الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المتصارعون في الحلبة الدبلوماسية

المتصارعون في الحلبة الدبلوماسية

19.02.2017
سلام الكواكبي


جيرون
السبت 18/2/2017
في خضمّ أيامنا الجارية، تتفاعل المقتلة السورية دبلوماسيًا بعد أن وصلت إلى مستوى غير مسبوق من العنف المعلن وغير المعلن. وإذ لا تتوقف المصادر الحقوقية الدولية الموثوقة عن إماطة اللثام عن فظائع ارتكبت حيال المعتقلين السياسيين، من خلال الإعدامات شبه الجماعية، كما في تقرير منظمة العفو الدولية الأخير، وتلك التي ارتكبت بحق المدنيين قصفًا بأسلحة كيماوية، كما في تقرير هيومان واتش الأخير، فإن النشاط الدبلوماسي يتسارع مع اقتراب عقد “مفاوضات” جنيف في نهاية هذا الشهر. ولكن، عدا دور المبعوث الدولي دي مستورا، فمن من الفاعلين الدبلوماسيين هو الأنشط في هذا الملف؟ وما أبرز الدبلوماسيات العاملات على المسألة السورية، بتشعباتها وحمولاتها الدينية والمذهبية والمطلبية والجيو – استراتيجية؟
تحملنا الملاحظة على أن نجزم، أو نكاد، بأنْ لا حسّ يُذكر للدبلوماسية الأوروبية، إلا في ما يتعلق بتقدير حجم المساهمات المقبلة ماليًا في عملية إعادة الإعمار، إن توقف الموت. فأوروبا لها تجربة سابقة في الجمود السياسي المترافق مع نشاط مالي هائل في تمويل إزالة الخراب، بعد توقف القتال، ولو لمدة محددة. وتعد حالة قطاع غزّة المدمّر مرارًا من القوات الإسرائيلية خير مثال على هذا “الاقتصار” في النشاط الأوروبي. إذ لا تلعب القارة العجوز أي دور سياسي يُذكر، ولكن عليها -في المقابل- ان تدفع دائما تكاليف إعادة الاعمار؛ ما حوّل مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى نوع من أنواع المنظمات غير الحكومية الضخمة، أو المؤسسات التنموية/ المالية الدولية؛ ليقتصر اهتمامها على العناية بالعمل الإنساني، والنهوض دائمًا بتعمير ما تخربه إسرائيل مرارًا وتكرارًا. والأنكى من ذلك، أنه وبعد كل دمار، لا تتجرأ أوروبا على رفع صوتها عاليًا أمام عبثيته؛ لتجد نفسها مُقادة مجددًا إلى مد اليد إلى الجيب، وإخراج المحفظة، والدفع المرفق مع صمت مشهود له بالغثاثة. وعلى الرغم من تأكيد بعض الملمين بالملف السوري في بروكسل أنهم يلعبون دورًا خارج الأضواء، إلا أن المعطيات الحسيّة تُشير إلى شبه استحالة إدارة ملف بحجم السوري من سياسة خارجية موحّدة شكلًا، وغير موحدة مضمونًا وفعليًا لـ 28 دولة.
من جهتها، وبعد اللامبالاة الأوبامية المَرَضيّة، تتميّز الدبلوماسية الأميركية الجديدة بحمل ثقيلٍ وكثيف اللزوجة يتمثّل بنجاح دونالد ترامب الانتخابي، وما رافقه من تخبّطات متنوعة، داخليًا وخارجيًا. وقد تمخّض عن هذا كله ضبابية في الرؤى، متوسطة الأجل في ما يتعلق بالملفات الأساسية، وفي تعيين مسؤولي إدارته ممن سيتحملون مسؤولية معالجتها. وبالنسبة إلى سورية، فعلى الرغم من إعجاب كثير من حكام العرب بأداء ترامب “التسلطي”، ومواقفه الحمائية، خصوصًا ضد مواطنيهم، إلا أنه لا يعيرهم انتباهًا ملموسًا إلا فيما يتعلّق بأموال بعضهم النفطية. في حين، تتركّز المخاوف الترامبية على الخطر الإيراني المرتبط اساسًا بالمصالح الإسرائيلية، إذ إن الدفاع عنها هو المحور الأكثر وضوحًا في مطبخ السياسة الخارجية الأميركية، كما سبق وأن التزمت به الإدارات المختلفة، ديمقراطية أو جمهورية. صرامة الموقف من إيران -هذه- تُطمئن دولًا إقليمية حصرت اهتمامها في الشأن السوري، بمتلازمة مقارعة امتداد النفوذ الإيراني في المنطقة، وبعيدًا تمامًا عن تطلعات أهل سورية الذين يُعاني معظمهم من ازدواجية العبث القائمة على أرضهم، تلك التي تقتنص حيواتهم وتدمّر مستقبلهم.
أما الدبلوماسيات العربية، فيكاد المرء لا يجد ما يكتبه فيها سوى تحول معظمها إلى سرابٍ لا يُكاد يظهر حتى في عمق الصحراء. منها من يُمالق أصحاب القرار الإقليميين والدوليين، ومنها من ينتظر يرى، ومنها من يدعم المقتلة بوقوفه، بصراحة أو بمواربة، إلى جانب الفاعل الأساسي فيها.
تتفاعل -إذن- دبلوماسيات إيرانية وتركية وروسية؛ للعمل على هذا الملف في ظل الغياب، أو الحياد أو الضعف الهيكلي لسواها.
روسيًا، يبدو أن الوضوح في الموقف الداعم للنظام راسخ منذ اليوم الأول. وروسيا تحافظ من خلاله على نافذة سيطرة دولية هائلة الحجم، تساعدها في تحقيق عودة مظفّرة إلى الإمساك بمفاتيح السياسات الدولية التي كادت أن تصبح أحادية القطب، بعد تهميشها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، في تسعينيات القرن المنصرم. وعلى الرغم من اختلاف طرق التعبير عن هذا الموقف، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، إلا أنه لا ازدواجية فيه، خطابًا وممارسة.  وربما غفل عنه كثيرون من المعارضة السورية التي تعاملت بخفّة وضحالة مع هذا الوضوح “الدموي”. وإذ راهن بعضها على دعمٍ وهمي من قوى مالية إقليمية وعسكرية دولية، سبق أن أشرنا إلى ممارساتها وأدائها وأدواتها. وتدير روسيا اليوم المفاوضات، وتضع جداولها الزمنية مثلما تضع مضموناتها الإجرائية، وحتى الدستورية. التعامل معها الحالي، في ظل غياب رؤية سياسية ناضجة تتفاعل بواقعية، سيؤدي بها إلى مزيد من التمدد والفرض.
إيرانيًا، تبدو المقارعة الدبلوماسية أشد وطأة؛ بسبب تمثيل دولة تعزّز فيها النظام من خلال المواجهة وتأجيج العداء مع الآخر، مذهبيًا حينًا وسياسيًا في أحيان. ويبدو -أيضًا- أن واقعية دبلوماسية دولة أوتوقراطية لا ترتبط بمفهومات العلاقات الدولية الحديثة. كما أن الصراع المذهبي، الحقيقي او المُتخيّل، الذي تخوض فيه مع جيرانها يُملي الجزء الأكبر من خطواتها ويُحدد لها مساراتها. الخلاف في الأهداف وفي الوسائل وفي المسارات يُميّزها عن الدبلوماسية الروسية، ويتبدّى بوضوح شبه استحالة فتح قنوات مفاوضات معها إلا في الحدود الدنيا. وهي تسمح بأن تكون ورقة ضغط يُخرجها نظام دمشق متى شعر بأن الضغط الروسي في سبيل إيجاد حل سياسي صار مزعجًا. الطرفان: الروسي والإيراني يعيان هذه اللعبة، وإن لم يملكا سوية أو فرادًا مفاتيحها كاملة.
تبقى الدبلوماسية التركية التي صحّح أحد مسؤوليها القول الذي يُشير الى حصول نصف انعطافة في مسارها، بأن شدّد على الانعطافة كاملة (…)، فهي تُعيد رسم الأولويات منذ انقلاب الصيف الماضي. وعلى الرغم من استقبالها الواسع للمعارضة السياسية والعسكرية، إلا أنها لا تعرها اهتمامًا حواريًا، إلا فيما يخصّ الإملاءات الإجرائية. وصار الموضوع الأمني، بما فيه الأمن الشخصي للقيادة السياسية، على رأس القائمة؛ لتليه المسألة الكردية والملف الاقتصادي. ومن سخرية القدر أن يتوجّه أخيّرًا أحد مسؤوليها إلى معارضين سوريين باللوم على “عسكرة” و”أسلمة” الثورة و”تطييفها”، وكأن المتحدث يتكلم أمام المرآة.
جنيف -إذن- على الأبواب، فهل سيخرج من قمقم المعارضة السورية من يتمكن من فن التفاوض ومن فهم عقلية الأطراف الفاعلة وأولوياتها؛ لينقذ ما يمكن إنقاذه من مطالب عادلة ومشروعة؟