأصبح صانعا للمخدرات، معترفا لـ"المجلة" بأنه بهذه الطريقة حمى نفسه من التعرض للقتل في جبهات القتال وأمّن مستقبله عن طريق تعلم مهنة مربحة للغاية.