الرئيسة \  تقارير  \  "الخوذ البيضاء" السورية تحلّ نفسها : تجربة إنسانية أنقذت حياة عشرات الآلاف

"الخوذ البيضاء" السورية تحلّ نفسها : تجربة إنسانية أنقذت حياة عشرات الآلاف

05.06.2025
هبة محمد



"الخوذ البيضاء" السورية تحلّ نفسها : تجربة إنسانية أنقذت حياة عشرات الآلاف
هبة محمد
القدس العربي
الاربعاء 4/6/2025
دمشق ـ “القدس العربي”: أعلنت وزارة الطوارئ والكوارث انضمام منظمة الدفاع المدني السوري منظمة “الخوذ البيضاء”، إلى الوزارة رسميا.
وقال وزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح في مؤتمر صحافي في دمشق الثلاثاء، إن اندماج مؤسسة الدفاع المدني السوري يهدف إلى تعزيز الاستجابة الوطنية الطارئة، مشيرا إلى أن عدد المفقودين في سوريا 140 ألفاً حسب المنظمات الحقوقية، لافتا إلى أن هناك معطيات عن مقابر جماعية لكن لا توجد إحصاءات بشأن عدد تلك المقابر.
وبرزت فرق “الخوذ البيضاء” كواحدة من أكثر القوى المدنية التي حافظت على الحد الأدنى من الأمل في مناطق سيطرت عليها الفوضى، وانعدمت فيها الخدمات الأساسية، خلال أكثر من عقد من الحرب التي شنها نظام الأسد السابق ضد المدن والبلدات الثائرة ضده والخارجة عن سيطرته.
وتأسست المنظمة في عام 2014 كاستجابة مباشرة للحاجة الميدانية الملحة في المناطق التي كانت تتعرض لقصف جوي متكرر، حيث غابت كل مظاهر الدولة، ولم تتوفر أي بنية إنقاذ طارئة. ومنذ اللحظة الأولى، كان هدف المنظمة إنسانيا بحتا ويتمثل في إنقاذ المدنيين.
مسعفة لا تنكسر
وسط أتون الحرب السورية، ظهرت شخصيات مدنية اختارت أن تكون في موقع الفعل، لا الفرار. واحدة من هؤلاء، وداد ويحا، متطوعة في الدفاع المدني السوري، هجّرتها الحرب من الغوطة الشرقية في ريف دمشق إلى شمال غرب سوريا.
وداد ممرضة وأم لـ 6 أطفال فقدوا والدهم في بداية الثورة، عملت في مستشفيات دمشق، لكن مع تصاعد القصف والحصار على مدينتها، قررت ترك عملها الرسمي، واتخذت قرارا مفصليا بالانضمام إلى الدفاع المدني السوري مطلع أبريل/ نيسان 2017
تقول وداد لـ “القدس العربي”: لم يكن قراري عاطفيا فحسب، بل جاء بعد تأثري بمشاهد عناصر الدفاع المدني وهم يتجهون إلى مواقع القصف بينما يهرب الجميع منها. هذه المشاهد زرعت في داخلي شعورا قويا بالمسؤولية، وأعادت تعريف دوري كممرضة في ظل حالة الطوارئ المستمرة.
وتضيف: وجدت في الدفاع المدني بيئة تمكنني من استخدام خبراتي الطبية في أكثر اللحظات حاجة لها، وكنت أرى في كل تدخل ميداني واجبا إنسانيا لا يمكن تأجيله. لم يكن الطريق سهلا، واجهت ظروفا صعبة خلال الحصار الخانق على الغوطة الشرقية، وتعرضت لتجارب قاسية يصعب نسيانها.
وعن إحدى أقسى تلك اللحظات تقول وداد: كان استشهاد والدي، الذي أُصيب بشظايا في الرأس أثناء قصف طال مدرسة كان يزورها للاطمئنان على أحفاده، حيث كنت في مهمة إسعاف، وحين وصلت إلى المدرسة لتفقد المصابين، فوجئت بأن والدي بينهم. المشهد، كما تروي، كان مروعا، حيث كانت أشلاء الأطفال منثورة على جدران المدرسة. وإزاء التجربة التي عاشتها خلال قصف نظام الأسد الغوطة الشرقية بالمواد الكيميائية، تقول وداد: المشهد لا يزال حيا في ذاكرتي، تلك الليلة واحدة من أكثر ليالي عمري قسوة، حين شاهدت ضحايا اختنقوا دون أن تترك أجسادهم أي جروح.
كل تلك الأحداث عززت قناعة وداد بضرورة استمرارها في العمل الإنساني، بعد تهجيرها من الغوطة، حيث استقرت في شمال غرب سوريا، وواصلت نشاطها في مراكز الدفاع المدني، وتحديدا في مركز الكفرة النسائي.
وتضيف: هناك، لم أكتف بإسعاف المصابين، بل أصبحت جزءا من الحملات المجتمعية للتوعية، خصوصا بين الأطفال.
وتتابع: إن أكثر ما يبعث على الأمل في عملي اليوم هو رؤية الابتسامة ترتسم على وجوه الأطفال خلال الأنشطة التوعية، رغم كل ما مروا به من نزوح وخوف وفقدان وانكسار. وهذا ما يؤكد لي كل يوم أننا قادرون على ترميم الخيبات والانكسارات التي خلفتها الحرب، مهما بلغ عمق أثرها في النفس.
عاملة في المنظمة لـ “القدس العربي”: واجهت ظروفاً صعبة خلال حصار الغوطة الشرقية
وداد اليوم، رغم كل ما فقدته، لا تزال ترى في العودة إلى دمشق أمنية تنتظر تحققها، مؤكدة أن من ساهموا في إنقاذ الأرواح خلال سنوات الجحيم، سيواصلون دورهم في بناء حياة جديدة قائمة على الرحمة والتضامن.
وحسب شهادات أهلية لـ “القدس العربي” فإنه لم يكن المتطوعون لدى منظمة الدفاع المدني من العسكريين أو الموظفين الرسميين، بل كانوا معلمين، طلابا، حرفيين، ومزارعين، قرروا الانضمام إلى جهود تطوعية لإنقاذ أهاليهم من القصف ومخلفاته وانتشال الجرحى والجثامين من تحت الأنقاض. ومع مرور الوقت، تحولت “الخوذ البيضاء” إلى مؤسسة محترفة، تعمل وفق منهجية منظمة، وتستجيب لعشرات الحوادث يوميا في أكثر المناطق خطرا وتضررا من الحرب.
وخلال سنوات الحرب، لم تكن مهمة الفرق سهلة، في الكثير من المرات، حيث كانت المقاتلات الحربية السورية والروسية تعود لقصف المدنيين العزل في بيوتهم والموقع نفسه بعد دقائق من وصول فرق الإنقاذ، فيما يعرف “بالضربات المزدوجة”، التي تستهدف المدنيين والمنقذين معا، ورغم ذلك، استمرت “الخوذ البيضاء” في العمل، وغالبا ما كانت أول من يصل إلى مكان الاستهداف، بما أنها الجهة الوحيدة التي تقدم المساعدة.
وحسب التقديرات، نفذت المنظمة أكثر من 125,000 عملية إنقاذ، معظمها في مدن مثل حلب، إدلب، وريف دمشق. كما فقدت المنظمة المئات من عناصرها خلال تنفيذ مهام إنقاذ. وعلى الرغم من الظروف الأمنية، وحسب تقارير صادرة عن المنظمة، فقد توسعت المنظمة لاحقا لتشمل أقساما خاصة بالاستجابة الطبية الأولية، وإزالة الأنقاض، والتوعية المجتمعية، والتعامل مع الذخائر غير المنفجرة. كما كانت حاضرة لتوثيق الانتهاكات، ورصد آثار القصف، خاصة في المواقع المدنية مثل الأسواق والمدارس والمستشفيات.
الحرب والزلزال
لم يكن إنقاذ المدنيين العزل من قصف الحلف السوري ـ الروسي على المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد ساحة عمل المنظمة فقط، ففي فبراير/ شباط 2023، ضرب زلزال مدمر بلغت قوته 7.8 درجات على مقياس ريختر، مناطق واسعة من جنوب تركيا وشمال غرب سوريا. وقتل آلاف المدنيين، كما تضررت مدن جنديرس، سلقين، حارم، وإدلب بشدة، وانهارت مئات المباني فوق رؤوس السكان.
ورصدت “القدس العربي” في تلك الساعات الحرجة، دورا محوريا لفرق “الخوذ البيضاء” التي كانت أول المستجيبين للكارثة، وتمكنت من إنقاذ مئات الأشخاص من تحت الأنقاض، في وقت كانت فيه الاستجابة الدولية بطيئة، ووسائل الدعم اللوجستي محدودة، حيث نفذت الفرق عمليات إنقاذ متواصلة استمرت أياما دون توقف، وغالبا بالاعتماد على أدوات بسيطة وموارد شحيحة، كما نظمت عمليات إخلاء، وقدمت إسعافات أولية للمصابين، وساهمت في إقامة مراكز إيواء مؤقتة للناجين.
وكشف الزلزال مجددا القيمة الكبرى لهذه الفرق، التي راكمت خبرات ميدانية طوال سنوات الحرب، وأثبتت قدرتها على إنقاذ أرواح المدنيين في أصعب الظروف.
وفي منتصف عام 2025، أعلنت المنظمة قرارها بحل نفسها طوعا والانضمام إلى وزارة الطوارئ والكوارث في الحكومة السورية الجديدة، التي تشكلت في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بعد سنوات الحرب، بهدف “الحفاظ على الخبرات المتراكمة، وتوظيفها في إطار وطني ومؤسسي يضمن استدامة العمل، وتطوير قدرات الاستجابة للطوارئ على نطاق وطني”، حسب مصدر مسؤول لـ “القدس العربي”.