الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإنسانية التي لا تفاخر بنفسها: قصة من الشتات السوري

الإنسانية التي لا تفاخر بنفسها: قصة من الشتات السوري

08.02.2018
ناصر الرباط


الحياة
الاربعاء 7/2/2018
هذه قصة حقيقية، أثبتها كما رواها لي صاحبها، حورت من وقائعها حماية لهوية شخصياتها، وصغتها بعبارتي مضيفاً إليها تعليقات قليلة فقط.
شاب سوري في نهاية سنوات مراهقته من حلب، قرر والده، سيد العائلة، مغادرة مدينته مع تحول الحراك الشعبي فيها إلى صراع مسلح في نهاية ٢٠١٣. أخذ الوالد عائلته إلى عمان وأسس هناك عملاً جديداً في المهنة التي يتقنها واستقر مع أسرته في بيت اشتراه. الأب قاس ومحافظ ومتمسك بسيادته، والأم ضعيفة، خاضعة، ومسايرة له في كل ما يطلبه. حتى الآن لا شيء جديداً في القصة. لكن الفتى اليافع اكتشف أنه مثلي جنسياً، وتهور، ربما بسبب من دلال الأهل، وأعلن لوالديه أنه مثلي. لم تكن استجابة والده غاضبة فقط، بل عنيفة عنفاً مؤذياً. انهال عليه ضرباً ثم جلده بزناره وحبسه في حمام البيت ومنع أي فرد من أفراد العائلة من الكلام معه. كان هو الوحيد الذي يدخل إليه وجبة الطعام الوحيدة ليلاً عندما يعود من عمله. ويشتمه ويلعنه ويعيد ضربه، خصوصاً أن الفتى جريء، وأنه قرر أنه لن يتراجع عن قناعته أو يساير والده ويعلن توبته. المؤلم في الأمر أن الفتى، الذي كان يعاقب لمثليته من أب غضوب وجبار، لم يكن قد مارس الجنس. كل ما فعله هو أنه قرر أنه مثلي وتصرف شكلاً وموضوعاً على هذا الأساس.
تمكن الولد يوماً من الفرار من محبسه لأن أمه العطوفة أدخلت له أكلة يحبها في غياب السيد الوالد، فزاغ منها وهرب من البيت. تاه في شوارع عمان التي لا يعرفها جيداً. أدركه المساء ولم يعرف ما يفعله، وهو الذي لم يقاس التشرد والمبيت وحيداً. نام في ظل شجرة في حديقة. وقام مع مطلع الشمس مقرراً ألا يعود لأهله. هنا بدأت ملحمته، التي لم يروها لي بتفاصيلها كاملة. ولكنه عاد ودخل سورية من دون أي أوراق ثبوتية. توقف في حلب أياماً، ربما ليصلح أوضاعه، وخرج منها إلى تركيا، التي هام فيها إلى أن وصل إلى إسطنبول بعد معاناة شديدة وتعرضه للكثير من التحرشات، وربما الاغتصاب، ولو أنه لم يرد الكلام مباشرة عن هذا الموضوع. في إسطنبول التقطه وكيل لجمعية دينية في قهوة يرتادها السوريون. أخذه إلى مسجد الجمعية حيث التقى شيخ الجماعة الذي رحب به بحبور ولم يسأله عن ماضيه، بل ضمه إلى مجموعة من الشبان السوريين الذين بدا عليهم كلهم أنهم هاربون من واقعهم. عاش معهم لمدة لا بأس بها ولكنه عاف تدخل الشيخ الشخصي في كل شاردة وواردة في حياته وإدانته لكل أنواع "الموبقات" بما فيها المثلية في كل خطاباته، ومتطلباته الكثيرة من الشباب الذين وجدوا أنفسهم يعملون خداماً في هذه الجمعية مقابل طعامهم ومبيتهم. حتى أتى اليوم الذي راوده الشيخ فيه عن نفسه فهرب منه ومن الجمعية وقرر عبور البحر كآلاف اللاجئين السوريين إلى اليونان ومنها إلى أوروبا الغربية، أرض أحلام الحرية.
لا أعرف تماماً كيف تمكن هذا الشاب من الوصول إلى إنكلترا، وبالتحديد إلى مدينة صغيرة في شمالها بعد عبوره آلاف الكيلومترات من دون جواز سفر أو أي لغة غير العربية. أخبرني أنه عانى كثيراً من دون أن يدخل في التفاصيل، ولو أنه ألمح إلى أن الكثير من المعاناة كان جنسي الطابع. وصل إلى شمال إنكلترا ووجد نفسه في منزل موقت تديره جمعية كنسية بمساعدة من الحكومة. قضى هناك وقتاً لا بأس به وعمل طباخاً قدم بعض الأكلات الحلبية التي أتقن طبخها في جمعية إسطنبول. ثم أتى اليوم الذي أخبره مديره أنهم سيضطرون لإيجاد مكان إقامة دائم له مع عائلة لأن المعونة الحكومية التي كان يتلقاها انتهت مدتها. هكذا وجد فتانا نفسه على متن حافلة أخذته إلى أكسفورد. نزل من الحافلة مع حقيبته الصغيرة التي تحوي كل ما يملك: جينزاً ثانياً وبعض الملابس الداخلية. وجد بانتظاره سيدة في الخمسينات، أنيقة ومبتسمة. قدمت له نفسها باسم غريب على مسمعه، اسم توراتي قديم، وأخبرته بأنه سيقيم منذ اليوم مع عائلتها المكونة منها وزوجها الأستاذ المرموق في أكسفورد صاحب المؤلفات الكثيرة عن تاريخ أوروبا، وابنتهما ذات السبعة عشر عاماً. وقد أخبرتني السيدة، التي هي بالحقيقة زوجة صديقي الأستاذ، في ما بعد، أنها كانت متوجسة من شاب في نهاية مراهقته يقيم في بيتها مع ابنتها، وأنها ارتاحت عندما تدفق صاحبنا بالكلام بالإنكليزية التي كان قد تعلم منها بعض الكلمات والإشارات وأخبرها أنه مثلي. طمأنته بأنها لا تحكم عليه إطلاقاً من خلال هويته الجنسية على رغم أنها يهودية أورثوذكسية محافظة، وأنها وفقاً لتعاليم ديانتها لا تقر بالمثلية، ولكنها تحترم خيار الناس في حياتهم.
وهذا ما كان. أقام الشاب مع الزوجين لأكثر من ١٥ شهراً حتى الآن. عمل في مطعم وبدأ بدراسة اللغة ثم المواد العلمية الأخرى، وهو الآن يستعد لأخذ امتحان المعادلة الذي سيسمح له بالتقدم للجامعة لكي يدرس الرياضيات. قابلته في زيارتي لأكسفورد عندما دعانا راعيه لعشاء السبت اليهودي. تحلقنا حول المائدة، يصلي الأستاذ وزوجته، ونحن ننظر. ثم يقدمان لنا عشاءً رائعاً دوماً. الشاب الآن "ابن" حقيقي للعائلة في مكانته بالبيت ووده لهما وودهما له وصداقته لابنتهما. ولكنه ما زال حلبياً ومسلماً ملتزماً، يصلي الأوقات الخمسة ولا يشرب ولا يأكل اللحم بتاتاً. وهما يحترمان ذلك كله، ولا يتدخلان في حياته الخاصة إطلاقاً. يدخل ويخرج كما يشاء ويحادث من يشاء ويصاحب من يشاء. لديهم قواعد في البيت يحترمها وما عدا ذلك فهو حر. وهما يحبانه بالفعل ويعتبرانه فرداً من العائلة. ولكنهما مدركان تماماً أنه سيغادرهما ليكوّن لنفسه حياته قريباً جداً. كل ما فعلاه، من دون لغط أو ضجيج أو مفاخرة، أنهما انتشلا لاجئاً سورياً من وهدة الضياع والوحدة وأمّنا له بيتاً وحناناً وتفهماً. وهما لا يريان في هذا أي غرابة: زوجان يهوديان محافظان يساعدان شاباً سورياً مسلماً ومثلياً في إنشاء حياته من دون أي مقابل سوى إحساسهما بأنهما في ذلك يعبران عن قيمهما الإنسانية بصمت، من خلال ممارستها يومياً بتلقائية وعفوية واقتناع.