هذه حكاية من صميم الحياة الشعبية السورية ، أو إذا شئتم الحلبية لا أعلم إذا كانت شائعة في غير حلب ، ولكنها في مدينتي منتشرة جدا على ألسنة من أدركت من الأجيال . سمعتها لأول مرة وأنا طفل دون العاشرة ، في مجالس الأعياد التي يحلو فيها السمر ، ويحفظ فيها الصغار عن الكبار ..ثم ما زلت أسمع اسم " بكري مصطفى " يضرب به المثل كلما ضاق على الناس مقام عن الشرح والتفصيل .
واسم " بكري مصطفى " الوارد في هذه الحكاية اسم نصي من واقعه التاريخي ، ولا أعلم ما هو حجم المصداقية أو الواقعية فيه، هل هو اسم رمزي صرف ، أو ذو نصيب من الواقع تم تحويره وتضخيمه .
المهم أن اسم بكري مصطفى الوارد في حكايتنا الحلبية ليس له علاقة بأي مسمى سياسي أو إعلامي حقيقي ، وهو لا يعرض بأي شخصية على خلفية التشابه بالأسماء ، سواء كان الاسم مطابقا أو مقاربا أو مقلوبا . فشخصية بكري مصطفى التي نتحدث عنها هي حسب معطى الحكاية شخصية مصرية عاشت في مصر أيام الملكية ، وكان لها سلوكها الذي ميز المرحلة التي عاشت هذه الشخصية فيها . والذي يدفعني اليوم لاستدعائها هو أنها أنموذجية إلى حد كبير في تمثيل مواقف الكثير من " البكريين " الذين يملؤون حولنا الفضاء الوطني السوري ضجيجا وعجيجا ..
وزعموا أن بكري مصطفى كان صاحب دكان بقالة يقع على الطريق العام المؤدي لقصر عابدين . وأنه في ضحوة أحد الأيام لمح بكري مصطفى مظاهرة ضخمة في طريقها إلى قصر عابدين . وكان بكري متضايقا جدا من قلة الزبائن وركود الحال . فما كان منه إلا أرخى بوابة دكانه الخشبية ، التي تنزل من فوق فتلتقي مع النصفية التي في الأسفل ، وتحكم الاثنتين معا بعارضة خشبية كبيرة ، وذلك قبل انتشار " الدرابات المعدنية" . أرخى بكري البوابة العليا لبقالته ، وحمل على كتفيه العارضة الخشبية التي هي أثقل مما يقال لها " خشبة الصليب " التي تعرض علينا على شاشة السينما . وهذه معترضة معرفية نحن " المسلمين " نختلف مع النصارى على شخص المصلوب ، ولا نختلف معهم على جريمة الصلب . وأنها وقعت بالقسوة التي يشار إليها ولكن على الشبيه كما نؤمن نحن .
حمل بكري مصطفى عارضة دكانه الخشبية على كتفيه وانطلق يقفز ببهلوانية عجيبة في مقدمة المتظاهرين . ويهتف بصوت جهوري أجش : يسقط .. يسقط .. يعيش .. يعيش حتى بدا وكأنه أم المقتول في تشييع قتيل .
ووصلت المظاهرة إلى قصر عابدين ، وأحدقت ببوابته في عصر كانت الشرطة المصرية والسورية قد ورثت من الدولة العثمانية عادة الاعتراف بالقانون ، واحترام الإنسان فشكلت الشرطة حاجزا أمنيا بين القصر والمتظاهرين وتركت لهم حرية أن يطولوا وأن يقصروا وأن يحيوا وأن يسقّطوا ..
قالوا وكان من العادة أن يحاط القصر قبل التظاهر بالمظاهرة وأسبابها وأهداف القائمين عليها ؛ ولكن هذه المظاهرة قد فاجأت ناظر القصر والقائمين عليه ، فلم يعرفوا عن المظاهرة وأسبابها شيئا . وطلب ناظر القصر من رئيس سرية الحراسة أن يأتيه بشخص من قادة المتظاهرين ليفهم منه ويستمع إليه .
قالوا واقترب قائد سرية الحراسة من المتظاهرين فوجد السي " بكري " أقرب المتظاهرين إليه . وأكثرهم حراكا وضجيجا وعجيجا .. فأمسكه من كمه وقال له كلم ناظر القصر ..
ألقى مصطفى بكري الخشبة من يده ، ثم تحرك مسرعا نحو " منصة " اللقاء مع ناظر القصر . ولما وصل إلى المنصة ، رحب بها ناظر القصر بابتسامة دبلوماسية عريضة ، مما لا يستطيع مثلها بشار الجعفري ، وسأله هل أستطيع أن أعرف من جنابكم سبب هذه المظاهرة ..
قالوا : وأرتج على السي بكري فتنحنح ، وبلع ريقه ، وطلب كأس ماء فوافوه به فشرب وتروى ، كل هذا ليكسب الوقت فيعلم ماذا يقول ، وهو مع كل جرأته وبلاهته كان يحب أن يفكر قبل أن يقول ..!!
قالوا ولما عجز بكري مصطفى عن تذكر أي سبب حقيقي للمظاهرة أو معرفته ، حك رأسه ثم قال لناظر القصر : صحيح سيدي :
إن قسطنطين الخمار في حينا ماتت زوجته وهو منذ خمسة أيام في عزاء ونحن جفت حلوقنا بسبب هذا العزاء ..
قال ناظر القصر : كرمت الليلة يفتح قسطنطين الخمار خمارته فتشرب حتى تروى..
مليون شهيد سوري يهتفون : ما لنا غيرك يا الله ..
وبكري مصطفى السوري ما زال يكتب : عن قسطنطين الخمار على طريقة حنا السكران ..
بكري مصطفى السوري ليس واحد إنه جيل من الناس ما زالوا أمام أعيننا يتواثبون..
إذا سمعتموهم أو قرأتموهم يتحدثون عن الخمار قسطنطين
فاعرفوهم ..
لندن : 28/ ربيع الأول / 1441
26/ 11/ 2019
____________
*مدير مركز الشرق العربي