الرئيسة \
تقارير \ أسئلة وقف النار في لبنان ... أي انتصار؟ أي هزيمة؟
أسئلة وقف النار في لبنان ... أي انتصار؟ أي هزيمة؟
30.11.2024
إيلي القصيفي
أسئلة وقف النار في لبنان ... أي انتصار؟ أي هزيمة؟
إيلي القصيفي
الجزيرة
الخميس 28/11/2024
مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" حيّز التنفيذ عند الرابعة من فجر الأربعاء يدخل لبنان مرحلة جديدة بعد حرب شعواء شنتها إسرائيل على كامل الجغرافيا اللبنانية استمرت شهرين وثلاثة أيام.
ليس هناك أدنى شك في أنها مرحلة ستكون حبلى بأسئلة كبيرة ليس بحجم الخسائر البشرية والدمار الهائل الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية، بل أيضا بحجم المتغيرات الجيوسياسية التي ستنتج عن هذه الحرب بوصفها جزءا من صراع أكبر بين إسرائيل وإيران. صراع تشكّل الولايات المتحدة جزءا رئيسا منه على قاعدة دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا ولكن في الوقت نفسه محاولة احتواء الصراع وعدم توسعه إلى حدود قصوى. وهو ما عكسته الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع الحرب في لبنان، إذ وعلى الرغم من الغطاء والدعم الأميركيين لإسرائيل، فإنه في لحظة دخول الحرب مرحلة "المراوحة" وتحولها إلى مجرد برهان على قدرة إسرائيل على استخدام القوة والتدمير، استنفرت واشنطن دبلوماسيتها عبر المبعوث الرئاسي آموس هوكشتاين للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لم تمانعه إيران بل سعت إليه ودفعت باتجاهه.
لذلك كله لا يمكن قراءة المشهد اللبناني الجديد بناء على معطيات لبنانية بحتة، وكأن الحرب كانت حصرا بين إسرائيل و"حزب الله" من دون أي سياق إقليمي ودولي، وهو ما يجعل معايير الانتصار والهزيمة والربح والخسارة ضبابية وغير ذات جدوى عمليا إلا في إطار التوظيف السياسي الداخلي في كل من إسرائيل ولبنان. فالأسئلة الأساسية لا تتصل حصرا بقياس الانتصار والهزيمة الذي سيخرج كل طرف حججا وسردية للدلالة عليهما، بل إن بيت القصيد هو في كيفية تطبيق الاتفاق وفي نتائجه بعيدة المدى ربطا بالمتغيرات الاستراتيجية التي فرضتها الحرب على اللاعبين الرئيسين وبالأخص إيران وإسرائيل. بمعنى أنّ معايير الانتصار والهزيمة لن تكون مقتصرة على نتائج الحرب المباشرة بل على طبيعة موازين القوى الجديدة التي سينتجها تطبيق الاتفاق وتحديدا لناحية نقطة رئيسة وهي قدرة "حزب الله" على إعادة بناء ترسانته الصاروخية كما كانت قبل الحرب، في سياق محاولة ترميم "توازن الردع" الذي أسقطته الحرب أو بأقل تقدير وجهت إليه ضربة قوية. مع العلم أن مبادرة إسرائيل إلى شنّ حرب ضدّ "حزب الله" ولبنان هي دليل كاف على سقوط نظرية الردع التي كان يروج لها "حزب الله" والتي بنى عليها وبالقوة واقعا سياسيا لبنانيا كاملا منذ عام 2006.
أما في النتائج المباشرة لوقف إطلاق النار فقد فصلت إسرائيل بين جبهتي غزة ولبنان بخلاف استراتيجية "حزب الله" للربط بينهما منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبالتالي هذه نقطة رئيسة في المضمون السياسي والعسكري للاتفاق ليست لصالح "حزب الله" في الدفاع عن سرديته وعن معاييره للانتصار، بما أنه كان يرفع منذ بداية الحرب شعار الربط بين الجبهتين ويتمسك به.
حضور أميركا
نقطة ثانية ليست لصالح "حزب الله" في مضمون الاتفاق وهي وجود أميركا في آلية مراقبة تنفيذ الاتفاق، وهذا وجود له دلالات استراتيجية كبرى بالنظر إلى سردية إيران و"حزب الله" طيلة المرحلة الماضية لجهة العمل على محاربة النفوذ الأميركي في المنطقة لا بل وإخراج القوات الأميركية منها وتحديدا في العراق وسوريا. فحتى لو قال الرئيس جو بايدن إنه لن تكون هناك قوات أميركية في جنوب لبنان، ولكن مجرد وجود أميركا في "لجنة المراقبة" يشكل انتكاسة سياسية لـ"حزب الله" وإيران، فيما كان الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله يهدد خلال الأشهر الماضية بقصف البوارج الأميركية في عرض البحر. كذلك فإن اعتراض "حزب الله" على وجود بريطانيا وألمانيا في لجنة المراقبة تلك لا يمكن تفسيره إلا بكونه تغطية على قبوله الاضطراري بوجود أميركا فيها.
لكن في المقابل فإنّ توسط أميركا في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإعلان هذا الاتفاق من قبل الرئيس المغادر جو بايدن، يطرح أسئلة عن استراتيجية الدولة العميقة الأميركية في التعامل مع المرحلة المقبلة ليس فقط في لبنان بل على صعيد المنطقة وتحديدا لجهة كيفية التعامل مع إيران على مستوى نفوذها في الإقليم وفي ما يخص برنامجها النووي. وهذه نقطة رئيسة في فهم اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل بنتائجه ومآلاته وفي فهم عموم المشهد المضطرب والمأزوم في المنطقة.
من ناحية أخرى يحيلنا هذا إلى كيفية تصرّف إيران في المرحلة المقبلة وتحديدا مع وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مع كل الأسئلة المطروحة حول سياساته الشرق أوسطية وبالأخص تعامله مع طهران، بين احتمال العودة إلى ممارسة "الضغط الأقصى" عليها واحتمال الوصول إلى صفقة معها حول برنامجها النووي واستتباعا نفوذها الإقليمي.
حتى الآن- وفي قراءة أولية لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله"- فإنه يمكن استنتاج أن إيران بموافقتها على الاتفاق تحاول استقبال ترمب بمرونة، خصوصا أن الرئيس الجمهوري كرر مرارا رغبته في وقف الحرب في الشرق الأوسط وإنْ لصالح إسرائيل. من دون إغفال أن قبول إيران بالاتفاق سببه أيضا الحفاظ ما أمكن على "حزب الله"، قوتها الرئيسة في الإقليم، بعد أن تلقى ضربات قاسية جدا خلال الحرب، وإن كان قد أثبت قدرة على مواصلة القتال واستهداف العمق الإسرائيلي وصولا إلى تل أبيب، لكن السؤال المطروح كان عن قدرة "حزب الله" على الاستمرار في القتال إذا ما طالت الحرب أشهرا عديدة، ولاسيما مع تركيز إسرائيل على استهداف مخازن أسلحته والأهم الإمدادات العسكرية الآتية إليه عبر الأراضي السورية.
تتكئ إسرائيل في حرية حركتها تلك على ضمانة أميركية أعلن بنيامين نتنياهو أنها تشكل بندا رئيسا من بنود الاتفاق بين إسرائيل وأميركا الموازي لاتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل
والحال أن هذه الإمدادات العسكرية تشكل العنوان الرئيس للمرحلة المقبلة، بين محاولة "حزب الله" المحافظة عليها وتأمينها لإعادة بناء نفسه عسكريا كما فعل طيلة العقدين الماضيين، وبين تصميم إسرائيل على منعه من ذلك من خلال ضرب شبكة إمداداته ولاسيما داخل الأراضي السورية وعلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
وهو ما يحيلنا أيضا إلى ما تريده إيران في المرحلة المقبلة وبالتحديد لناحية الرضا والقبول بتقليص نفوذها الإقليمي من خلال الحدّ من ترسانة "حزب الله" وإدخال تعديلات أساسية على حركته السياسية والعسكرية لا في لبنان وحسب بل على مستوى المنطقة، مقابل الوصول إلى اتفاق مع واشنطن حول البرنامج النووي مع ما يستتبعه ذلك من رفع للعقوبات ما يمثل حاجة ملحة لطهران لتعافي اقتصادها المنهك وترميم شرعية نظامها الذي يواجه تحديات داخلية حقيقية دلت عليها نسب المشاركة المتدنية في الانتخابات طيلة المرحلة الماضية.
وما يعزز هذا التوجه الإيراني لا يقتصر وحسب على تطلع طهران إلى أولوياتها السياسية والاقتصادية الداخلية، بل إن إظهار الحرب أن أولوية النخبة الحاكمة في طهران هي المحافظة على النظام الإسلامي وبالتالي عدم الاستعداد لتحمّل خسائر كبرى ومواجهة مخاطر حقيقية من جراء الانخراط الواسع في الحرب، أضعف بل ضرب صدقية خطاب طهران الداعي إلى تحرير فلسطين والاستعداد لدعم "المقاومة" فيها انطلاقا من نظرية "وحدة الساحات" التي أثبتت الحرب فشلها الذريع، ولاسيما مع قبول طهران و"حزب الله" بفك الارتباط بين جبهتي غزة ولبنان. وبالتالي فإنّ إيران ستجد صعوبة قصوى في ترميم خطابها ذاك وهو ما سيستتبع حكما صعوبة في جمع الولاءات لمشروعها الإقليمي وتمتينها.
لذلك من الصعب جدا التصور أن ما كان قبل الحرب لناحية سعي إيران إلى تقوية وتمتين منظومتها الإقليمية سيستمر بعدها وكأن شيئا لم يكن، فالحرب الحالية، بحكم موازين القوى العسكرية التي نتجت عنها والحسابات السياسية لأطرافها بما في ذلك طهران و"حزب الله"، ستفرمل حكما مرحلة الصعود الإيراني في المنطقة بعد حرب العراق وحرب يوليو/تموز 2006.
وبالتالي فإن الصراع حول إمدادات "حزب الله"، "الكاسرة للتوازن"، لا يمكن قراءته وحسب من ناحية التصميم الإسرائيلي لضرب هذه الإمدادات ولبناء بيئة استراتيجية مواتية لتنفيذ ذلك في سوريا من خلال بناء تفاهمات مع روسيا وحتى نظام الأسد- الذي كشفت الحرب أيضا محدودية استعداده للتحرك من ضمن الاستراتيجية الإيرانية- بل إن هذا الصراع سيشهد على الأرجح كوابح ذاتية من جانب إيران في إمداد "حزب الله" بالصواريخ النوعية، أقله بالوتيرة السابقة. كذلك فإن التفاهمات الإيرانية الإقليمية الجديدة برعاية صينية والتي شهدت اندفاعة واضحة خلال الحرب ستشكل في نهاية المطاف عامل ضغط على إيران لتعديل سياساتها الإقليمية.
لكن إلى حين تبلور هذا المشهد المعقد بكامل تفاصيله، في لحظة إقليمية ودولية مأزومة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وصولا إلى تايوان، فإنه يتعين متابعة كيف ستترجم إسرائيل مبدأ حرية الحركة ضدّ أهداف لـ"حزب الله" في حال خرق الاتفاق من وجهة النظر الإسرائيلية، وهي حركة ستتركز أساسا، كما سبق الذكر، ضدّ إمدادات "حزب الله" من سوريا. ولم يكن قليل الدلالة قصف إسرائيل فجر الأربعاء للمعابر بين لبنان وسوريا في إشارة واضحة إلى أهدافها في منع تدفق الأسلحة إلى "حزب الله" عبر الأراضي السورية.
لكن المهم أيضا هنا أن إسرائيل تتكئ في حرية حركتها تلك على ضمانة أميركية أعلن بنيامين نتنياهو أنها تشكل بندا رئيسا من بنود الاتفاق بين إسرائيل وأميركا الموازي لاتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل. وبالتالي فإنّ حدود حرية الحركة تلك ستكون محكومة بالهامش المعطى لها من قبل واشنطن، وهذا يخضع لاستراتيجية إدارة ترمب في التعامل مع مسأئل المنطقة خلال المرحلة المقبلة، وفي مقدمتها مسألة إيران. لكن وإلى حين دخول ترمب البيت الأبيض، فإن حرية الحركة تلك ستكون خاضعة لحاسبات متحركة ومعقدة، لكل من إسرائيل وإيران وأميركا.
أيا يكن من أمر فإنّ تمسك "حزب الله" بسرديته للصراع مع إسرائيل وكأن شيئا لم يكن هو سبب كاف للتشاؤم في الوضع اللبناني عموما
في مستوى أقل وبالتحديد في ما يتصل بالوضع الداخلي اللبناني ثمة أسئلة كثيرة ومؤشرات متضاربة بشأن المرحلة المقبلة، ولاسيما لجهة كيفية تصرف "حزب الله" وهو العائد من الحرب منهكا ولكن رافعا شارة النصر وفق معاييره الخاصة بمعزل عن أي إطار إجماعي لبناني، تماما كما دخل الحرب منذ الثامن أكتوبر/تشرين الأول 2023 بقرار منفرد وخارج أي اجماع لبناني. حتى الآن ورغم كلام الأمين العام الجديد لـ"الحزب" نعيم قاسم عن حركة "الحزب" تحت سقف "اتفاق الطائف"، وهو ما فسّر على أنه رغبة في المرونة والاستيعاب وفي التسوية السياسية بدءا من انتخاب رئيس للجمهورية، فإن كلام رئيس كتلة "حزب الله" النيابية محمد رعد عن التمسك بمعادلة "الجيش والشعب والمقاومة" والتي لا تلقى أدنى إجماع لبناني، تؤشر إلى استمرار مكابرة "الحزب" على مسألة الإجماع في ما يخص إدارة الصراع مع إسرائيل. وهذا سبب كاف لاستفحال الأزمة السياسية، ولمنع قيام أي شكل من أشكال الدولة الفعلية، أي استمرار الوضع على ما كان عليه قبل الحرب، دولة مشلولة ومجتمع مفكك تتقلص أكثر فأكثر الجوامع بينه. والأهم أن كلام رعد يؤشر إلى أن "حزب الله" غير مستعد لإجراء أي مراجعة لتجربة الحرب وما استتبعته من ويلات على لبنان ومن خسائر في منظومة "الحزب" العسكرية والسياسية وبالتحديد لناحية انهيار "توازن الردع" والذي يطرح أسئلة عن جدوى تحول "حزب الله" إلى جيش مواز يتخطى مفهوم المقاومة التقليدية، بعدما برهنت الحرب في غزة ولبنان على سقوط نظرية "جيش مقابل جيش"، وضرورة البحث عن أدوات جديدة ليست عسكرية وحسب بل وليست عسكرية بالضرورة، للوقوف بوجه السياسات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين أولا وضد لبنان في حال الاعتداء عليه. أما القول بأن "المقاومة" هي لحماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية فقد أصبح يستدعي المراجعة بحكم الوقائع وليس الموقف السياسي من "حزب الله".
لكن أيا يكن من أمر فإنّ تمسك "حزب الله" بسرديته للصراع، أي منعه أيا كان من تقديم سرديته الخاصة ولو من باب الوقوف ضد السياسات الإسرائيلية، إلا إذا كانت مسنجمة مع سرديته، هو سبب كاف للتشاؤم في الوضع اللبناني عموما، لأن هذه السردية ليست سوى غطاء لهيمنة داخلية لا تنتهي بضعف "الحزب" مقابل إسرائيل، بل على العكس فإن هذا الضعف يدفعه إلى تعميق هيمنته في الواقع اللبناني مستفيدا من هوامش إقليمية ودولية وبالتحديد لناحية التوافقات المحتملة بين أميركا وإيران.
وختاما تجدر الإشارة إلى إنّ حاجة إيران إلى أميركا في المرحلة المقبلة ستتيح لإسرائيل إمكانية ترميم وضعها الداخلي المتأذي حكما بفعل الحرب، والاتجاه إلى مشهد سياسي جديد بعيد على الأرجح من نتنياهو الذي يصبح أكثر فأكثر عبئا داخليا ودوليا، بينما سيتعمق الانقسام اللبناني أكثر فأكثر. وهذا لوحده كاف لإعادة تعريف معايير الانتصار والهزيمة، داخليا وإقليميا.