الرئيسة \  مشاركات  \  الذرّاتُ البشرية ، رَمليةً ، وغُضارية : تفاعُلها في مجتمعاتها ، تأثّراً وتأثيراً!

الذرّاتُ البشرية ، رَمليةً ، وغُضارية : تفاعُلها في مجتمعاتها ، تأثّراً وتأثيراً!

26.06.2019
عبدالله عيسى السلامة




قال تعالى : (الله أعلمُ حيث يجعل رسالته) .
قال مفكّر أوروبّي ، يخاطب مفكّراً عربياً : نحن الأوروبّيين ، الفرد منّا ، كذرّة الغُضار؛ هشّ بنفسه ، شديد التماسك ، مع غيره .. وأنتم العرب ، كذرّات الرمل ؛ كلّ ذرّة ، قويّة بنفسها ، ضعيفة التماسك ، مع غيرها !
وقد ردّد هذا الكلام ، أحد كبار المسؤولين العرب ، المثقّفين ثقافة عالية ! لكنه ليس قبَلياً ، ولا يعرف شيئاً كثيراً ، عن نفسية الفرد القبَلي !
الفرد القبلي العربي ، شديد الاعتداد بذاته ، داخل قبيلته .. وشديد الذوبان ، في القبيلة ، نفسياً ؛ إذ هي موغلة ، في أعماقه ، يفكّر ويحلم ، من خلالها، ومن خلال اهتمامها به ، ونظرتها إليه! إنه يجود بماله وبنفسه ، ليَسمع كلمات الإعجاب به، تنطلق من أفواه قبيلته، ويرى نظرات الإعجاب به ، تنهال عليه ، من عيون رجال القبيلة ونسائها! وهو يتحدّى العالم ، بما لديه من أنفة وإباء، واعتداد بذاته، بل يتحدّى زعيم قبيلته ، إذا أحسّ أنه يريد ضيماً ، به ، أو بأسرته!
الشاعر الجاهلي الشابّ ، طرفة بن العبد ، يقول:
إذا القومُ قالوا : مَن فتىً ؟ خِلتُ أنّني     عُنِيتُ ؛ فلمْ أكسَلْ ، ولمْ أتبلّدِ!
والشاعر أبو ذؤيب الهذلي ، يقول ، وهو في حالة تفجّع عجيبة ، على أولاده السبعة ، الذين هلكوا بالطاعون ، جميعاً ، في عام واحد: 
وتجلّدي للشامتين ، أريهمُ      أنّي لِرَيب الدهر لا أتضَعضَعُ !
أمّا على مستوى الفخر بالقبيلة ، التي يندغم بها الفرد ، فيكون ، وإيّاها ، شيئاً واحداً، فيقول الشاعر السموأل:
تُعيّرنا أنّا قليلٌ عَديدُنا    فقلتُ لها: إنّ الكرامَ قليلُ
وما ضرّنا أنّا قليلٌ ، وجارُنا   عزيزٌ ، وجارُ الأكثرينَ ذليلُ!
ويقول عمرو بن كلثوم التغلبي ، في قصيدته المشهورة ، التي يتحدّى فيها ، الملك عَمرَو بن هند، ويفخر فيها بقبيلته ، التي هو جزء منها:
أبا هندٍ ، فلا تَعجَلْ علينا      وأمْهِلنــا ؛ نخبّرك اليَقينا
بأنّا نُوردُ الراياتِ بِيضـاً     ونُصدرهنّ حُمراً، قد رَوِينا!
ويقول الشاعر الجاهلي ، الحارث بن وَعلة ، معتذراً لامرأة ، اسمها أميمة ، كانت تحضّه ، على الانتقام لأخيه ، الذي قتلته قبيلته :
قوميْ همُ قَتلوا، أمَيمَ ، أخي      فإذا رمَيتُ أصابَني سَــهْمي
ولئنْ عَفَوتُ ، لأعفونْ جَلَلاً     ولئنْ سَطَوتُ ، لأوهِنَنْ عَظمي
ويقول الفرزدق ، في الفخر بآبائه ، وأقاربه ضمن القبيلة ، تحدّياً لجرير:
أولئك آبائي ، فجئني بمثلهم      إذا جمعتْنا، ياجريرُ، المَجامعُ !
وهكذا تظهر، قوّة ارتباط الفرد بقبيلته ، وذوبانُه فيها ، برغم إحساسه الهائل ، بتفرّده ، وتحدّيه لمَن يمسّ كرامته ، بصفته فرداً ، ضمن تجمّع بشري ، اسمه : القبيلة !
وقد أجاد قادة الأمّة العظماء ، توظيفَ النزعة الفردية ، في الفرد، وتوظيف النزعة القبلية ، في القبيلة، في مراحلَ كثيرة ، من تاريخ الأمّة ، على مستوى الصراعات الحربية ، وعلى مستوى القيَم الاجتماعية ! كما استغلّ القادة الفاسدون ، النزعتين ، فوظّفوهما توظيفاً سيّئاً ، مؤذياً للفرد وقبيلته ، قديماً وحديثاً.. وإن كان فيه نفع مرحلي ، لبعض الحكّام !
وحين لا تجد هذه النزعات ، مَن يوظّفها في الخير، كثيراً ما توظّف نفسَها ، في الشرّ؛ فيغزو أبناء القبيلة ، بعضُهم بعضاً ، كما قال أحد الشعراء:
وأحياناً، على بَكرٍ، أخينا       إذا ما لمْ نَجدْ إلاّ أخانا!